• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الإسلام والغرب.. من الاحتكاك إلى الاختراق

الإسلام والغرب.. من الاحتكاك إلى الاختراق

◄منذ عودة الإسلام إلى المسرح السياسي واستئناف دوره الميمون، والعديد من الدوائر المعنية بإدارة الصراع منشغلة - إلى حدّ الانهماك - بتسخين قضايا، سبق وأن سجّلت حضورها في تاريخ الفكر، وخاصّة على مدى القرنين الأخيرين.

وبديهي أن ينصب الاهتمام حول علاقة الشرق بالغرب، أو بعبارة أدق علاقة الغرب بالإسلام، إذ لا يزال الجدل محتدماً، حول هذه النقطة، مع ضرورة التذكير أنّ هناك جهات معلومة وأخرى خفيّة تحاول دفع الأمور إلى مديات مخيفة من التصعيد والتعقيد فالتصادم.

وليس بخاف أنّ التلاقي بين الإسلام والغرب - بما هما نموذجان حضاريان - قد خضع لقاعدة الهجوم والهجوم المضاد المباشرين، على خارطة واضحة المعالم، وفي فترات زمانية غير متباعدة نسبياً.

على أنّ من الواضح تماماً أنّ الغرب لم يكن هو التحدي الأوّل الذي واجه الإسلام، وإن كان ذلك لا يعفينا من الاعتراف بأنّه الأخطر. فلقد مرّت فترات من الخطر الشديد - كما يقول برنارد لويس - كان الإسلام مهدداً فيها، في الوقت نفسه، من الشرق والغرب، غير أنّ الإسلام تغلّب عليها، واجتازها دون أن يتأثر. جاءه الأتراك غزاة فاتحين، فتحوّلوا إلى مسلمين مؤمنين، وتمثلهم المجتمع الإسلامي الكبير، فانصهروا في بوتقته، وبهذه القوّة والحيوية تمكّن الإسلام من الصمود، بل من دحر غزوات أعدائه الصليبيين الذين جاءوه من الغرب.

ثمّ واجه الإسلام، بعد ذلك ضربتين، أشد وأقصى وأحدث وأخطر، فلقد سُحق الشرق الإسلامي مرّتين، واحتله الغُزاة الأجانب الذين سيطروا عليه بقوّة السلاح. وعلى الرغم من أنّهم لم يستطيعوا تحطيم حضارته الإسلامية القديمة الأصول، فإنّهم "لغّموا" ثقة الذين صانوا هذه الحضارة بأنفسهم، وهكذا حوّلوا وجهتهم نحو اتجاهات جديدة.

أولى هاتين الضربتين، كانت الغزو المغولي في أواسط آسيا، التي حطمت الخلافة القائمة، وأخضعت للمرّة الأولى، منذ عهد النبوّة، قلب العالم الإسلامي لحُكم غير إسلامي.. أمّا الثانية، فهي: تأثير الغرب الحديث.

والذي يبدو أنّ الضربة الثانية كانت أقسى وأشد خطراً من الأولى، فقد استطاع الإسلام بقوّته الذاتية أن يؤثر في التتار (المنتصرين) ويجذبهم إلى ساحته، فتقع المعجزة الإسلامية، ويدخل التتار في دين الله أفواجاً، ويسجل التاريخ - مرّة أخرى - اعتناق الغالبين دين المغلوبين.

أمّا الضربة الثانية، فمازال العالم الإسلامي يقاسي آلامها، ويعاني آثارها إلى اليوم، ومن نافلة القول التذكير بأنّ ذلك ما كان ليحدث، لولا وجود أسباب شتى (منها الداخلية ومنها الخارجية)، وهي ما أطلق عليها المفكر الإسلامي مالك بن نبي ظاهرة (القابلية للاستعمار). وفيما يخص الغرب فقد طلائعه قد تسللت إلى ديارنا واطلعت على خبايانا، ومن ثم دخلت "بيت العنكبوت" - كما تسميه الجاسوسة البريطانية (غرترودبل) - لتتعّرف على كلّ خيط فيه!

