• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

العمارة الإسلامية.. بصمات خالدة عن البناء الأوروبي

العمارة الإسلامية.. بصمات خالدة عن البناء الأوروبي

◄في نطاق فن المعمار نجد الأثر الإسلامي يظهر في أسبانيا أوّلاً ثم ينتقل منها إلى فرنسا ثم إلى سائر بلاد أوروبا. وبدأ هذا الأثر خصوصاً بعد أن استعاد الأسبان طليطلة سنة 1085م واستمر ينمو ويزداد كلّما توغل الأسبان في عملية الاسترداد حتى آواخر القرن الخامس عشر.

وينقسم التأثير إلى قسمين: قسم يكاد يكون عربياً خالصاً وهو الفن المدجن، أو المعمار الذي قام بتشييده المدجنون، وهم العرب المسلمون الذين بقوا في البلاد التي استعادها الأسبان، وكان منهم بناءون مهرة استعان بهم حكام المقاطعات الأسبانية في تشييد الأبواب الكبرى للمدائن وفي تشييد القصور والكنائس والأديرة والقناطر وسائر أنواع المعمار.

والقسم الثاني: وهو الذي يعنينا خصوصاً هنا، التأثيرات الإسلامية في معمار ظلّ طابعه العام أوروبياً، وهو المعمار المعروف بالرومان. وينقسم التأثير بدوره إلى قسمين: تأثير في التصميم المعماري، وتأثير في التزويق أو الزخرفة المعمارية، وإلى القسم الأوّل يرجع ظهور الأقبية ذوات التنوءات والأبراج المستقلة ذوات القواعد المربعة أو على شكل مآذن، وإلى التأثير في الزخرفة يرجع استعمال الأقواس التي على شكل نعل الفرس. والأقواس ذوات الفصوص والإطارات المستطيلة المحيطة بالأقواس، والحوامل البارزة ذوات التقاطيع والفصوص المجوفة والوحدات الزخرفية المستلهمة من فن الكتابة الكوفية.

وسرعان ما انتقلت هذه التأثيرات من المعمار الروماني الطراز في أسبانيا، إلى المعمار الروماني في فرنسا عن نفس الطريق الذي انتقلت به الموسيقى ـ أعنى الوافدين من فرنسا إلى شنت يعقوب في شمال أسبانيا، ثم بحكم التجاور بين بلاد البشكونس "الباسك" في أسبانيا وفرنسا، وكذلك عن طريق الكنائس الكلونية.

والقوس المفصصة نجدها تنتشر في المعمار في غرب فرنسا، وتمتد حتى إقليم البوروجوني، بفضل تأثير المعمار الذي أنشأه دير كلوني. وكانت هذه القوس أحياناً من ثلاثة فصوص، وأحياناً أخرى من أربعة، لكن لما كان انتقال هذا التأثير قد تم عن طريق المشاهدة، لا عن طريق البنائين أنفسهم، فإنّ رسم الأقواس المفصصة لم يكن بنفس الدقة والمهارة اللتين نجدهما في الأقواس المعمارية الإسلامية.

والإطار المستطيل المحيط بالأقواس نجده في إقليم البورجوني بفرنسا، خصوصاً في Cluny وشارلييه Charlieu وباريه لومونيال ونرى أثر هذا الإطار المستطيل المحيط بالأقواس في غسقونية وبواتو إذ نجد بوابات تنتشر فيها الزخرفة من الزوايا التي يحيط بها المستطيل.

ثم أنّ المفاتيح المتبادلة المثناة اللون التي نجدها في الفن الروماني إنّما ترجع في أصولها إلى المعمار الإسلامي، كما يتمثل خصوصاً في مسجد قرطبة.

هذا فيما يتصل بتصميم المعمار، أمّا في الزخرفة فالتأثير أقوى بكثير، وعلى رأسها الزخرفة الكوفية بجلال خطوطها وأناقتها. إنّ الخطّ الكوفي هو باعتراف كبار مؤرخي الفن أجمل خطّ عرفه الإنسان، لهذا كان تأثيره على الفنانين الأوروبيين عميقاً كلّ العمق، ومن ثم سرعان ما قلّدوه. ومن هنا نجد زخرفات كوفية في أبواب وواجهات كثير من الكنائس في أوروبا في العصر الوسيط، بل وأيضاً نجدها في زخرفة الأثاثات "الموبيليات" وخصوصاً في باب كنيسة بوى وكانت العاصمة القديمة لمقاطعة فيليه بحوض اللوار الأعلى في غربي فرنسا، وكذلك في واجهات كثير من الكنائس الرومانية في غربي فرنسا. والغريب أنّنا نجد في هذه النقوش تحميدات إسلامية، نقلها الفنان الأوروبي المسيحي دون أن يتبيّن معناها! وأحياناً أخرى نجد الفنان الأوروبي قد عبث بالحروف حتى أصبح من غير الممكن قراءتها لأنّه لم يكن يفهم معناها، وكان يشكّل فيها على هواه.

أمّا الحوامل البارزة ذوات التقاطيع Modillons a copeaux  وهي التي نجدها خصوصاً في جامع قرطبة الكبير، فإنّنا نعثر عليها في كثير من الأبنية ذات الطراز الروماني، وبخاصّة في مقاطعة أوفرن في قلب فرنسا، لكن سرعان ما تطوّر بها الفنان الأوروبي وحوّرها تحويرات كثيراً ما باعدت بينها وبين أصلها في الفن الإسلامي الأندلسي.

والأقبية ذوات النواتئ، وقد انتشرت خصوصاً في قرطبة، نجدها في الكنائس الرومانية والكنائس القوطية في شمال أسبانيا، كما في كنيسة طوريس دل ريو وكنيسة سان ميان في أشقوبية ومن الآراء التي لها وجاهتها القول بأنّ القبو ذا النتوء، الذي انتشر في المعمار الأموي في الأندلس، قد ساهم في اختراع متقاطع الأوجيف، الشهير في الفن القوطي La Croisee dogives، لما هناك من صلة واضحة بين الأقبية ذوات النواتئ وبين متقاطع الأوجيف، كذلك نجد أثر المعمار الإسلامي في تعدّد ألوان الواجهات في بعض الكنائس، وخاصّة في إقليم الأوفرن، وكان المعمار الإسلامي في قرطبة مولعاً بهذا اللون، خصوصاً عن طريق استخدام الأحجار والآجر معاً في البناء، ونجده أيضاً في بعض تيجان الأعمدة الرومانية التي تختلف كثيراً عن الطراز الشائع، وهي في الواقع من تأثير الفن الأموي الأندلسي، كما هو مشاهد في بعض تيجان الأعمدة في سان جييم ودير سان خوان دي دو يرو في سوريا بأسبانيا وسان بدرو في الروضة بجنوب أسبانيا►.

 

المصدر: كتاب دور العرب في تكوين الفكر الأوروبي

ارسال التعليق

Top