◄(قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (طه/ 50).
الحمام الزاجل صورة واضحة عن صور الذكاء لدى الطير
"بيب" القابع في قفصه، يمد رِجله عبر فتحة أعدّت لهذا الغرض.. وأصابعه تقبض على الأكرة الشبيهة بزر تشغيل لعبة من ألعاب الفيديو.. "بيب" يقطب حاجبيه، وعيناه تحدقان في شاشة التلفزيون التي أضيئت منذ لحظة. وفي الصالة المجاورة، يقوم الباحث المشرف على التجربة، وإلى جانبه مساعدُه، بتشغيل برنامج العقل الإلكتروني (الحاسوب). إنها بداية اللعبة، حيث يظهر على الشاشة هدف متحرك. وبدقّة وبسرعة يبادر "بيب" إلى تحريك المقبض أو الزر لكي يطلق قذيفة تصيب الهدف المتحرك. واثر كلّ محاولة ناجحة يرن جرس ويُصدر العقل الإلكتروني أوامره بإسقاط حفنة من الطعام تسقط في أرض القفص كمكافأة على النجاح!
ثم تجربة ثانية أكثر صعوبة: يرتسم على الشاشة حرف الفاء (F) مرتين. ولكن كلّ حرف منهما يخضع لحركة دائرية اتفاقية، بينما يُرى أحد الحرفين مقلوباً كما لو كان منطبقاً على مرآة. وعلى "بيب" أن يميز الحرف الصحيح وأن يشير إليه مستعيناً بالمقبض. وأثناء هذا التمرين الصعب ينجح "بيب" في أداء الاختبار بسرعة تفوق ثلاثة أمثال سرعة الإنسان. "بيب" هذا، قردح (قرد) من السنغال، عمره عامان، أي أنّه حيوان!
إنّ الشيء الوحيد المؤكد، بخصوص الذكاء الذي لم يفلح أحد لحد الآن في تحديه أو اكتشاف كنهه بشكل مُرضٍ، هو أنّه (الذكاء) ليس وقفاً على الإنسان وحده. إنّ القردح "بيب" نزيل مختبر علوم الأعصاب في مدينة مارسيليا الفرنسية، لا يمل جلسات الألعاب الإلكترونية هذه. ولولا فروه الكثيف ونباحه الحاد (نعم القردح ينبح) لتوهّم المرء أنّه طفل مستغرق في ألعابه الطفولية. والواقع أنّ الأمر قد استلزم عدة أسابيع من التدريب الشاق لجعله يفهم بأنّ ثمة علاقة غير مادية أو حسية تجمع بين المقبض والقذيفة التي تتحرك على الشاشة، كما احتاج الأمر إلى وقت أطول بكثير لكي يستطيع أن يميز بنجاح حرف الفاء المقلوب. وقد نجح في ذلك فعلاً. إنّ قدرته على أن يتمثل أو يتصور شكلاً بلا معنى بالنسبة له - حرف الفاء – وأن يجعله "يدور ويتقلّب في رأسه" هو، - كما يقول الباحث المشرف على التجربة – عبارة عن "دوران عقلي" إذ انّ "بيب" – بحلّهِ مشكلة تختلف تماماً عن المشكلات التي تواجه بني جنسه في غابات السنغال – يثبت لنا مرونة ذكائه.
"تقليد القرود لتصرفات الإنسان والأطفال دليل على ما أودعه الله تعالى فيها من قدرة الذكاء".