وهنا، نجد أنفسنا ملزمين بإثارة التساؤلات المشروعة والملحة: كيف تمّ ذلك الاختراق الكبير ومتى، وما هي الأساليب التي مكّنت الغرب من التسلل إلى ديارنا، وماذا عن: الأهداف، الخلفيات، والأبعاد، ثم - وهذا مربض الفرس بالنسبة لمسار البحث - مَن هم أخطر اللاعبين في هذه اللعبة الكبرى، وما هي الطرائق التي تذرّعوا بها، وتدرّعوا فيها - متنكرين - كغطاء مناسب لمهمّاتهم السرّية الكبرى؟!

إنّ بعض الجواب نجده في المانشيتات وهي تتصدّر، اليوم، صفحات كبريات الصُّحف الغربية، وفي تعليقات نشرات الأخبار، وفي عناوين الندوات المتواصلة التي تنظمها - عادةً - مراكز البحوث الإستراتيجية ذات الصلة الوثيقة بمراكز القرار، وفي تصريحات هذا السياسي اللامع، وتحليلات ذاك (الإستراتيجي) المرموق أو المغمور حتى.. إلخ، والتي يجمعها - على تعدد مشاربها - هذا القلق المتزايد من إمكانية أن يستأنف الإسلام مسيرته ثانية.

كما ونجده في هذا التخريب واسع النطاق، والتشويه المتضمن هذا التحقير المستمر المذهل للإسلام - كمنظومة من منظومات الإيمان - باعتراف أحد كبار الخبراء الذين تعتمدهم أوساط الغرب الأكاديمية وهو ألبرت حوراني.

ونجده أيضاً في تعامل الخبراء الأكاديميين الغربيين المتخصصين في الإسلام مع الإسلام، إذ تناولوا - وما يزالون - في الغالب الأعم، هذا الدين وثقافته ضمن إطار آيديولوجي اصطنعوه، أو هو إطار مقرر ومحدد ثقافياً، إطار مفعم بالانفعالات العاطفية والتحيّز الدفاعي، بل بالاشمئزاز أحياناً، وقد جعلت هذه الخلفية - أو هذا الإطار - فهم الإسلام أمراً عسير المنال.

ونجده - على أرض الواقع - في هذا "التدافع الحضاري" - كما يحلو للبعض تسميته، هنا وهناك - ولسنا بحاجة إلى سرد الأدلة الثبوتية على ضلوع الغرب في خطة التآمر على الإسلام، لا في دياره وحسب، بل وحتى في الغرب نفسه. ففي اللحظة التي ينطلق فيها صوت (من داخل الغرب) يتحدّى مؤامرة الصمت هذه، تصبح الآيديولوجية والأصول العرقية هي الموضوع الرئيس حيث تنهال عليه شتّى التهم، ويعرض إلى ضغوط هائلة وإرهاب فكري، من قبيل ما تعرّض له المفكِّر الفرنسي المسلم (رجاء غارودي) في أعقاب نفيه حصول مجازر ضد اليهود في كتابه (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية).

وقد وصف غارودي الهجمة الشرسة التي تستهدفه، قائلاً: "ما اتعرّض له الآن أشبه بعمليات الشنق (في الأشجار دون محاكمة) التي كانت سائدة في أمريكا زمن رعاة البقر".

كلّ هذا يجري في عالم الغرب، في الوقت الذي يدير فيه هذا الغرب عينيه وبلا مبالاة، إن لم يكن في شماته، عمّا يدور من مجازر، يندى بها جبين البشرية، على بُعد خطوات من قلب أوروبا، ونعني بها الجرائم التي ارتكبت ضدّ الإنسانية في البوسنة.

