تظهر دراسة الظروف والأوضاع الاجتماعية والخُلُقية والسياسية التي أحاطت بحياة الإمام الثامن من أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، الإمام علي بن موسى الرضى (ع)، كما أحاطت من قبله بحياة والده الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) تظهر مدى صعوبة المحنة وعمق المشكلة السياسية التي عاناها أهل البيت (عليهم السلام) في ظل الحكم العباسي.
فالذي يدرس حياة "الخلفاء" العباسيين، وبالتحديد المهدي والهادي والرشيد والأمين والمأمون، الذي عاصرهم الإمام الثامن عليّ الرضا (ع) والذين امتدت حياتهم من سنة 158هـ إلى سنة 203هـ، والذي يحلّل أسلوبهم في الحكم، وكيفية إدارتهم لشؤون الأُمّة، وعلاقتهم كحكّام بالأُمّة وتوجيه الرأي العام، والذي يدرس أيضاً حياة هؤلاء الخلفاء في القصور بين الجواري والمغنيين وكؤوس الخمر، ويشاهد تبذيرهم الأموال الطائلة من جهة، وسياسة التجويع والإرهاب التي مارسوها على طبقات الأُمّة من جهة ثانية، يدرك بوضوح الفارق الكبير بين اتجاه بني العباس وبين قيادة أهل البيت (عليهم السلام) ودعوتهم إلى الاصلاح والتغيير وفقاً للمبادئ والقيم الإسلامية التي دعوا إليها وأُوذوا وعُذّبوا وشُرّدوا وسُجنوا واستشهدوا من أجلها. وليس أدلّ على ذلك من استشهاد محمد بن الحسن (النفس الزكية)، والحسين بن عليّ صاحب فخ، والإمام موسى بن جعفر (ع)، وتوالي ثورات آل عليّ (ع) الواحدة تلو الأخرى[1].
فما دوّنته كتب التاريخ، وما سجّله الشعراء في شعرهم عن الوضع السلوكي لهؤلاء الخلفاء العباسيين، يكشف محنة الأُمّة، ودرجة المفارقة التي وقع فيها أولئك الحكّام. فلقد بيّن المؤرخون بلغة الأرقام والوقائع – كيف بُدّدت الأموال لشراء الجواري، وبناء القصور، وهدايا الشعراء، وإقامة مجالس اللهو والبذخ. وكيف سلّطت السيوف والسجون على آل البيت النبوي (ع) وأعوانهم، حتى حرموا الأمن والعيش، وقطعت أرزاقهم وهدمت دورهم وصودرت أموالهم.
فمن ذلك الكثير الكثير من رواه السيوطي في "تاريخ الخلفاء" عن عطايا هارون الرشيد حيث يقول: "أعطى الرشيد مرّة سفيان بن عيينة مائة ألف، وأجاز اسحق الموصلي مرة بمائتي ألف، وأجاز مروان ابن أبي حفصة مرة الموصلي مرة بمائتي ألف، وأجاز مروان ابن أبي حفصة مرة على قصيدة خمسة آلاف دينار"، وعقب السيوطي قائلاً: "وله أخبار في اللهو واللذات المحظورة والغناء"[2].
وتحدّث عن الهادي بن المهدي العباسي فقال: "وكان يتناول المسكر ويلعب"، وذكر أنّ المأمون "كان يحبّ لعب الشطرنج، وكان يشرب النبيذ"[3].
أمّا مرحلة حكم هؤلاء الحكام على أهل البيت (ع) وعلى عميدهم الإمام موسى الكاظم (ع) فكانت قاسية، فلقد كان الإمام الرضا (ع) يشاهد بأمّ عينه محنة أبيه الكاظم (ع) وهو يُنقل من سجن إلى سجن، كما شاهد مذابح ومآسي أنسبائه وأبناء عمومته العلويين. ولما استشهد أبوه (ع) لم يتعرض له الرشيد بسوء، فقد ذكر ابن الصبَّاغ المالكي عن صفوان بن يحيى أنّه قال للرضا (ع): "إنا نخاف عليك من تلك الطاغية" (يعني هارون الرشيد)، فقال (ع): "ليجهدنّ جهده، فلا سبيل له عليّ"، وذكر صفوان أن يحيى البرمكي قال لهارون الرشيد: "هذا عليّ بن موسى الرضا قد تقدّم وادّعى الأمر لنفسه"، فقال هارون: "يكفينا ما فعلنا بأبيه، تريد أن نقتلهم جميعاً؟"[4].