ولكن بمَ نستطيع معرفة أو تمييز ذكاء حيوان من الحيوانات؟ الشمبانزي يختار بعناية غصناً طويلاً، ويجرّده من فروعه الصغيرة، ثمّ يدخله في عش النمل، وينتظر مدة كافية لكي يتعلق النمل بالغصن.. هل هي مهارة؟
إنّ حمامة مختبر التجارب تستطيع القيام بعملية تجزئة وفصل (ونحن نقوم بمثلها دائماً عندما نحاول أن نحفظ أو نستذكر رقم هاتف مجزّءاً رقمين رقمين كالتالي 00، 39، 44، 45 بدلاً من 45443900، لكي نستطيع حفظ مجموعة من ستة أشياء أو أغراض ملونة.. هل هي الذاكرة؟
إنّ أنثى الأُركة (جنس دلافين كبيرة) تدفع صغيرها لكي تحمله الأمواج إلى الساحل، ومن ثّم لكي يعود ثانية محمولاً على الموج (وأي غلطة بسيطة خلال مغامرته هذه قد تؤدّي به إلى الهلاك) بعد أن يكون قد اصطاد في طريقة فقمة.. هل هي عملية تربوية أم تدريب؟
والقرود الخضراء تطلق صيحات تحذير بدرجات مختلفة من القوة وذلك تبعاً لنوع الحيوان المفترس الذي يهددها: نسر، نمر أو أفعى.. فهل تلك هي عملية اتصال؟
والغوريلا يكتشف موضع فاكهة ما من الفواكه التي يحبها، ولكنه يتظاهر بحكّ جلده أو رأسه ريثما يمرّ باقي القطيع، ثمّ يبدأ لوحده وليمة لا ينافسه عليها أحد.. فهل هي خدعة؟
"إنّ كلمة ذكاء كلمة فضفاضة".. هكذا يقول عالم النفس جاك فوكلير مؤلف كتاب "ذكاء الحيوان". "واستخدام لفظة (معرفة) أو إدراك هو، دون شك، أقرب للصواب. ولكن إجمالاً، يتعلق الأمر هنا بالشيء ذاته: القدرة على التدريب واكتساب الخبرة، والاستذكار والحفظ، والاستدلال أو الاهتداء إلى الأشياء، والقدرة على الاتصال، وعموماً، الطريقة التي يعالج بها الدماغ المعلومات لاتخاذ قرار ما. ونحن نعلم الآن بأنّ الحيوانات ليست آلات مبرمجة منذ ولادتها لكي تتصرف تلقائياً إزاء محرضات محيطها. إنّها قادرة – إلى حد ما – على التكيف، إذ لا يقتصر الأمر على الغريزة فقط".
ويعكف العلماء حالياً في العالم أجمع على دراسة الجوانب الفطرية أو الغريزية لدى الحيوانات ولجلسات عديدة ومتنوعة من "التدريب": حيوانات شمبانزي تبذل "جهداً" كبيراً لكي تتعلم لغة الصم – البكم، حيث تتعلم كلمات يصل عددها إلى 150 كلمة، بحيث تستخدم بعضها لكي تطلب شيئاً ما، أو لكي ترد على مدربها. وفئران تستحث تلافيف الدماغ كيما تعثر على مخرج المتاهات التي وُضعت فيها، أو لكي تضغط على الزر المطلوب الذي يُلقي إليها بشيء من الطعام بدلاً من التعرّض لصعقة كهربائية مزعجة.
أما الحمائم فإنها تمارس "ذكاءها" بالعمل على رقائق الأفلام، حيث يعلّمونها أن تحدد – بالنظر إلى عدة صور – الصورة التي تحتوي على شجرة. فإذا قُدّم لها منظر حضري، يحتوي على شجرة دُلب نخرة، ضغطت الحمامة – أو بالأحرى نقرت – على الزر الذي يعني "شجرة". وهي لا تخطىء إذا كانت الصورة تمثل نباتاً أخضر! كما أن بوسعها أن تتعلم تشخيص أو معرفة صورة فيها رجل أو خالية من أي رجل.
وتثبت الحيوانات قدرتها على معالجة معلومات معقدة، وعلى توجيه نفسها في عوالم اصطناعية، حيث يجري بعناية إزالة جميع نقاط الاستدلال، بل وهي تستطيع ملامسة حدود التجريد أيضاً، فقد عُلّمت أنثى شمبانزي تدعى سارة أن مثلثاً أزرق يرمز إلى تفاحة. وفي غياب هذه الفاكهة، تستطيع سارة أن تقترن إلى المثلث الأزرق خصائص التفاحة ("حمراء"، "كروية"، و"لها ذَنَب"). وقد أظهر اثنان من بني جنس سارة، وهما شيرمان وأوستن، قدرتهما على تصنيف سلسلة من الرموز التي تمثل أغراضاً أو أشياءً ضمن صنف "مفيد" أو "غذاء".