والواقع - حسب إدوارد سعيد - إنّك لا تجد شيئاً في دراسة الإسلام "حراً"، ولا تقرره الضغوط الملحة المعاصرة.. وما أبعد هذا عن الموضوعية غير السياسية التي يزعمها كثير من الباحثين المستشرقين فيما يقومون به، فضلاً عمّا تعنيه هذه الصورة المختزلة للإسلام من دلالات وخلفيات، وتلا ذلك، تكمن عاقبة أخرى في استمرار الإحاطة بمعنى الإسلام أو رسالته وتطويقه وقولبته.

نعم، إنّ هذا "بعض الجواب" - كما ذكرنا -، أمّا ظلال الجواب - على صعوبته غير اليسيرة -، فيمكن تلخيصه بما يقوله الدكتور سمير سليمان: "إنّ محاولات تطويق الشرق الإسلامي لابتلاعه بالقوّة، واستغلال ثرواته، ونقض مشروعه الكوني، وتخريب أصوله بعد استهلاك إنجازاته الحضارية.. إنّ هذه المحاولات ليست من المستحضرات الآيديولوجية المتأخرة زمانياً، بل هي مشروع قديم أنجزت وعوده الكبرى بعد الحرب العالمية الأولى".

ولو حاولنا تتبع كلّ خيوط هذه المؤامرة، أو ما يعبر عنها بنظرية التواطؤ الكبرى، فإنّ ذلك فوق الطاقة، فضلاً عن أنّه يحتاج جهداً ووقتاً، لا نملك من مستلزماتهما ما يكفي لإنجاز هكذا مشروع واسع، وحتى لو توافر هذان العاملان وما سبقهما، فإنّ عقبة كأداء تحول دون المضي في إنجاز المشروع على أتم وجه، بسبب أنّ الكثير من ملفات الاختراق الغربي للمشرق الإسلامي لم يسمح حتى الآن بالاطلاع عليها، رغم مرور الزمن الطويل عليه.

إنّ ذلك يعتبر من الأسرار الإستراتيجية العليا، التي لا يمكن - بأيّة حال - التفريط بها، أو التهاون في التعاطي معها. ولكن ذلك، لا يثنينا من المضي في تسليط بعض الأضواء الكاشفة على عملية "الاختراق" تلك.

وممّا لا يخفى على الباحثين والدارسين، أنّ الصرح الشامخ للمسيرة الإسلامية قد تعرّض لكثير من الأعاصير التي فتحت العيون على وجود تشققات وتصدعات في بنيانها الضخم، وبعث بهذا القدر أو ذاك من النمط المجتمعي الإسلامي بكلّ ما حمله في داخله من صراعات.. وما خاض مع خارجه من معارك، وما عرفه من اختراقات، وما مارسه من كفاح ضدّها.

ولعلّ ما شهده القرن التاسع عشر والقرن العشرون، من اجتياح صليبي واسع النطاق، هو آخر ما شهده المجتمع الإسلامي، من مواجهات تسببت في انقطاع مساره التاريخي، في كلّ الميادين، وفي مختلف أنماط الحياة، حيث عكف المستعمر على تفتيت وحدة الأُمّة وتمزيق جسدها الواحد إلى أجزاء، على أساس يقترب غالباً من كياناتها التي سبقت مجيء الإسلام، وطفق يزرع فيها نمطاً اجتماعياً اقتصادياً "حديثاً" تدعمه دولة التجزئة من أجل قطع الصلة أو التواصل بالنمط المجتمعي الإسلامي.

إنّنا أمام غزو متعدد الجبهات، ومتنوع الأنماط: عسكرياً، وسياسياً، واقتصادياً، وفكرياً.. بمعنى أنّه اختراق حضاري وليس أمنياً أو سياسياً وحسب، كما يبدو ذلك لأوّل وهلة.. ولاريب في أنّ الاحتلال العسكري، والتحكّم السياسي، والنهب الاقتصادي، إجراءات أساسية في فرض السيطرة الاستعمارية، لأنّ الغرب ما كان باستطاعته أن يحكم قبضته على بلاد العرب والمسلمين إلّا من خلال العنف العسكري بداية، ثمّ إحكام السيطرة السياسية والاقتصادية، ولكن ذلك ما كان كلّ شيء، لأنّ قادة الغرب من سياسيين ومفكرين ومنظرين أدركوا أنّ إحكام تلك القبضة، يتطلب ما هو أبعد وأعمق وأقوى.. لقد أدركوا أنّ الأمر يتطلّب تحطيم أُسس المقاومة الداخلية وإقامة أُسس لتبعية دائمة وقيمة.

تلك أبرز ملامح المؤامرة، ولعلّ من أخطر وسائلها القديمة - الجديدة اليوم، إنّما تكمن في محاولات الاختراق للمؤسسات الإسلامية، ومواقع العمل الإسلامي، ومحاولة الانحراف بها من الداخل، لإخراجها من الإسلام، أو لحملها على ممارسات تشوّه صورتها.. ولقد تبيّن أنّ طرح القيم الثقافية والسياسية في بلاد المسلمين كان لوناً من الغزو، لتحقيق العمالة الحضارية، والثقافية، التي تمكّن وتقود للعمالة السياسية.. ومحاولات هذا الاختراق الثقافي ستبقى دائمة ومستمرة.

وهذه هي حكاية الاختراق، والتي لعب فيها الاستشراق دوراً بارزاً، في تشكيل إطار ابتدعته العواطف والأهواء والانحياز والمصالح السياسية. ومن هنا، لا يعده بعض الباحثين بأنّه أشد انحيازاً من غيره من العلوم الإنسانية والاجتماعية وحسب، بل إنّه مؤدلج ملوّث بأدران العالم.

وهكذا كان "البناء الاستشراقي" في بعض مجالاته، حصيلة ونهاية لصدام الغرب مع الشرق، وهو مزيج من العداء السياسي والكراهية.. وإنّ الرحّالة والمستشرقين كانوا مقتنعين بانتمائهم إلى إمبراطوريات استعمارية. والاستشراق نوع من الارتباط المصلحي بين كُتّاب وأفراد وبين مؤسسات استعمارية طموحة لمعرفة الشرق، ومن أجل امتداد تلك الإمبراطوريات إلى ما وراء البحار.

وخلاصة القول: إنّ قوى الغرب الاستعمارية كانت كالإنسان الذي يعمل على فتح شهيته للطعام عبر عملية "القضم والهضم والضم"، فلابدّ من مقبلات، ولم يكن جيش المستشرقين وكُتّابهم سوى تلك المقبلات التي فتحت شهية الاستعمار الغربي في بلادنا، أو بالأحرى "جهاز الرصد المتقدم للإدارة الاستعمارية التي هي صاحبة مصالح ومطامع حقيقية في المنطقة الإسلامية".

- بدايات التعرُّف على الشرق

بدأ الغربيون بالتدفق إلى المشرق الإسلامي، وبشكل تصاعدي ملحوظ، وخاصّة منذ النصف الأوّل من القرن السابع عشر، حيث شهد عدداً متزايداً من العلماء والتجار والرحّالة الذين اهتموا بالمشرق الإسلامي، وقبل أن يمر وقت طويل حتى توافد إلى الشرق عدد كبير من: الرحّالة والكُتّاب والشعراء والرسّامين والمصوّرين والمغامرين والعملاء الأوروبيين لا يمكن ذكرهم جميعاً.

ومنذ القرن الثامن عشر، بدأ في تاريخ الريادة إلى شبه جزيرة العرب ما يمكن أن يُسمّى بالريادة الحقيقية، بكلّ ما في الكلمة من معنى، وكانت أهداف رواد هذه الفترة متعددة متباينة، فبعضهم كانت أغراضه سياسية، وبعض آخر كان من عُشّاق المغامرات.

وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومع تزايد قوّة أوروبا، وفي ظل تألق العصر الفكتوري (نسبة إلى الملكة البريطانية فيكتوريا 1819-1901) والتي حكمت انجلترا منذ عام 1838، تزاحمت في الشرق حملات واسعة النطاق، مؤلفة من مجموعات من الجامعيين، ورجال الأعمال، والعسكريين، والموظفين، والمرسلين المبشرين، والفنيين، والمغامرين... إلخ، حيث انجذب العديد من هؤلاء إلى حياة الشرق الساحرة، وإلى أُفق الصحراء الواسعة، وحياة البدو الحرّة، وكأنّ الشرق "اكتشاف" جديد لديهم!

جاء بعضهم يبحث عن الغريب والطريف، وآخر عن الحقيقة والحرّية، وغيره من الآثار ومعالم الكتاب المقدس. منهم مَن حمل النوايا التوسّعية، وعمل لحساب حكومته، ومنهم مَن جاء فقط يبحث عن المنطق. تدفُّق لم يتوقّف في القرون الماضية، خصوصاً في القرن التاسع عشر، لاستكشاف هذا المشرق القريب والبعيد في آن معاً: قريب في المسافة (إذا قورن بالهند والسند)، وبعيد في عاداته وأعرافه وأنماط حياته وطبيعته.

لقد جاب العديد من هؤلاء - رجالاً ونساءً - مناطق مختلفة، خلال مراحل مختلفة، وقام بعضهم بنشر الصور عن الأمكنة التي زارها، وفي بعض الحالات عشقها ومات فيها.

ثمة ظاهرة مثيرة ولافتة للنظر، في الوقت نفسه، وقد رأينا تصاعد وتائرها، في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، تلك هي أنّ عدداً لا يستهان به من الغربيين الذين جاسوا الديار (وقد استوطن بعضهم فيها سنين عديدة) قد تظاهروا باعتناق الإسلام، وأطلقوا على أنفسهم أسماء إسلامية صارخة، فيما مكث قسم منهم في بيت الله الحرام بضع سنين، واندسّ قسم آخر إلى أروقة الأزهر والنجف. أمّا الباقون، فقد توغلوا في عمق الصحراء، ودخلوا إلى "بيت العنكبوت" - كما تقول المس غرترودبل - ليتعرّفوا على كلّ خيط فيه، إن لم يتمكّنوا من النفوذ إلى ما تحت طبقات الإبهام، على حد تعبير إدوارد سعيد.

وحيال هذه الظاهرة، تفاوتت الآراء، وتباينت الأحكام على النوايا الحقيقية الكامنة وراء اعتناق هؤلاء الإسلام. فهناك مَن يحسن الظن بهؤلاء، وربّما يشيد بهم، لأنّهم أشهروا إسلامهم، ويعدّ ذلك إحدى (مناقبهم) المعتبرة.

وفي قبال ذلك، هناك مَن يُشكِّك بهؤلاء، وينثر علامات الاستفهام على امتداد خطواتهم، منطلقات وغايات، ولن يتردد لحظة عن اتهامهم بأنّهم كانوا منغمسين في مهمّات سريّة، من قبيل تلك التي يطلق عليها "عملية اختراق"، خاصّة وأنّ جلّ هؤلاء كانوا خبراء شرقيين، أرسلوا إلى الشرق عملاء للإمبراطورية (البريطانية)، وأصدقاء للشرق، وصائغين لبدائل سياسية بسبب معرفتهم الحميمة الخابرة للشرق والشرقيين.

- النوايا الخفيّة

وأيّاً كان الموقف النهائي إزاء هذه الظاهرة، وأيّاً كانت الحقيقة التي تكمن وراءها، فإنّ من نافلة القول أن نذكر بأنّ الخوض في مثل هذه المحاولة لا يخلو من مصاعب ومتاعب! فإنّ المهمّة أو قل المهمّات التي انبرى لها هؤلاء (سواء أكانت المعلنة أو الخفية)، ما يزال يكتنفها شيء غير يسير من الغموض، إذ لم يصلنا من تفصيلاتها سوى الجزء الطافي، فيما لا يزال جبل الجليد غاطساً! وحتى هذه اللحظة، بعد مرور عدّة قرون، على الشروع بتلك المهمّات!.

وفي حدود علمنا، ليس هناك دراسة جادة مستقلة عن الموضوع، وكلّ ما هو موجود فعلاً إشارات عابرة ومتناثرة، هنا وهناك، لا تسمن ولا تغني عن جوع، فكان لزاماً جمع هذا الشتات، وإن كان الكثير منه، يختلف في الاتجاه العام، بيد أنّه يصب، في النهاية، في مادّة البحث.

إذن، الدراسة بكر في هذا الاتجاه.. وإن كانت هناك محاولة، فإنّها قد تطرّقت إلى الموضوع بشكل عابر، ولم تُجدِ نفعاً كبيراً.

وربّما يُثار هنا تساؤل: لماذا هذا النبش في القبور؟! وأي جدوى من وراء "نفض الغبار" عن ملفات أولئك المغامرين الغربيين، بعد كلّ هذه المدة المنصرمة، وهم يجوبون ربوع الشرق الإسلامي وفيافيه، ويخوضون تجربة فيها من المغامرة الشيء الكثير، ومن المهمّات السرّية الشيء الأكثر، على أنّ ذلك كلّه أمسى في ذمة التاريخ، والدنيا - ونحن قد اجتزنا بوابات القرن الحادي والعشرين - هي غير الدنيا، أيام العصر الفكتوري!!.

ورغم وجاهة التساؤل، بيد أنّ ما نريد تأكيده هو: أنّ مغامرات هؤلاء شملت رقعة جغرافية واسعة، من برلين إلى صنعاء، ومن دمشق إلى باريس، ومن بغداد إلى لندن، ومن جدة إلى موسكو، ومن فينا إلى بيروت.

مسرح واسع لعب فيه كلّ هؤلاء الناس لعبهم بشروط لا تختلف كثيراً عن شروط اليوم، وإن كانت أكثر إثارة وخطراً، إلّا أنّ أهم ما فيها، هو أنّ ما بدأه هؤلاء المغامرون الأوروبيون، قبل نحو قرنين، مازال مستمراً في بلادنا إلى اليوم بأسماء جديدة، وللأهداف القديمة نفسها، كما يؤكد ذلك الكاتب العلماني العربي رياض نجيب الريس في كتابه (جواسيس العرب.. صراع المخابرات الأجنبية).

وعليه، يخطئ مَن يظن أنّ عصر الاكتشاف الأوروبي للعالم القديم قد انتهى بعد أن أصبحت جميع الأمور واضحة جلية، وبعد أن تطوّرت وسائل الاتصالات والمواصلات. فالشعوب والحكومات يلتقي بعضها مع بعض في العديد من المناسبات، والعالم مفتوح على الجميع، ولكنّ التطور العلمي لا يعني بالنسبة للغربي معرفة كلّ شيء عن شعوب الشرق وعاداتهم، ولا يعني كذلك أنّ عامل الإثارة قد اختفى ليكف المغامرون عن خوض غمار البحث عن خفايا الشرق. وهو في النهاية لا يعني انتهاء المصالح، بل ازديادها وتشعّبها وتواصل جذورها.

إنّ الشرق مازال ملفوفاً بالغرائب والأسرار بالنسبة للغربيين، وإنّ قصصاً وأساطير عديدة تُصاغ عنه، تدفع العديدين إلى تحمّل مشاق البحث، ومخاطر التوغل في أعماق الشرق، لتكون باكورة الأعمال أدباً شيِّقاً، وملاحظات عميقة، ونظرات ذكيّة للتاريخ وواقع الحياة الشرقية، بل لطبيعة العلاقة بين الشرق والغرب.

وقد لا تختلف وسائل النقل، في القرون الماضية، عن الوسائل التي يستعملها مغامرون شباب أو كهول، في سبيل البحث عن الشرق. ولكن الغالب على أدب الرحلات الغربي، في وقتنا الحاضر، هو سرعة الحركة وسرعة الملاحظة.

ولدينا كتابان من هذا الأدب صدرا بالإنجليزية في عقد التسعينيات الماضية، فالأوّل عنوانه: (سيراً على الأقدام إلى القرن الذهبي.. مشياً إلى اسطنبول) لمؤلفه (جيسون كوديون)، والثاني: (ما وراء آرارات.. رحلة في شرق تركيا) لمؤلفته (بتينا سلبي).

والمؤلفات من الرحالة البريطانيين المرموقين، فكلاهما زار جنوبي شرقي آسيا وجنوبها، وكتبَ عن الرحلات في هذه البلاد، وكلاهما يمتلك خلفية تاريخية (بالنسبة لكودوين)، ودينية (بالنسبة لبتينا الحائزة على درجة علمية في الأديان) بالعالم الإسلامي.. والأوّل زار أوروبا حتى تركيا سيراً على الأقدام، والثانية زارت تركيا، في محاذاة البحر الأسود، حتى آخر نقطة من شرقها، بدراجة هوائية.

وهنا بودّنا أن نتساءل عن طبيعة هذا النمط الجديد من (الرحلات)، خاصّة إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار خلفية المؤلفين (التاريخية والجينية) والعلاقة بينها وبين رحلتين شاقتين: إحداهما كانت سيراً على الأقدام.. والثانية بدراجة هوائية!!.

وفي كلّ الأحوال، تبقى هذه الإثارة صفحة مثيرة، ينبغي التوقف عندها، لقراءة سطورها الأخيرة، التي تجرعنا من ثناياها مرارة الكأس، حتى الثمالة. ومازلنا نغصّ بعلقم ثمارها المرة، ونحس جميعاً بوطأتها الثقيلة، عبر هذه المواجهة الضارية (الخفية تارة والسافرة تارة أخرى) مع الصليبية الجديدة.

لذا، فإنّ قدراً من المراجعة الواعية لما حدث - وما يزال يحدث في ديارنا - لهو ضرورة أمست مُلحة، وعلى غاية من الأهمية، لكي نضع أقدامنا بشكل واثق، ونحن نستعيد ترتيب خنادقنا، في هذه المواجهة العنيدة (التي يستأنفها الغرب ضدّنا، رمياً بكلّ ثقله المادّي والمعنوي بالاتجاه المضاد لعرقلة الحالة الإسلامية وتدجينها وإجهاضها).. ومن ثمّ لنستبين خطانا في التحرك المأمول.

إنّ مشهداً خلفياً لذيول تلك المؤامرة الكبرى، الدائرة منذ عشرة قرون، نلحظها في الوقت الراهن عبر هذا التحالف غير المقدس بين قلاع الصليبية الجديدة، متمثلة بوكرها اللاهوتي "الفاتيكان" وما كان يقوم به البابا "يوحنا بولس الثاني" من نشاط مسعور، لضرب الإسلام والمسلمين، بالتنسيق والتواطؤ مع زعيمة الاستعمار الجديد "أمريكا" ومخابراتها المركزية، دون التقليل من أهمية التقارب الحاصل بين الصليبية (بشقيها البابوي والعلماني)، وبين الصهيونية العالمية، الأمر الذي يعيد إلى الذاكرة كلّ الحقد المتراكم عبر قرون مديدة، بكلّ ما حفلت به من عدائية، ومكر، واختراق، وتشويه، وإسقاط.. في غمار "اللعبة الكبرى" بكلّ قواها الفاعلة وأهدافها ومراميها ورهاناتها.

على أنّ الصورة تبقى مشوّشة ومبهمة، ما لم نعمد إلى لملمة أجزائها المبعثرة، وهذا ما يستدعي أن نواكب اللعبة أو قل بعض فصولها ومقاطعها المفصلية، ولو بشكل سريع، منذ بداياتها ومقدماتها المنهجية، حتى نهاياتها ونتائجها المحسوسة، كلّ ذلك ضمن إطار سياقاتها التاريخية، وما قام به لاعبوها الكبار والصغار.►

 

المصدر: كتاب المتظاهرون بالإسلام.. طلائع الاختراق الغربي

ارسال التعليق

Top