الولاء لأهل البيت (ع) والانتفاضات العلوية:
لقد انعكس تردّي الوضع السياسي والخُلُقي للحاكمين في تلك الفترة على طبقات الأُمّة كافة، وقد اتجه الرأي العام باتجاه أئمة أهل البيت (ع) أمثال الصادق والكاظم والرضا (ع) حيث أصبحوا المفزع للأُمّة باعتبارهم يمثّلون موقع القيادة الشرعي، وكانت القلوب تفيض بحبّهم لورعهم وصدقهم وعلمهم، وكان هذا الحب وهذه الثقة يمنحان من قبل الأُمّة أيضاً لكلِّ علويّ شريف ثائر، لذلك كانت ثورات العلويين التي امتدت من بلاد فارس إلى مدن العراق والحجاز واليمن وأفريقيا وغيرها – والتي استمرت حوالي قرن ابتداء من ثورة زيد – كانت تحظى بتأييد مختلف طبقات الأُمّة التي كانت تعلن الولاء لها سراً أو علناً.
وقد اشتد الميل لأهل البيت (عليهم السلام) والتعاطف معهم أيام الإمام الرضا (ع)، فكانت الثورات العلوية تنفجر وجماهير الأُمّة تساندها، وبسبب ظروف الاضطهاد والمطاردة، ومن أجل الدفاع عن الحقِّ، لم يرَ العلويون أبناء الأئمّة وأحفادهم غير الجهاد لغة للتعامل مع الخصم. وقد استثمر هؤلاء الثوار فرصة ارتباك السلطة العباسية في فترة الصراع المريرة بين الأمين والمأمون ابني هارون الرشيد والتي انتهت بانتصار المأمون والقضاء على الأمين وقتله.
وكان من أبرز ثوراتهم في عهد الإمام الرضا (ع) ثورة ابن "طباطبا" وهو محمد بن إبراهيم الذي ينتهي نسبه للإمام الحسين (ع) عام 199هـ، وقد ثار في الكوفة، وكان قائده (أبو السرايا) السري بن منصور قد تمكّن من السيطرة على الكوفة والبصرة وواسط والأهواز ومكة المكرمة، وحاول محاصرة بغداد واستمرّت هذه الحركة مدة عشرة أشهر، غير أنّها انتهت بالهزيمة على يد المأمون وجيشه[5] وبعد فشلها قامت حركة إبراهيم ابن الإمام موسى بن جعفر (ع) الذي اتجه إلى اليمن وسيطر عليها. ومن تلك الثورات أيضاً، ثورة محمد ابن الإمام جعفر الصادق (ع) بالمدينة المنوّرة، الذي بايعه أهلها بإمرة المؤمنين، والتي انتهت أيضاً بالهزيمة أمام المأمون ووقوع محمد بن جعفر بيده[6].
وهكذا توالت ثورات الطالبيين الذين ألهبوا أرجاء الدولة العباسية مؤيَّدين بالطليعة من العلماء والمحدّثين وأبناء الأُمّة، ولكن الإمام الرضا (ع) لم يشارك بأي منها مع ما له من مقام سياسي واجتماعي وروحي مرموق، ورغم أنّه كان سيد أهل البيت (عليهم السلام) وعميدهم في زمانه، فقد كان يعلم ما ستنتهي إليه هذه الحركات من فشل، كما كان كذلك موقف أبوّيه الصادق والكاظم (عليهم السلام) أيضاً. وقد نبّه الأئمّة (عليهم السلام) أصحابها وقادتها إلى مخاطرها، فقد كانوا ينظرون إلى الأمور والأحداث من منظار آخر رغم أنّهم كانوا يقفون بطرقهم الخاصة في وجه الحكّام العباسيين، ولذلك كان "الخلفاء" العباسيون يخافونهم ويحمّلونهم أسباب الثورات العلوية:
الإمام (ع) والمأمون:
أمام نتائج الصراع المرير الذي خاضه المأمون مع أخيه المغلوب الأمين والذي انعكس اضطراباً كبيراً داخل البيت العباسي، وإزاء الانتفاضات العلوية المستمرة التي أقلقته، لم يجد المأمون من المناسب التصدي للإمام الرضا (ع) بالوسائل نفسها التي تصدّى بها الرشيد للإمام موسى بن جعفر (ع)، بل انتهى إلى وسيلة سياسية جديدة، وهي مهادنة العلويين، والاعتراف لهم أمام الناس بحقِّ الولاية لامتصاص نقمة الرأي العام، وتخفيف الضغط الناتج عن كثرة الدماء المسفوكة، وللوقوف بوجه التيار الثوري العلوي المتعاظم. لهذه الأسباب ابتدع المأمون أسلوباً سياسياً لمحاصرة الإمام الرضا (ع) باعتباره سيد البيت العلوي، فلجأ إلى إعلان البيعة له بالخلافة وولاية العهد من بعده.
الانتقال إلى خراسان:
وجّه المأمون دعوته إلى الإمام الرضا (ع) الذي كان في المدينة المنوّرة، وطلب منه الحضور إلى مرو – خراسان، بقصد التشاور معه حول مسألة نقل ولاية العهد والخلافة إليه فاستجاب الإمام (ع) إلى ذلك مكرهاً، وبعد ممانعة شديدة – كما يذكر المؤرّخون – وكان ذلك متزامناً مع ثورة محمد ابن الإمام جعفر الصادق (ع). خرج الإمام من المدينة المنوّرة مودّعاً قبر جده الشريف، باكياً، وذاكراً لبعض أصحابه أنّه لن يعود من رحلته هذه "ذرني فإني أخرج من جوار جدي رسول الله (ص) وأموت في غربة". وبعد أن عرّج الإمام (ع) على بيت الله الحرام فحجّه وودّعه[7]. انطلقت القافلة التي حملته متجهة نحو العراق، فمرّت بالقادسية القريبة من الكوفة – دون أن يدخلها الإمام (ع) حسب تعليمات المأمون الذي أمر أن لا يدخل الإمام الكوفة وقثم حتى لا يفتتن به الناس – ثمّ اتجه الركب إلى البصرة فالأهواز ثمّ إلى شيراز في فارس ثمّ إلى نيشابور فمدينة مرو حيث إقامة المأمون. وكان الإمام الرضا (ع) يُستقبل بالحفاوة حيثما حلّ، ويشيّع كلما رحل من مدينة أو قرية، من جماهير الناس ووجوه العلماء الذين كانوا يتوافدون إليه للاستفادة من وافر علمه وفيض حكمته. وبعد التوقّف في نيشابور واصل الإمام (ع) سيره مارّاً بسرخس حتى (مرو) عاصمة الخلافة آنذاك، التي كانت تتهيّأ لاستقباله وتنتظر قدومه، وكان في طليعة المستقبلين والمحتفين المأمون نفسه وحاشيته ورجال دولته. وبعدما حطّ الإمام (ع) رحاله بدأت عملية الحوار والمفاوضات الساخنة بين الإمام (ع) من جهة، وبين المأمون ووزيرَيه الفضل بن سهل وأخيه الحسن من جهة أخرى، حول الخطة المكيدة التي كان المأمون يعتزم جرّ الإمام (ع) إليها والمسمّاة بولاية العهد.
ولاية العهد:
تحدّثت كتب التاريخ أنّ المأمون كان قد عرض الخلافة على الإمام أوّلاً[8]، لكنّه (ع) رفض قبولها أشدّ الرفض. وقد بقي المأمون مدة شهرين وهو يحاول ذلك عبثاً بمساعدة وزيرَيه الفضل والحسن ابني سهل، ولما بادره المأمون بالقول: يا ابن رسول الله (ص)، قد عرفت فضلك وعلمك وزهدك وورعك وعبادتك، وأراك أحقّ بالخلافة مني، أجابه الإمام (ع): "إن كانت هذه الخلافة لك، فلا يجوز أن تخلع لباساً ألبسكه الله، وتجعله لغيرك، وإن كانت الخلافة ليست لك، فلا يجوز أن تجعل لي ما ليس لك".