وحسب بأحثين أمريكان، فإنّ الدلافين قادرة على فهم جملة إشارية – لا منطوقة – مثل "لوحة تزلج على الماء/ إلى اليمين/ تحريك/ الزمام" مع التزامها بتتابع الإشارات وتسلسلها، إذ يتجه الدولفين إلى اليمين ويأخذ بالزمام ثمّ يضعه على لوح التزلج، الأمر الذي يستبطن فهماً أولياً لتركيب الجُمل.
أليسَ الجعيد (فصيلة من الكلاب ذات الوبر المجعد) قادراً على فتح باب الثلاجة بمجرد أن يدير صاحبه ظهره؟ وقام كلب بإنقاذ سيده المشلول على أثر نوبة أصيب بها، وذلك بإسقائه الماء طيلة أيام ثمانية، وذلك باللجوء إلى ترطيب قطعة قماش في حوض المرحاض. أليس ذلك برهاناً على الذكاء؟
إنّ الإنسان يُسقط على الحيوانات طريقته الخاصة في التفكير. ففي بداية القرن المنصرم، حاز حصان يدعى "هانز الماكر" في ألمانيا على شهرة كبيرة. فقد كان صاحبه يطلب إليه أن يحل مسألة حسابية بسيطة، وكان هانز يجيب بقرع الأرض بحافره ضربات تساوي الحل الصحيح. باختصار، لقد كان هانز يعرف الحساب. وقد استطاع عالم نفس ذكي كشف اللعبة:
فالحصان هانز لم يكن ماهراً في الحساب مطلقاً. ولكنه كان ماكراً ونبيهاً. لقد كان يراقب صاحبه وهو يحرك رأسه لا إرادياً كلما كان يتوصل حصانه إلى إعطاء الضربات المطابقة للعدد المطلوب. فالحصان لا يُحسن العدّ. ولكن الدقة التي كان يستخدمها لتحليل سلوك صاحبه تثبت أنه يتميز بشيء من الذكاء.
إنّ التجارب العلمية والمختبرية لا تثبت سوى وجه واحد من وجوه الذكاء لدى الحيوان. ففي المحيط الطبيعي، يقتضي إتقان استراتيجيات الصيد لدى الحوانات المفترسة – وهي التي تعتبر عموماً أكثر الحيوانات مهارة – يقتضي ذلك المعالجة الفورية لكمية ضخمة من المعلومات: اكتشاف موضع الفريسة، الاقتراب البطيء منها مع الأخذ بنظر الاعتبار لمجموعة كبيرة من الثوابت، طبيعة التضاريس، اتجاه الريح، الاتصال بالضواري الأخرى التابعة للمجموعة والمكلفة بملاحقة الفريسة والقبض عليها.
ولقياس ذكاء الحيوان، يمكن لنا أن ندرس حجم الدماغ وتركيبه. فقد حبا الله الإنسان بمنحة فريدة خصه بها دون سواه من المخلوقات في العالم. وهي فصوص في منطقة الجبهة وقشرة الدماغ. هذا فضلاً عن الطبيعة الداخلية من الدماغ وهي الأرقى قياساً إلى سواه. كما يمكن دراسة بعض الملكات الفردية، كاستخدام الأدوات التي لا يقتصر استعمالها على الجنس الأرقى. فالشرشور – وهو طائر من غالاباجوس – يستخدم شوكة من الصبار يمسكها بمنقاره لكي يستخرج من الثقوب الموجودة في اللحاء يرقات صغيرة يتغذى بها. أما طير العراقيب فإنّه يحفر بمنقاره حفرة بحجم الحبة التي يريد فلقها بالضبط، وحينئذٍ يستطيع أن يحشر الحبة في الثقب ومن ثمّ فلقها على خير وجه، ولولا ذلك لأفلتت الحبة وسقطت على الأرض.. لقد اخترع هذا الطائرُ الكماشة!
وبعض أنواع الدبابير في أمريكا تستعمل حجراً لتدعيم التربة التي تغطي العش أو الخلية التي تضع فيها بيوضها. وبعض حيوانات السنجاب يقذف الرمل بوجه الحيّات لكي يجعلها تهرب من أمامه، والقندس البحري يلتقط حجراً من قاع البحر لكي يكسر القواقع التي يتغذى عليها. والزيّاطات (القرود النابحة) تُلقي من أعالي الأشجار أغصاناً على الضواري التي تهددها. وقرادح منطقة الكاب تقوم عادة بإلقاء الصخور من أعلى السفح الصخري الذي تقبع فوقه، باتجاه العلماء والباحثين الذين يقْدمون لمراقبتها.. والإنسان في القرون الوسطى لم يكن ليفعل أكثر من ذلك.
وتعتبر قرود الشمبانزي الأكثر تقدّماً في هذا المضمار. إذ يحدث أحياناً أن تعمد هذه إلى طحن أوراق الأشجار لكي تستخدمها كالإسفنجة لضخ الماء الموجود في تجاويف أو حفر يصعب الوصول إليه. وتروي الباحثة المتخصصة في الشمبانزي جين غودال حادثة طريفة ومدهشة عن تسلّق السلّم التراتبي بين هذه الحيوانات، وهي تدور حول ذكر شمبانزي شاب في أسفل السلم الاجتماعي، يعثر ذات يوم في الغابة على صفيحة معدنية ضخمة، فتبادر الحيوانات الأخرى من بني جنسه إلى إظهار قوتها وتفوقها عليه بالضرب على الأرض بشدة، فلا يلبث الشمبانزي – بطل القصة – أن يأخذ غصن شجرة ليستخدمه في قرع الصفيحة. وبفضل الضجة العنيفة التي أثارها انتزع احترام كلّ أفراد الجماعة أو القطيع.
وقد أمضت العالمة شيرلي ستروم سنوات عدة برفقة قطيع من القرادح الوحشية في كينيا، حيث درست "إدراكهم الاجتماعي"، ومجموع قواعد ونظم الاتصال وآداب السلوك: إنّ استقبال فرد جديد ودمجه في قطيع قرادح يستلزم مثابرة طويلة من ناحيته. فإذا رغب قردح شاب "غريب" في الاقتران بأنثى من القطيع كان عليه أن يُظهر طيلة عدة أشهر استقامة تامة وأدباً جماً وتواضعاً كبيراً، وأن يقيم بشكل تدريجي – مستعيناً بتقديم الهدايا – علاقات ودية مع أفراد عائلة الأنثى.. كما أثبتت الباحثة المذكورة أنّ جماعات القرادح التي تعيش في مناطق جغرافية متجاورة تمتلك "ثقافات" وعادات مختلفة. فقطيع يقوم بسرقة المحاصيل الزراعية ويتعرض لنيران الفلاحين، بينما يبدو قطيع آخر وكأنه يعتبر اللعبة بلا فائدة. ولكن قردحاً سيء الأخلاق أدخل في القطيع أفراداً "متعقلين" وعلّمهم طُرُقه في الجنوح، وكيفية القيام بعمليات مشاغلة وإلهاء لصرف انتباه الفلاحين، بينما يقوم فريق ثانٍ بسرقة محصول الذرة!
وفي اليابان، كان باحثون يطعمون حيوانات الماكاك (قردة آسيوية) الحبوب والبطاطس التي كانت توضع على الرمل بحيث تتسخ. وذات يوم، قام قرد شاب بإلقاء طعامه في ماء البحر. ومنذ ذلك اليوم، أخذ يغسل (ويملح؟) على الدوام كلّ طعام يأكله. وقد أخذ باقي أفراد القطيع المماثلين له في السن، أخذوا عنه هذا السلوك، بيد أنّ الكبار منهم لم يغيروا عاداتهم.
وثمة مؤشرات تفيد بأنّ الحيوانات هي ذكية (على طريقتها الخاصة). ولكن "بِمَ" تفكر وهي لا تمتلك لغة؟ يجيب الباحث والمؤلف بوريس سيرولنيك عن السؤال بقوله: "ما من أحد استطاع أن يضع نفسه في رأس قرد (ليعرف كيف يفكر هذا)، غير أنّه من المحتمل أنّه (القرد) يستخدم حواراً أحادياً (مونولوغ) ذهنياً على هيئة صُوَر، أو شيء أشبه بالأفلام، أو الأشرطة السينمائية. وهذا يحدث للإنسان على إثر إصابته ببعض الالتهابات الدماغية، أي عندما يتضرر مركز اللغة في الدماغ".
المصدر: مجلة نور الإسلام/ العددان 29 و30
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق