• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

مع الله بعيداً عن القلق

أسرة البلاغ

مع الله بعيداً عن القلق

قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد/28).

مشكلة العصر ومحنة الإنسان في عالم اليوم، وأشدّ أمراض البشرية خطراً على سعادة الفرد والجماعة هي مشكلة القلق.

    القلق الذي يؤرّق آماقك فلا تنام، والقلق الذي يربك تفكيرك فلا تستطيع تنظيم أفكارك أو التصرّف بحكمة وانضباط، والقلق الذي يعيش سهاماً تُمزِّق أعماق وجدانك فلا تشعر بالراحة والاستقرار.

والقلق الذي يشدّ أعصابك فيتركك متشائماً متوتراً تثور لأتفه الأسباب، والقلق الذي يملأ حياتك سأماً ومرارة فينغّص عليك عيشك، فلا يسرّك سرورها، ولا يحلو لك حلو الطعام أو الشراب أو مباهج الحياة.

    القلق الذي لا يكتفي بكونه مرضاً نفسياً يذهب بصحّتك النفسية، بل ويتحوّل إلى مرض عضوي يربك أجهزة الجسم وأعضاء البدن.

    لقد تحوّل القلق إلى مشكلة مرضية مستعصية على الطب المادي والحضارة المادية.

    إنّ الإحصاءات الطبية تسجِّل لنا رقماً مرعباً، تسجِّل أنّ (80%) من الأمراض الجسدية في بعض البلدان (كالولايات المتحدة الأمريكية) سببها الأمراض النفسية المتأتِّي معظمها من القلق.

    فما القلق؟ ولماذا القلق؟ وكيف ينشأ القلق؟ وما هي أعراضه؟ وما هو علاجه؟

    تلك أسئلة نواجهها في معرض تعريفنا بالقلق، ومحاولة التغلّب عليه، فلنحاول إذن الإجابة عن هذه الأسئلة كما وردت في دراسات علماء النفس، وفي ضوء معالجات العقيدة والفكر والتشريع الإسلامي.

  ما هو القلق؟  

    القلق كما يقول علماء النفس: هو مرض نفسي، وهذا المرض عبارة عن حالة إنذار للتهيؤ للخطر المحتمل بعد أن تعرّض الإنسان لحالة خوف سابقة، فهو كما عُرِّف: "انفعال مركّب من الخوف، وتوقّع الشر والخطر والعقاب"[1].

    كما عُرِّف بأنّه: "حالة من الخوف الغامض الشديد الذي يتملّك الإنسان، ويسبب له كثيراً من الكدر والضيق والألم"[2].

    وهو رد فعل الجسم الفسيولوجي على تلك المخاوف والتوقّعات المخيفة، لذا تظهر آثاره الفسيولوجية على الجسم، ويتحوّل إلى أمراض جسدية في كثير من الحالات، كالأمراض العصبية، وأمراض الجهاز الهضمي، وأمراض الصداع والحساسية، وأمراض القلب، والشعور بالإعياء واضطراب ضغط الدم ونسبة السكّر والتنفّس... إلخ.

    وهكذا يقرِّر علماء النفس أنّ الخوف هو مادّة القلق، وأنّ القلق سبب لفقدان الصحّة النفسية والجسدية.

    كما يقرِّرون أنّ في كلِّ نفس خوفاً، لذا فانّ في كلِّ نفس قلقاً، ولكن بدرجات متفاوتة.

    فمن الخوف ما هو بسيط، فلا ينتج إلّا قلقاً بسيطاً، دون مستوى التأثير على الصحّة النفسية، أو دون أن يتحوّل إلى خطر على وضع الإنسان النفسي والجسمي.

    ومنه ما هو معقّد وخطر في حجمه وعمقه وقيمته في نفس المصاب، لذا فهو يترك قلقاً خطيراً وحالة مرضيّة تحيل الحياة إلى شقاء وعذاب نفسي.

    والقلق هو ردّ فعل نفسي وجسمي على الشعور بالخوف، وهو موقف دفاعي لا شعوري ضدّ الخوف المتوقّع.

 

     فالقلق هو خوف من خطر متوقّع الحدوث، خوف من المجهول، خوف لا يجد التعبير عن نفسه ولا يجد المصاب مجالاً للتخلّص منه، لذا يبقى مكبوتاً في أعماق النفس فيتحوّل إلى قلق.

    فهو إذن حالة مرضيّة تفقد الإنسان الطمأنينة والاستقرار وتوازن الشخصية.

  أقسام القلق

    ويقسِّم علماء النفس القلق إلى قسمين هما:

    1- القلق الموضوعي: "وهو خوف من خطر خارجي معروف، كالخوف من حيوان مفترس، أو من الحريق، أو من الغرق، وهذا النوع من الخوف أمر مفهوم ومعقول، فالإنسان عادة ما يخاف من الأخطار الخارجية التي تهدِّد حياته"[3]. 

2- القلق العصابي: "وهو خوف غامض غير مفهوم، ولا يستطيع الشخص الذي يشعر به أن يعرف سببه"[4]

وهذا اللون من القلق هو خوف يستجيب لأي مثير يتصوّره ذلك الإنسان.     لماذا القلق ؟  

    يتناول علماء النفس والمحلِّلون النفسانيون حالة القلق المرضية بالدراسة والتحليل فيرجعون القلق إلى أسباب عديدة أهمّها:

    - الخوف من المجهول.

    - الشعور بالكراهيّة والعدوان ضدّ الآخرين.

    - الإحساس بالعجز عن مواجهة المثيرات.

    - الإحساس بالعجز عن إشباع الحاجة.

    - الخوف من العقاب... إلخ.

    تلك أبرز الأسباب التي تولِّد القلق في النفس، فتجعل الإنسان قلقاً متوتراً متشائماً متردِّداً، يسيطر عليه خوف غامض، يترقّب حدوث المكروه، كالذي وصفه القرآن الكريم بقوله:

    (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ) (المنافقون/4)

وسنجد أنّ العلاج القادر على استئصال هذه المخاوف هو الإيمان، فهو القادر على حلّ عقدة الخوف باقتلاع أسبابها وسدّ المنافذ والمناشئ التي ينفذ منها القلق.

    كيف ينشأ القلق؟  

    قبل التحدّث عن منشأ القلق ومصدره ينبغي لنا أن نوضِّح رأي علماء النفس في قوى الجهاز النفسي، وعمل كلّ قوّة من تلك القوى لنستطيع فهم منشأ القلق ومصدره.

    فعلماء النفس يقسِّمون الجهاز النفسي إلى ثلاثة أقسام، كلّ قسم يقوم بعمل وبنشاط معيّن، وهذه القوى النفسية هي:

    1- الهو (العقل الباطن) ويسمِّيه علماء النفس غير الإسلاميين (اللّا شعور).

    2 - الأنا الوعي (العقل الواعي).     3- الأنا الأعلى (الضمير).

    ويتطابق هذا التحليل للجهاز النفسي مع تحليل الفلاسفة وعلماء النفس والأخلاق الإسلاميين، فهم يرون أنّ الكيان النفسي للإنسان يتكوّن من:

    1- الغريزة: وهي المنطقة التي أطلق عليها علماء النفس غير الإسلاميين اسم منطقة (الهو).

    2- العقل: وهي المنطقة التي أطلق عليها علماء النفس غير الإسلاميين (الأنا) وهو مصطلح الفلاسفة وعلماء النفس الإسلاميين، وهو العقل الواعي الذي يوجِّه السلوك بما يحمل من ملكات الإدراك والذاكرة والتخيّل والوهم... إلخ.

    3- النفس اللّوّامة: "وهي المنطقة التي يطلق عليها اسم الضمير، وهي التي تمثِّل دور الرقيب واللّوم على المعصية، والتي وصفها القرآن بقوله:

    (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (القيامة/2)

   وهي التي تسمّى (الأنا الأعلى) في عرف علماء النفس غير الإسلاميين.

    وإذا عرفنا تكوين الجهاز النفسي هذا فلنعرِّف بكيفيّة حدوث القلق كظاهرة مرضيّة كما شرحه العلماء المختصّون.

    فالقلق كما عرفنا ذلك المرض النفسي الغامض في كثير من حالاته، المدمِّر للشخصية والطاقات والقدرات النفسية والبدنية.

    والذي يحيل السعادة شقاء، والنعيم عذاباً، له مناشئه الموضوعية (الخارجية) والذاتية (الداخلية في النفس الإنسانية).

    وكما وضح لدينا فانّ السبب الأساس للقلق هو الشعور بالخطر المتوقّع الذي يعجز الشخص عن مواجهته والسيطرة عليه.

    وهذا الخطر تارة يكون خطراً أدبيّاً كالخوف من إساءة السمعة ومخالفة العقيدة أو القانون، أو الأعراف الأدبية المألوفة في المجتمع... إلخ.

    أو خطراً ماديّاً، كالخوف من تطوّر المرض الفعلي أو الخوف من العقاب أو الخوف من غرق السفينة المهدّدة بالخطر، أو خوف التاجر من الخسارة الماديّة في حال اضطراب السوق التجارية... إلخ.

    ويقدِّم علماء النفس تحليلاً للقلق يتلخّص في أنّ مردّ القلق إلى محاولات الأنا (العقل الواعي) لحفظ الذات. أي أنّ القلق هو ردّ فعل نفسي وفسيولوجي على المخاطر التي تهدِّد الذات والتي يشعر بها الأنا فيعمل على مواجهتها.

    وتلك المطالب وردود الأفعال تأتي من الهو (الغرائز) أو الأنا الأعلى (الضمير) فتتعارض مع مدركات العقل الواعي وقناعاتها التي يحاول أن يوفّق بين مطالب الغريزة والأنا الأعلى من جهة، وبين مطلبيهما والعالم الخارجي من جهة أخرى، وحين يحدث التعارض وعدم الانسجام بين القوى الثلاثة ومطالبها (العقل الباطن، الضمير، العالم الخارجي) ويعجز العقل (الأنا) عن تحقيق الوفاق والانسجام بينها، يحدث الشعور بالخطر فينتج القلق كظاهرة نفسية وإفراز نفسي لهذا الصراع.

    وربّما كان إلحاح العقل الباطن وإحساسه بالخطر من العالم الخارجي متأتياً من أوهام وذكريات مختزنة ليس لها مصداق في العالم الخارجي سوى الحالة الرمزية التي تذكِّر بالفعل المخيف الذي تعرّض له الإنسان في أحد مواقفه.

    والقلق ينشأ، كما يشرحه المحلِّلون النفسانيون، بشكل أساس نتيجة لتعرّض الإنسان لحادث مخيف، وعندما يزول ذلك الحادث يبقى الخوف في النفس من تكرار وقوعه، ويتحوّل الحدث إلى رمز سرِّي يعمل بصورة لا شعورية في أعماق النفس فيتحوّل إلى قلق، أي يتحوّل إلى خوف من وقوع المخيف.

    وعندما تتولّد مادّة القلق في النفس تتحوّل إلى حالة ترتبط بكلِّ ما يخاف الإنسان منه أو عليه بطريقة موضوعية أو عصابية.

    فانّ الإنسان عندما يواجه تجارب ومواقف مؤلمة ومخيفة يكرهها ويشعر بخطرها في مرحلة أو موقف من حياته، كمرحلة الطفولة أو الصبا أو المراهقة... إلخ، تتحوّل إلى ذكريات مختزنة على شكل خوف مكبوت تعبّر عن نفسها بحالات القلق.

    وبما أنّ العقل الإنساني يعمل في جزء من نظامه على قواعد القياس فانّه يظلّ يقيس المواقف المماثلة، سواء تكرّرت تلك المخيفات بذاتها أو واجه ما يرتبط بها كدالّة عليها، متحرِّكاً بآليّة تداعي المعاني، كدلالة الأصوات والصراخ والضجيج على الحادث المخيف الذي واجهه، فيظل يشعر بالخوف والقلق ليس من الحادث المخيف وحسب، بل وممّا يرتبط به من أسباب وظواهر، لأنّه يعيد إليه حالة الإحساس بذلك الخطر فينشط الخوف في نفسه بشكل قلق لا شعوري.

    وكما يثير تكرار الحادث، أو الدلالات المرتبطة به، الخوف في نفس الإنسان، فانّ الخوف من تكرار الحادث الكامن في النفس يظلّ خوفاً غامضاً يحوم حول كلّ مثير، ويحمل الاستعداد للاستجابة له، ويظلّ هذا الإنسان متوتِّراً يتوقّع بصورة مستمرّة حدوث الخطر والشر والمخيف.

    وفي كثير من الأحيان تتكوّن في نفس ذلك الإنسان مشاعر الكراهية والعدوان تجاه بعض الأشياء أو الأشخاص الذين ارتبطت بهم مواقف مؤلمة، أو يشعر بخطرهم على شخصيّته أو مكاسبه أو مكانته، فتتحوّل إلى قلق واضطراب نفسي من وجود أولئك الأشخاص أو الحوادث أو الأشياء.

    وجدير ذكره أنّ الدراسات النفسية التي أجراها علماء النفس تفيد أنّ مرحلة الطفولة هي المصدر الأكبر لتصميم الشخصية وتكوين العقل الباطن بشكل أساس، وتحقيق الصحّة النفسيّة، أو تعريض الفرد للإصابة بالأمراض النفسيّة، لذا فانّ معظم حالات الخوف تنشأ في تلك المرحلة، فيبدأ الخوف (مادّة القلق) في النفس عند انفصال الطفل عن أمّه كحال غيابها أو وفاتها أو طلاقها، أو فطامه...إلخ.

    ولسلوك الأبوين والمربِّين ومن يختلط بهم الطفل في تلك المرحلة أثر كبير في الصحّة النفسيّة، وزرع عقدة الخوف والقلق في النفس. فالتعامل القاسي واحتقار شخصية الطفل وحرمانه من الحبّ والحنان... إلخ، هي الأسباب الأساسية لنشوء مادّة الخوف والقلق في النفس.

    وكما تساهم تلك المواقف المؤلمة للطفل في تكوين عقدة الخوف والقلق، تساهم كذلك الحوادث الطبيعية، كالظّلام والأصوات المرعبة، أو الحيوانات، أو القصص والأمثال المثيرة للخوف، بتكوين حالة الخوف التي يكبتها الطفل فتسلك كمادّة أوّليّة للقلق مختزنة في العقل الباطن.

    وكما تفيد الدراسات التحليلية التي أجراها علماء النفس فانّ القلق حالة من الصراع وعدم الانسجام بين الوظائف الطبيعية لأجهزة النفس الثلاثة (منطقة الغرائز، والعقل، والضمير).

    وهذا الصراع يعني عدم الانسجام بين الذات والعالم الخارجي، أي وجود تناقض بين الذات والموضوع، فينشأ مرض القلق كردّ فعل له.

    ولكي نتخلّص من القلق، علينا أن نعيد للنفس صحّتها، ونحلّ مشكلة الصراع بين مطالب الغريزة والأنا والأنا الأعلى (الغريزة والعقل والضمير)، وإيجاد التوافق الطبيعي وفق قانون الطبيعة من أجهزة النفس الثلاثة وبين ما يحيط بها وما يثيرها، وأن نعينها على أن تؤدِّي كلّ قوة من هذه القوى الثلاثة واجبها بشكل طبيعي ضمن وحدة الجهاز النفسي ووظائف القوى الأخرى.

    وينبغي أن لا يفوتنا أن نذكر بأنّ وجود الخوف والقلق كحالة طبيعية هو نعمة وحكمة إلهيّة لصيانة الذات والمجتمع من المخاطر، وردع النفس من الإساءة والعدوان، ومحاسبتها داخليّاً، كما يفعل الضمير، ويفرض العقاب عليها، كوخزات وآلام نفسية داخلية يفسِّرها التحليل النفسي بأنّها عقاب الإنسان لنفسه عندما يشعر بالذنب. ولكنّ هذا الشعور يتحوّل إلى حالة مرضية عندما يُساء استعماله ويبالغ فيه. كما يتحوّل موقف الأنا إلى حالة مرضية عندما يعجز عن إحداث الانسجام بين الهو (النشاط الغريزي) ومهام الأنا الأعلى، أو بين هذه الأنشطة والمهام وبين العالم الخارجي (الوضع الاجتماعي) بما يحمل من أعراف وقيم وعقائد وقوانين وضوابط اجتماعية وأخلاقية.

    وإذن فالقلق نتيجة لاختلال وظائف الأجهزة النفسية الثلاثة وكيفية تصريف الطاقة الجسدية، أو تحقيق الاستجابة للمطالب الغريزية كالطعام والجنس... إلخ، أو مطالب المجتمع والتوفيق بينها جميعاً، التي يتحمّل (الأنا - العقل الواعي) إدارتها جميعاً، وعندما يعجز عن ذلك يتكوّن الشعور بالخطر الذي يعبِّر عن نفسه بحالة القلق.

    ما هي أعراض القلق؟  

    ولكي نفهم القلق يجب أن نفهم أعراضه التي تظهر على الشخصية كحالات نفسية أو أعراض جسدية. ويسجِّل علماء النفس أعراضاً مرضية، نفسية وجسمية، تظهر على شخصية القَلِق فتربك حياته وسلوكه مع الآخرين ومع نفسه.

    فمن أعراض القلق: أنّ الإنسان القَلِق يكون متوتِّر الأعصاب متشائماً، يتوقّع حدوث الشر، متردِّداً، عاجزاً عن البت في الأمور، فاقداً الثقة بنفسه، مضطرباً غير مستقر، يفقد التركيز الذهني، ولا يستطيع فهم ما حوله فهماً واضحاً[5].

    وكثيراً ما تنعكس تلك الحالات النفسية على الجسم فتتسبّب بأمراض جسدية هي عبارة عن استجابة فسيولوجية للقلق، كاضطراب الجهاز الهضمي والأرق والدوار وآلام المفاصل والشعور بالتعب[6]... إلخ.

    ونستطيع أن نعرف حالة الشقاء التي يمرّ بها الإنسان القَلِق من فهم الأعراض النفسية والجسدية التي تظهر عليه.

    وبالتالي نستطيع أن نعرف كم ينال القلق من قيمة الشخصية، وإضعاف دور الإنسان في الحياة. فهو ضحيّة الخوف، والخطر الحقيقي لا يستطيع أن يدمِّر من شخصية أكثر ممّا يدمِّره القلق المتأتِّي من توقّع الخطر والخوف من وقوعه.

    ما هو العلاج؟       (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 107).     (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا) (غافر/ 7).

  (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (قريش/ 3-4).

  (إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى) (طه/ 118-119).

 (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) (المائدة/ 16).  (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) (البقرة/ 208).   (وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى) (طه/ 47).   (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه/ 124).

    (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُون) (الأنعام/ 80-82).  

    (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا) (الجن/ 13).

    (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرّعد/ 28).

    (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)   (الأنعام/ 48).

    (قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) (طه/ 46).

    (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ) (الأنفال/ 26).

    (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النّور/ 55).

    إنّ دراسة الفقه والأفكار والمفاهيم الإسلامية توضّح لنا عناية الإسلام بالصحّة النفسيّة والأخلاقية، كما توضّح عنايته بالصحّة الجسديّة، وتنظيم المجتمع، وتعبيد الناس لله سبحانه.

    ولعلّ أبرز ما عالجه التشريع والفكر الإسلامي ومبادئ التربية والأخلاق في الإسلام هي مشكلة الأمن الفردي والاجتماعي، ومحاربة الخوف والقلق، وتوفير الأمن والطمأنينة للإنسان بطرق مباشرة وغير مباشرة.

    وإنّ قراءة تحليلية متأمِّلة في محتوى الآيات الآنفة توصلنا إلى حقائق نفسية واجتماعية، وهي أنّ القرآن قد وفّر للإنسان مستلزمات الأمن النفسي، والحماية من الخوف والقلق.

    ولكي تتّضح لنا معالجات العقيدة والفكر والتشريع الإسلامي لمشكلة القلق بعد أن عرفنا أسبابها ومناشئها التي توصَّل إليها علماء النفس وأطباء العلاج النفسي، لكي يتّضح لنا منهاج الإسلام لتحقيق الأمن والطمأنينة ومعالجة الخوف والقلق فلنعرض الموضوع كالآتي:

    قد عرفنا من خلال التعريف بالدراسة التحليلية للقلق أنّ أبرز أسباب القلق هي:

    1- الخوف الناشئ من مرحلة الطفولة نتيجة لفقدان الحبّ والحنان، واحترام شخصية الطفل، وسوء تعامل المحيطين به معه، أو فقدان الوالدين، لاسيمّا الأم، بالموت أو الطّلاق أو غيابها عن البيت أو بسبب مثيرات طبيعية أو اجتماعية أخرى.

    ولقد أولى الفكر الإسلامي هذه المسألة عناية خاصّة فدعا وحثّ الآباء على احترام شخصية الطفل، ومنحه الحبّ والحنان والعناية به، وحذّر من المعاملة القاسية والإساءة إليه، واحتقار شخصيته، لينشأ سويّ الشخصية، بعيداً عن مشاعر الكراهية والشعور بالنقص والخوف من التسلّط المثيرة للقلق.

 

    ننقل من هذه التوجيهات ما ورد عن الرسول الكريم (ص) والأئمة الأطهار (ع) من حثٍّ وتحريض على حبِّ الأطفال والعناية بهم:

    فقد روي عنه (ص) قوله: "أحبّوا الصّبيان وارْحَمُوهُم"[7].

    وروي عنه (ص) قوله: "مَن قبّل ولده كَتَبَ اللهُ عزّ وجلّ لهُ حسنة، ومن فرّحه فرَّحه الله يوم القيامة"[8].

    وروي عن الإمام الصادق (ع) قوله :

 "الغلام يلعب سبع سنين، ويتعلّم الكتاب سبع سنين، ويتعلّم الحلال والحرام سبع سنين"[9].

    وروي عنه (ع) :

"دَع ابنك يلعب سبع سنين، ويُؤدَّب سبع سنين، والزمه نفسك سبع سنين، فإن أفلح وإلّا فلا خير فيه"[10]

 

    إنّ هذه التربية والعناية بالطفل هي كما أفادت الدراسات النفسيّة من أسس الضمانات لحماية الطفل من الخوف والقلق الذي ينشأ في طفولته، فيتطوّر في أحيان كثيرة، ويلازمه كحالة مرضيّة في مستقبل حياته.   

    وكما يحصِّن الحبّ والحنان النفس الإنسانيّة من الخوف والقلق، فانّ اللّعب في الطفولة له وظيفة نفسيّة هامّة، فهو عبارة عن عملية تفريغ حالة الخوف والقلق لتسلم النفس من الكبت، فانّ مصادر الخوف في الطفولة عديدة تبدأ من خوفه من فقد أمّه، أو انفصاله عنها عند الفطام، أو حدوث مخاوف من الحيوانات والظواهر الطبيعية، أو من القسوة عليه واحتقار شخصيّته... إلخ.

 لذا حثّ الفكر الإسلامي على فسح المجال أمام الطفل ليلعب، فانّ لعب الطفل يعمل على تفريغ حالة الخوف وإنقاذ العقل الباطن لدى الطفل من الكبت والقلق الذي يظهر فيما بعد على شكل حالات مرضية.

ولأهمية مرحلة الرضاعة والحضانة في توفير الأمن للطفل وحمايته من الخوف والقلق الذي ينشأ معه، قنّن التشريع الإسلامي مرحلة الرضاع والحضانة، وأكّد على العناية بها. فالرضاع إشعار للطفل بالحبِّ والحنان والاحتضان، وإبعاد مخاوف الانفصال عنه، لذا ورد في الحديث النبوي الشريف:

    "ليس للصبي خير من لبن أمّه"[11].

    وورد عن الإمام عليّ (ع): "ما مِن لبن رضع به الصبي أعظم بركة عليه من لبن أمّه"[12].

    ولأسباب جسديّة ونفسيّة جعل التشريع الإسلامي مدّة الرضاع حولين كاملين، واعتبر الأم المأمونة على الولد أحقّ بحضانة الطفل وأولى في هذه المدّة ما لم تتزوّج في حال الطّلاق أو موت الأب. وانّ من آثار هذا التشريع هو تنمية مشاعر الحبّ والعناية لدى الطفل، وإشعاره بعناية الآخرين به.

    قال تعالى :

    (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) (البقرة/ 233).

    وبعد مرحلة الرضاعة جعل التشريع الإسلامي مرحلة الحضانة لمواصلة عملية التربية، وتكوّين شخصية الطفل السويّة؛ لذا اعتبر الأولى أن تمتدّ مدّة الحضانة في رعاية الأم إلى مدّة سبع سنين فإن ماتت الأم فالأب هو الأولى بذلك.

    واعتبر الأب أحقّ بحضانة الولد من الأم، كما اعتبر الأم أحقّ بحضانة الأنثى من الأب، لتأثير السلوك المتماثل على الطفل وعلاقته بتكوّين الشخصية.

    وبذا أحكم الإسلام نظام الأمن التربوي والوقاية من القلق والخوف إذا ما أحسنت الاستفادة من كامل وصاياه وتوجيهاته الأخرى. وكما أوصى الأبوين بالحبِّ والحنان واحترام شخصية الطفل واحتضانه والعناية به  أوصى المجتمع بالعناية باليتيم، لينشأ في ظلّ الحبّ والحنان، بعيداً عن التشرّد والشعور بقسوة الحياة عليه، لينشأ سوي الشخصية، بعيداً عن الإحساس بالقلق والخوف.

     قال تعالى:     (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) (الضحى/ 9).

    وكما نهى عن قهر اليتيم وتعريضه للكبت، هاجم أولئك الذين يسيئون إليه بقوله:

    (فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) (الماعون/ 2).   

 وفي وصايا الرسول (ص) والأئمّة الهداة من أهل البيت (ع) نقرأ الحثّ على كفالة اليتيم والإحسان إليه مثل:

    روي عن رسول الله (ص): "أنا وكافل اليتيم في الجنّة هكذا- وأشار بالسّبّابة والوسطى وفرج بينهما-"[13].

    وروي عنه (ص): "إنّ في الجنّة داراً يُقال لها دار الفرح لا يدخلها إلّا من فرّح يتامى المؤمنين"[14].

    وروي عنه (ص) أيضاً: "كُن لليتيم كالأب الرّحيم، واعلم أنّك تزرع كذلك تحصد"[15].

    وروي عن الإمام عليّ (ع):

"الله الله في الأيتام فلا تغبّوا[16] أفواههم، ولا يُضيّعوا بحضرتكم، فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وأله يقول: (من عال يتيماً حتّى يستغني أوجب الله عزّ وجلّ له الجنّة كما أوجب لآكل مال اليتيم النار)"[17].

    وروي عنه (ع):

"ما من مؤمن ولا مؤمنة يضع يده على رأس يتيم إلّا كتب الله له بكلّ شعرة مرّت يده عليها حسنة"[18].

    2- نشوء الخوف والقلق عند الإنسان نتيجة منع مطالبه الغريزية المشروعة، وكما وضح لدينا فالإنسان عندما يحرم إشباع حاجاته الغريزية، ويحرَّم عليه ذلك، يظل يعيش حالة الصراع والقلق العنيف بين مطالب النفس والغريزة، وبين الظروف الخارجية، كالقوانين والأعراف والتقاليد والسلطة التي تُحرِّم عليه ذلك أو تحرمه من الإشباع المشروع.

    ويفسِّر علماء النفس هذا القلق بأنّه نتيجة لمحاولة العقل الواعي (الأنا) للتوفيق بين مطالب النفس الغريزية التي يمثلها (الهو) وبين العالم الخارجي الذي يشمل الأعراف والقوانين والعقائد والسلطة فيتمثّل دور العقل في كبح المطالب الغريزية لحماية الذات من خطر المنع الخارجي فيتكون القلق والصراع الداخلي.

    والإسلام بعلمية تشريعية وواقعية قيمه ومبادئه جاء متناسقاً مع التكوين الغريزي للإنسان، بل عمل التشريع والقيم والأعراف الإسلامية لإشباع الجانب الغريزي إشباعا طبيعياً ومنظّماً، وجعل دور العقل متركِّزاً في توجيه وتنظيم هذا الإشباع لحماية السلوك من الشذوذ والحالات المرضية.

    فأشبع غرائز حبّ الذات والجنس والأمومة والطعام والبحث عن المجهول وطلب العلم والتملّك... إلخ، وفسح المجال الطبيعي أمامها.

    ونفهم هذه الحقيقة من خطاب القرآن لآدم (ع) وزوجته والتعهّد له بقوله:

 (إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى) (طه/ 118-119).

    وهو تعهّد وفّى به التشريع والنظام الإسلامي للنوع البشري عند تسلّمه مهمّة تنظيم المجتمع وقيادة البشرية على يد الرسول الهادي محمّد (ص). وفي هذا التعهّد استيعاب للمطالب الغريزية كلّها: الجنس والطعام والشراب والسّكن...إلخ، وبذا وفّر الأمن الغريزي واقتلاع مناشئ القلق الصادرة عن ذلك الموقع المحارب من النفس، وإخراجه من ميدان الصراع مع العقل. كما عمل على امتداد تعامله مع الإنسان على تقوية دور العقل ليتعامل مع الغريزة بقوة وتوجيه واع وسليم، لحماية النفس من الخوف والقلق. فانّ معظم مشاكل القلق آتية من عدم قدرة العقل على الصمود أمام الضغوط النفسية التي يدرك عدم واقعيّتها في كثير من الأحيان، غير أنّه يهزم أمام تلك الحالات لضعفه عن المقاومة.

    3- وكما يتسبّب المنع والكف القهري لمطالب الغريزة المشروعة بإحداث القلق والآلام النفسية يتسبّب كذلك الخوف من عدم الحصول عليها والعجز عن إشباعها قلقاً مؤلماً للإنسان.

    فهناك القلق المعاشي، وهو الخوف من عدم الحصول على ما يكفي الإنسان من مطالبه المعاشية، بسبب البطالة أو الشيخوخة أو العجز عن العمل أو حدوث الأزمات... إلخ.

    وهناك الخوف على الذات من الخطر والعدوان المتأتِّي من السلطة أو الأفراد أو المخاطر الطبيعية...إلخ.

    ويشكِّل هذان الجانبان من الخوف أشدّ أنواع القلق التي ابتليت بها الإنسانية، ولقد عالج التشريع والنظام والأخلاق والعقيدة الإسلامية هذه المشكلة معالجة عملية ونفسية.

    فمن الناحية العملية عالج الإسلام مشكلة الفقر والحاجة عن طريق التشريع والتنظيم الاقتصادي والتوجيه التربوي والتعبّدي، لاسيمّا مشكلة الأفراد الذين لا يجدون مورداً للعيش، فوفّر لهم الأمن والطمأنينة المعاشية، وأبعد مناشئ القلق والخوف عنهم، بما وفّره لهم من ضمانات معاشيّة.

    نورد بعض النصوص التي شرّعت القوانين الاقتصادية وعالجت مشكلة الفقر والحاجة في المجتمع، كتشريعي الزكاة والخمس وغيرهما من التشريعات الاقتصادية الأخرى.

    قال الله تعالى:

    (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة/ 60)

                                                     

    وقال:

    (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الحشر/ 7)

                                                 

    وكما عالج النظام الإسلامي مشكلة القلق المعاشي، عالج كذلك مشكلة القلق السياسي، فأوجب العدل وحرّم الاعتراف بمشروعيّة السلطة الظالمة، ووضع موازين العدل، فقال تعالى:

  (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل/90).                                                      

    وتحدّث في موضع آخر عن وجوب توفير الأمن السياسي وعلاقته بالشريعة الإسلامية فقال:

    (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور/ 55).

                                                   

    4- الخوف من العدم: إنّ الدافع الأساس للسلوك البشري بأسره ينطلق من غريزة حبّ الذات والحفاظ عليها، بعيدة عن الخطر والفناء والعدم؛ لذا فانّ الخوف من العدم وفناء الذات هو المادة الأساسية لأنواع الخوف، وأخطر مصادر القلق اللّاشعوري الذي تصنع منه حالات القلق جميعها.

    ومصدر هذا القلق هو الانفصال عن الله سبحانه والكفر بوجوده وبعالم الآخرة والجزاء، وبالتالي الخوف من الموت ومفارقة الحياة،  لأنّ ذلك يعني العدم والفناء لدى من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، وبذلك يسلك الخوف على الدنيا (الخوف من الموت) كسبب أساس لكلِّ أنواع القلق، كسبب أساس لكلِّ أنواع القلق، وعندما يتحرّر الإنسان من عقدة الخوف من الفناء يتحرّر من عقدة القلق والخوف.

    لذا كان الإيمان بالله سبحانه وباليوم الآخر وفهم عملية الموت أنّها عملية تحوّل وانتقال من دار إلى دار، وأنّ عالم الآخرة للمتّقين هو خير من عالم الدنيا.   

    إنّ هذا الإيمان هو العلاج لانقاذ الإنسان من القلق والخوف والسخط والضجر والإحساس بانعدام معنى الحياة التي تنتهي بمأساة الموت، الذي يعني الفناء المطلق للذات عند من يكفر بالله.  

    والقرآن يشرح علاقة الكفر بالقلق والخوف وضنك العيش، كما يشرح علاقة الأمن والطمأنينة والاستقرار النفسي والخلاص من الخوف والقلق بالإيمان بالله سبحانه فيقول:

    (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه/ 124)

                                                            

(وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (الأنعام/ 81-82)

                                                   

    ويقول سبحانه:

 (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا) (الجن/13).                                                     

    (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الأنعام/ 48)

                                                        (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) (المائدة/ 16).                                                              

    (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد/ 28).

                                               إنّ الإيمان بالله الخالق المتّصف بكلِّ صفات العدل والحكمة والرحمة واللّطف بالعباد تتلاشى عقدة خوف الإنسان على ما يخاف منه أو عليه .

    وإنّ الموت لا يعني فناء الذات بل انتقالها إلى عالم الخلود والنعيم الأبدي، وإذا ما هي اختارت طريق الإيمان والهدى والرضوان.

    5- الخوف ممّا يتوقّع: إنّ من أخطر مناشئ القلق هو الخوف من وقوع ما يكرهه الإنسان ويفرّ منه. ومن خصائص الإيمان بالله انّه يعالج هذا الخوف معالجة جذرية، ويستأصل مناشئه.

    ونستطيع أن نلخِّص قدرة الإيمان بالله سبحانه على معالجة مناشئ الخوف والقلق باستقراء أهم تلك المناشئ كالآتي:

    أ- الخوف من فقدان وضياع الأشياء التي يحبها: كالخوف على المال والنفس وما يتعلّق بهما من جاه وسلطة وعلاقة مع الناس... إلخ.

    ويحتل هذا الخوف مساحة واسعة من النفس البشرية، فلدى كل إنسان مكاسب، كالتي سبق ذكرها، يرتبط بها ارتباطاً نفسيّاً قويّاً، يدفعه للحرص عليها، والخوف من ضياعها من يده، وسواء أكان سبب الخوف موضوعياً أو عصابيّاً فانّ هذا الخوف يظل مصدراً أساساً من مصادر القلق في النفس، لذلك توجّه القرآن بالخطاب إلى الإنسان بقوله:

    (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (الحديد/23).                

  فانّ تركيز مفهوم الزّهد بالدنيا الذي يعني كما يوضّح القرآن، أن لا يحزن الإنسان على ما فاته، ولا يفرح بما أتاه يحلّ مشكلة الخوف من ضياع الأشياء وفقدانها، ويمنح النفس السكينة والاستقرار والرِّضا بما يستقر بيده، وينقذها من القلق. فالإنسان المؤمن بالله يعتقد بزوال هذا العالم وما فيه، ولا شيء من حطام الدنيا يستحق الخوف والقلق، فقد خُلق للزوال والفناء، انّما البقاء هو في عالم الآخرة.

    ويوضّح القرآن صورة الحياة الدنيا للإنسان على حقيقتها بقوله:  

 (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (يونس/ 24).

                                              

    (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ[19]) (الرعد/ 26).

                                                    

    وكما يعطي الصورة الحقيقية للحياة الدنيا وما فيها من مال وزينة ومكاسب زائلة يصوِّر الحياة الحقيقية في عالم الآخرة فيقول:

 (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ[20] لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت/ 64).

                                              

    ب- الخوف من وقوع الأشياء التي يكرهها الإنسان: والمصدر الآخر من مصادر القلق هو الخوف من وقوع الأشياء التي يكرهها، فيظلّ قلقاً متشائماً مترقِّباً وقوع ما يكره.

    ولا علاج لهذا المرض النفسي إلّا بالإيمان بالله سبحانه الذي يركِّزه الفكر التوحيدي القرآني.

    فالمؤمن بالله يعتقد بالقضاء والقدر، وأن لا شيء يحدث في هذا الوجود إلّا بمشيئة الله سبحانه، وأنّ الله رحيم وحكيم وعادل ولا يفعل إلّا الأصلح لعباده. فالمؤمن بالله سبحانه آمن مطمئن إلى عدل الله ورحمته وحكمته. ويستقبل ما يمكن أن يقع بوحي من هذه العقيدة بنفس راضية مطمئنّة. وتتحقّق الطمأنينة بعد أن تستقر هذه العقيدة في أعماق النفس، وتملك حركتها وردود أفعالها على المثيرات والبواعث.

    والقرآن يوضّح للمؤمن هذه الحقائق ليحميه من القلق والخوف من توقّعات المستقبل التي تكرهها نفسه وتشعر بخطرها، يوضّح له ذلك بقوله:

    (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (الحديد/ 22-23).

                                            

    (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (التوبة/ 51).

                                          
ولا تقف العقيدة والتوعية ضدّ القلق والخوف من الحوادث والتوقّع المتشائم عند هذا الإيضاح بل ويثبت القرآن عقيدة أخرى يشهد بها الواقع وتثبتها التجربة للإنسان، وهي أنّه ليس كلّ ما يكرهه الإنسان ويثير خوفه وقلقه هو شرّ، بل ربّما كان خيراً له، فلا داعي للقلق وتسلّطه على النفس في كلِّ ما يكرهه الإنسان ويخشى وقوعه، وفي ذلك يقول:

    (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) (البقرة/ 216).

                                                       

     وهكذا تتلاشى بواعث القلق من الخوف العصابي أو الموضوعي المتوقّع أمام عقيدة التوحيد والنفس المطمئنة بالإيمان.

    وممّا يكمل قدرة العقل على مواجهة القلق ويحصِّن النفس تحصيناً ذاتياً هو التوكّل على الله والاستعانة به على حلّ مشاكل الإنسان وانتظار رحمته، بدلاً من أن يقع فريسة للخوف والقلق اليائس من أي عون ومساعدة على ما يكره، فانّ النفس إذا شعرت بالقدرة الذاتية، أو بمساعدة من يؤازرها على دفع المخاطر تطمئن وتتحرّر من الخوف والقلق، ولا يرى المؤمن قوّة في هذا العالم كقوّة الله سبحانه، فهو كما وصف نفسه:

    (بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الملك/ 1).                                                                

    وتأتي طمأنينة المتوكِّل وثقته بالله نتيجة لإيمانه بقدرة الله ورحمته.

ويركِّز القرآن هذه العقيدة في العديد من آياته كقوله:     (قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا) (الملك/ 29).

                                                       

    والتوكّل في المفهوم الإسلامي لا يعني ترك المسؤولية والسعي من أجل دفع المكروه أو تحصيل ما ترغب به النفس ممّا أبيح الحصول عليه، بل أوجبت العقيدة الإسلامية على الإنسان أن يسعى وفق قوانين الطبيعة ونظام الحياة في الوقت الذي تمتلئ فيه نفسه بالاتِّكال على الله سبحانه وتفويض الأمر إليه، ويلخِّص هذه القاعدة العلمية قول الرسول (ص) للأعرابيّ حينما أراد أن يترك دابّته من غير رباط متوكِّلاً على الله في حفظها من الضّياع، صحّح الرسول (ص) له هذا الفهم بقوله: "إعقل[21] وتوكّل". 

  

    6- القلق الناشئ من الخوف من الإرهاب السلطوي وفقدان الأمن الشخصي: ومن معاناة البشرية المعاصرة هو الإرهاب السلطوي وتسلّط الحكومات الإرهابية على الشعوب لا سيّما في عالمنا الإسلامي المضطهد، وتسبيب القلق المرضيّ لكثير من الناس المستهدفين للسلطة الإرهابية.

    غير أنّ المؤمن القويّ الإيمان يملك الحصانة النفسية في مواجهة هذا التحدِّي المقلق بما يملك من قوّة الإرادة ووضوح الجزاء الإلهي المطمئن، الذي تتلاشى أمامه دواعي الخوف والقلق.

    والقرآن يصوِّر حالة المؤمن النفسيّة التي يواجه بها القلق والخوف الذي يهدِّد أمنه الشخصي أو النوعي بقوله:

    (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) (آل عمران/ 173-174).

    وكما تحصِّن التربية الإسلامية شخصية الإنسان المؤمن بالمناعة النفسيّة ضدّ الخوف السلطوي وتدعو إلى عدم الرضوخ له، ووجوب مجابهته، فانّ التشريع الإسلامي قد ثبّت القوانين والأحكام اللّازمة لتحقيق العــدل وتجريــد السلـطـة الظـالمـة من الشـرعيـّة،

كقوله تعالى:

    (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (النساء/ 58).

                                                     وكقوله: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) (هود/113).                                                      

    وبهذه التعبئة الفكريّة والنفسيّة والموضوعيّة أرسى الإسلام التحصينات اللّازمة لحماية النفس من القلق المتأتِّي من هذه المناشئ.

 

    7- تنقية النفس من الكراهية والعدوان: ومن مسبّبات القلق هو الدافع العدواني وروح الحقد والكراهية للآخرين، والرّغبة في العدوان عليهم، والانتقام منهم.

    وعندما يحلّ الحبّ بدل الكراهية، والاحترام بدل العدوان، تختفي مع الحبّ والاحترام أسباب عديدة للقلق والخوف من الآخرين الذين يشعر الإنسان القَلقِ بخطر وجودهم على شخصيّته أو مكانته أو مكاسبه المادية أو الاجتماعية، ويعرض القرآن نموذجاً للحقد المقلق هذا والمدمِّر للشخصية بقوله:

    (وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (آل عمران/119).

وفي الآية الكريمة الأخرى نقرأ الدعوة إلى البرّ والحبّ والعفو والإحسان وتطهير النفس من الإثم والعدوان لتعيش النفس صافية نقية خالية من مسبِّبات القلق العدواني.

    قال تعالى:

    (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة/ 2).

                                                       

    (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران/ 134).

                                                        (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (التوبة/ 71).                                                         

    ويترجم الحديث النبوي الشريف قيمة الحبّ في الإسلام بقوله:

    "إنّ من أعظم شعب الإيمان: الحبّ في الله والبغض في الله".

    ويوضّح الإمام (الباقر) محمد بن علي بن الحسين (ع) جوهر الدين وحقيقته بقوله: "وهل الدِّين إلّا الحبّ". 

    وعندما يستقر الحبّ في النفس، وتتلاشى دوافع الكراهية والحقد والعدوان الذي يعبّر عنه بالحسد والغيبة والكيد والرغبة في الانتقام، أو تنفيذ العدوان والانتقام، عندما تتخلّص النفس من هذه التراكمات المرضية يتحقّق لها التخلّص من أهم مكوّنات القلق في النفس الإنسانية.

    8- التوبة والضمير: وكما وضح لدينا من خلال تحليل القلق فانّ أحد أسبابه هو الصراع بين الأنا والأنا الأعلى (الضمير)، وهو الإحساس الذاتي بالذنب، وعرفنا أنّ (الضمير) يفرض عقوبة نفسيّة على الإنسان المذنب أو الشاعر بالذنب. وهذه العقوبة (الإيلام النفسي) هي عملية اللّوم الذي عبّر عنه القرآن بقوله:

    (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (القيامة/ 2).                                                                

    واللّوم يتحوّل إلى حالة من الانتقام من الذات، والرغبة في تعذيبها نتيجة للإحساس بالذنب، فيبالغ الضمير(الأنا الأعلى) في معاقبة الذات، فتتحوّل حياة الإنسان إلى جحيم من الحساب واللّوم والعقاب النفسي بشكل مرضي متجاوز للحالة الصحّية في اللّوم والإحساس بالذنب.

    لذا فانّ التشريعات والتوجيهات والمفاهيم الإسلامية الصادرة عن الحكيم الخبير العالم بمخابئ النفس البشرية ومساربها العميقة قد دعت إلى محاسبة النفس وإشعارها بالخطأ والذنب، ولكن دون أن يتحوّل ذلك الموقف من الضمير إلى تدمير النفس وتعذيب لها وارتداد عليها بسبب الإحساس الداخلي أو الخوف من نقد المجتمع واحتقاره لذات الشخص الذي تحوّل إلى قلق مؤلم، واضطراب نفسي عنيف.

    ففي مفاهيم التوبة نقرأ العلاج الكامل لهذه الحالة المرضية، عن طريق الموقف الإنساني وتعزيز دور العقل أمام الضمير، وتنظيم حركة الضمير في مسار الصحّة النفسيّة، أو تصحيح موقف المجتمع الذي يضغط على مرتكب المخالفة فيتسبّب بتنشيط نقد الضمير وتعميق القلق.

    لقد فتح الله سبحانه باب التوبة فقال:

    (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة/ 222).

                                                     

    وبذا كانت التوبة كفّارة الذنوب ومصدر حبّ الله ونهاية لعذاب الضمير والقلق المتركِّز من ارتكاب المخالفة.

    فهي تمحو كل أثر للخطأ والمسؤولية أمام الله والناس، وبذا يجب أن تمحى آثارها النفسيّة المقلقة للنفس، فقد عفا الله وغفر.

    لذا يعيش التائب راحة الضمير والسلامة من القلق المتأتِّي من الإحساس بالذنب. والقرآن يسجِّل هذه الحقيقة بقوله:

    (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر/ 53).

                                                          

    وهكذا يعالج الإيمان كارثة القلق، ويستأصل مناشئها ويوفِّر السعادة النفسية، فليس أمام الإنسان لإنقاذ النفس من الخوف والقلق إلّا الإيمان بالله وملء النفس بالحبِّ والثقة بالله، فليس بوسع الإشباع المادّي وحده، ولا توفير الملذّات ولا الأنظمة المادّية أن تحمي الإنسان من القلق والعذاب الداخلي .

    وهكذا يجب أن تكون مع الله إذا أردت أن تكون بعيداً عن القلق.

 الهوامش:

[1] - د. أحمد عزّت راجح / أصول علم النفس / ص576 / ط 8.

[2] - د. محمد عثمان نجاتي/ مقدّمة كتاب الكف والعرض والقلق لفرويد/ ص13.

[3] - مقدّمة د. محمد عثمان/ الكف والعرض والقلق/ ص14.

[4] - المصدر نفسه.

[5] - مقدّمة د. محمد عثمان/ الكف والعرض والقلق/ ص13.

[6] - المصدر السابق.

[7] - الحر العاملي/ الوسائل/ ج5/ ص126.

[8] - الكليني/ الكافي/ ج6/ ص49.

[9] - العاملي/ الوسائل/ ج15/ ص194.

[10] - العاملي/ الوسائل/ ج15/ ص194.

[11] - العاملي/ الوسائل/ ج15/ ص175.

[12] - العاملي/ الوسائل/ ج15/ ص188.

[13] - الترغيب/ ج3/ ص346، رواه البخاري وأبو داود والترمذي.

[14] - المتّقي الهندي/ كنز العمّال/ خ6008.

[15] - المجلسي/ بحار الأنوار/ ج77/ ص171.

[16] - أغبّ القوم: جاءهم يوماً وترك يوماً، أي لا تجيعوهم بأنْ تطعموهم غبّاً.

[17] - الكليني/ الفروع من الكافي/ ج7/ ص51.

[18] - المجلسي/ بحار الأنوار/ ج75/ ص4.

[19]-  المتاع: ما يحمل المسافر من طعام في طريق السّفر.

[20] - الحيوان: الحياة الحقيقية.  

[21]-  إعقل: اربط دابّتك.

ارسال التعليق

Top