ويؤكد المحلّلون أنّ عرض الخلافة على الإمام (ع) لم يكن جدّياً من شخص كالمأمون، قتل أخاه لأجلها، وهو إن برّر دافعه ذلك بأنّه يريد بأن يبرّ بنذر نذره لله إذا ظفر بأخيه أن يدفع الخلافة إلى ولد عليّ (ع)، فإنّه – في الواقع – كان يبيّت غاية يريد أن يعرف بدهائه بها نوايا الإمام (ع) من هذه المسألة، فإذا ما رأى رغبة حقيقية لديه فيها، فإنّه يسقيه من الكأس التي سقى منها من نازعه فيها، وانه كان يمهّد – أيضاً – بذلك لفرض ولاية العهد عليه التي لها مبرّراتها هي الأخرى[9]، غير أنّ الإمام (ع) قبل ولاية العهد مكرهاً بعد إصرار شديد من المأمون على ذلك، وتهديده له بالقتل إن استمر في ممانعته. فقد نقل عن المأمون قوله للإمام (ع): "إنّ عمر جعل الشورى في ستة أحدهم جدّك (علي (ع)) وقال: من خالف فاضربوا عنقه، ولابدّ من قبول ذلك"[10].
وقال الإمام الرضا (ع) في جواب سؤال الريان بن الصلت له، عن سرّ قبوله لولاية العهد: ".. قد علم الله كراهتي لذلك، فلما خُيّرت بين قبول ذلك وبين القتل، اخترت القبول على القتل. ويحهم".. إلى أن قال: "ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك، على إجبار وإكراه، بعد الاشراف على الهلاك..."[11]. وكان الإمام (ع) يعرف أنّ رفضه لولاية العهد سوف يعرّض – أيضاً العلويين وكلّ من يتشيّع لهم لأخطار انتقام هم في غنى عنها. ولذلك قبل الإمام (ع) ولاية العهد مكرهاً وهو باكٍ حزين، وكانت البيعة له في السابع من شهر رمضان سنة 201هـ، حيث كتبت المأمون وثيقة البيعة، وقام الإمام (ع) بالكتابة على الجهة الثانية مبيناً الاستجابة. غير أنّ الإمام (ع) اشترط مع القبول الرمزي لولاية العهد أن لا يتدخّل في شيء من أمور الحكم، وأن لا يتحمّل أيّ مسؤولية في الدولة، كي لا يجعله المأمون غطاء لسياساته وألاعيبه.
وما إن أعلن الإمام (ع) موافقته، حتى راح المأمون يعلن هذا النبأ العظيم على الناس، وينشره في الأرجاء الإسلامية مسمّياً الإمام (ع) بـ"الرضا"، وداعياً إلى إبدال الشعار العباسي – لباس السواد – بالشعار الأخضر ولبس الثياب الخضر. وفي اليوم المحدّد للبيعة أقبل القادة والوجهاء والقضاء للمبايعة وهم يلبسون الملابس الخضراء، وأمر المأمون ولده العباس ليكون أوّل المبايعين، وهكذا كانت مراسيم البيعة حافلة بالإجلال والعناية واهتمامات المأمون، فتوافد الشعراء والخطباء والمهنئون، وبذلت الأموال والهدايا والأعطيات، وخطب الإمام في هذا المجلس الحافل بكلمات وجيزة بليغة تحمل في طياتها موقفه الحذر من السلطة وعدم تجاوبه معها.
واستمر المأمون – مبيّتاً أهدافه الحقيقية – في اتخاذ الاجراءات التي تؤكّد موقع الإمام، ليقنع الأُمّة بجدّية خطوته هذه، فأصدر نقوداً باسم الإمام الرضا (ع)، وأمر خطباء الجمعة في الأقطار كافة أن يذكروا اسم الإمام وتوكيد ولاية العهد، كما زوّجه من ابنته أم حبيب، وزوّج ابنته أمّ الفضل من الإمام محمد الجواد (ع) ابن الإمام الرضا (ع).
صلاة العيد:
حدّث التاريخ أنّ موقفاً إعلامياً ضخماً حدث لصالح الإمام ولصالح أهل البيت (ع) أيام تولّيه لولاية العهد، وفي الوقت نفسه كشف هذا الحدث نوايا المأمون وأهدافه المبيّتة، فقد أراد المأمون أن يمارس الإمام عملياً فعلاً يتعرّف الناس من خلاله عليه، فطلب من الإمام إقامة صلاة العيد، فاعتذر الإمام (ع) عن ذلك مذكّراً المأمون بنصّ العهد الذي اشترط فيه عدم ممارسة أيّ شأن من شؤون الدولة. ولكنّ الإمام بعد إصرار المأمون استجاب للطلب وخرج، وكان خروجه مفاجأة للجماهير الكبيرة المحتشدة ومعها الوجهاء والعلماء ورجال الدولة. وكان لخروج الإمام بمظهر الخاشع المتبتل بعيداً عن مظاهر الأبهة والملك خلافاً لما ألفه الناس في هذه المناسبات، أثره العميق على الحشود التي انشدّت بعواطفها إليه، وذكّرتها طلّته بهيئة رسول الله (ص) وسيرته، فتحوّل الأمر إلى مهرجان صاخب يعلن الحبّ والولاء لأهل البيت (عليهم السلام). ولذلك خاف أركان السلطة من هذا التحوّل، ونصح الوزير الفضل بن سهل المأمون بأن يطلب من الإمام العودة وعدم إتمام الصلاة، وهكذا كان.
مبرّرات ولاية العهد بين المأمون والإمام (ع):
لم يكن للمأمون هدف من وراء هذا المشروع سوى الاحتفاظ لنفسه وللعباسيين بموقع الخلافة والسلطة، حيث إنّ التظاهر من قبله بالتشيّع لأهل البيت (عليهم السلام) وبإبداء التأثّر بشخصية الإمام الرضا (ع) لم يكن ليقنع الإمام ولا المطّلعين على قصده المبيّت، والمؤرّخون يرجّحون أنّ ما فعله ما هو إلّا عمل سياسي يستهدف تهدئة الأوضاع، وامتصاص روح الثورة والنقمة عليه. فلقد كان المأمون بحاجة لانقاذ موقفه إلى إخماد ثورات العلويين، واستئصال العطف الذي كانوا يتمتّعون به، وإلى حصوله منهم على اعتراف بشرعية خلافته، وإلى اكتساب ثقة العرب ومحبتهم لأنّهم كانوا يميلون إلى أخيه الأمين، وإلى استمرار تأييد الخراسانيين الذين كانوا يميلون لأهل البيت (ع)، وكذلك لإرضاء العباسيين الناقمين منه، وأخيراً حتى يأمن الخطر الذي كان يشعر أنّه يتهدده من شخصية الإمام (ع) الفذة، التي كانت تملأ جوانبه رعباً، وأن يتحاشى الصدام المسلح معه، وأن يمهّد الطريق للتخلّص منه بوضعه تحت المراقبة الدائمة ومنع الاتصال به، والقضاء عليه في النهاية قضاء مبرماً. وهذا ما رمى إليه من إلزام الإمام (ع) بشتى الطرق للقبول بولاية العهد.
أما الإمام الرضا (ع) الذي عرف أنّ لا مناص له من قبول ولاية العهد، فقد عمل على وضع خطة لإحباط أهداف المأمون. ومنها: أنّه لم يدع فرصة تمرّ إلا ويؤكد فيها أنّ المأمون أكرهه على هذا الأمر، وأنّ المأمون لم يجعل إلا ما هو حقّ له، وأنّه لم يزد بذلك على أن أرجع الحقّ إلى أهله. ومنها النصّ الذي كتبه في وثيقة العهد التي ستقرأ في مختلف الأقطار، والذي فيه تأكيد على حقّ العلويين وفضلهم وتقدّمهم، وكان له في ذلك هدف إعلامي محقق، ومنها موقفه السلبي من ممارسة شؤون السلطة مما يعني أنّه يريد أن يفهم الناس حقيقة موقفه الرافض للاعتراف بشرعية النظام العباسي، وعدم رضوخه لتنفيذ إرادته ومخططاته.
شهادته (ع):
بعدما عرفنا عدم قدرة المأمون على استخدام قضية ولاية العهد لصالحه إذ أصرّ الإمام (ع) على إظهار شخصيته المتميزة، ولما كانت تثيره هذه الشخصية الفذة من حسد لدى المأمون بعدما رأى أنّ الإمام (ع) يزداد رفعة بين الناس، واتساعاً لقاعدته الشعبية باطراد، بالإضافة إلى موقف العباسيين الذين ازدادت نقمتهم على المأمون بعد ولاية العهد للإمام (ع) بالإضافة إلى وشايات الفضل والحسن ابني سهل، فإنّ المأمون وكما يؤكد المؤرّخون وجد أن إنقاذ نفسه وحكمه يستدعي منه تصفية الإمام جسدياً، وهو الذي لم يتورّع عن قتل أعوانه واشدّ المقرّبين منه، وهكذا فعل كما بيّنت أكثر الروايات، حيث دسّ له السمّ بطريقة تبعد عنه الشبهة، إذ وضعه بعناية في عنب أو رمان قدّمه للإمام وهما في طريقهما إلى بغداد بعدما أشار عليه الإمام بالذهاب إليها لإنقاذ حكمه. وكان ذلك في مدينة طوس التي دفن فيها في دار حميد بن قحطبة إلى جوار قبر الرشيد، وذلك في اليوم الأخير من شهر صفر سنة 203هـ.
وقد حاول المأمون بإظهاره الحزن والأسف الشديد على الإمام أن يدفع التهمة عنه، وأن يبيّن لجماهير الناس الغاضبة – بعدة محاولات – أنّه مات حتف أنفه، وهذا ما التبس أيضاً على بعض المؤرّخين الذين أنكروا أن يكون المأمون قد دسّ له السمّ، إذ الأمر يتعارض مع ما كان المأمون يظهره من محبة وإجلال وإعظام له! ولكنّ أكثر الناس ممن كان حول المأمون والإمام (ع) والخاصة منهم تحديداً، كانوا مقتنعين تماماً أنّ المأمون اغتاله، وقد وجّهوا له الاتهام مباشرة في حينها، وكاد الأمر أن يفلت من يده لولا أنّه بدهائه قد عمل على تهدئة الموقف.
وقد سُئل أبو الصلت الهروي المقرّب من الإمام (ع): كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا (ع) مع إكرامه إياه ومحبته له؟! فأجاب: فلما أعيته الحيلة في أمره اغتاله، فقتله بالسمّ.
وعن الطالقاني: إنّه متى ظهر للمأمون من الرضا علم وفضل حسن تدبيره حسده على ذلك وحقده عليه حتى ضاق صدره منه، فغدر به فقتله[12].
وحدّث الرواة عن أبي الصلت الهروي أنّه قال: دخلت على الرضا (ع) – بعد تسميمه – وقد خرج المأمون من عنده فقال لي: "يا أبا الصلت قد فعلوها وجعل يوحّد الله ويمجّده"[13].
ولم يكتفِ المأمون بقتل الإمام الرضا (ع) بل لقد قتل سبعة من إخوته لأنّهم طالبوه بدم أخيهم أو كادوا، وألحق بهم ما شاء الله من تابعهم أو خرج معهم..
كل هذه الجرائم ارتكبها وهو يحاول جاهداً أن يعطي انطباعاً بأنّه متشيّع لأهل البيت (عليهم السلام) وراغب في إنصافهم وإرجاع ما لهم من حقِّ!!
ومقام الإمام اليوم مقام شامخ تفد الملايين إليه ويزدحم ضريحه الشريف بمحبّي أهل البيت (عليهم السلام) وقد عظّمت المدينة التي دفن فيها (طوس) فصار اسمها (مشهد).
الهوامش:
[4]- ابن الصباغ المالكي، الفصول المهمة في أحوال الأئمة، ص145.
[5]- ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج6، ص302-305.[6]- أبو الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبين، ص358-359.
[7]- م. ن. ص375.[8]- الحياة السياسية للإمام الرضا (ع)، السيد جعفر مرتضى العاملي، ص277، نقلاً عن عدد من كتب التاريخ منها: البداية والنهاية، وينابيع المودة، ومقاتل الطالبيين، وعيون أخبار الرضا (ع).
[9]- م. ن. ص285-298. [10]- مقاتل الطالبيين، ص562-563.[11]- الحياة السياسية للإمام الرضا (ع)، نقلاً عن "مناقب آل أبي طالب" ج4، ص1363.
[12]- م. ن. ص426، نقلاً عن عيون أخبار الرضا (ع) والبحار.
[13]- سيرة الأئمة الأثني عشر، السيد هاشم معروف الحسني، ص423.
المصدر: مجلة نور الإسلام/ العددان 55 و56 لسنة 1995
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق