◄الدعوة إلى الإسلام من الأمور التي فرضها الله تعالى على المسلمين، وهي تكليف من التكاليف الشرعية التي لا خلاف عليها. والمسلمون منذ بدء الدعوة لم يتخلّفوا عن القيام بهذا التكليف انصياعاً لأمر الله تعالى ورسوله (ص)، باعتبار ذلك طاعة من الطاعات، إذ قال عزَّ مَن قائل: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل/ 125)، وقال الرسول في كتابه إلى هرقل عظيم الروم: "فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسلِم تَسْلَم، يؤتك الله أجرَك مرتين، فإن توَلِّيت فعليك إثمُ الأريسيين".
فالدعوة إلى الإسلام لم تتوقف على مدى أربعة عشر قرناً، وستظل قائمة إلى أن يرث الله الأرض وما عليها. أمّا أنّها أقل بروزاً اليوم، فذاك أمر طبيعي، لعدم وجود الدولة التي تحملها إلى العالم وتتحمّل أعباءها، وما يقتضي ذلك من رعاية، إلى جانب ما طرأ من تحوُّلاتِ ضَعْفٍ عند المسلمين، وما يعانونه في واقعهم العام من تدهور، مما جعلهم غير قادرين على القيام بهذا التكليف خير قيام.
ولكن، على الرغم من ذلك، فإنّ الدعوة إلى الإسلام يقوم بها هنا وهناك أفرادٌ في الأُمّة، وتمارسها هيئات ولجان ومنظمات في بلادٍ إسلامية وغير إسلامية، ولو أنّها لا تصل إلى الدرجة المرجوة في ظل دولة تحملها. وهذا كلُّه ينعكس سلباً على تقديم الإسلام بصفته عقيدةً، ومبدأ، ونظامَ حياة.
وعلى الرغم من ضغوط هذا الواقع، فإنّه لا يغيب عن الملاحظة أنّ خطّ الإقبال على الإسلام خارج نطاق العالم الإسلامي هو في حالة صعود، ولو بدرجه بطيئة. ومردّ ذلك إلى ما تعيشه مجتمعات غير إسلامية من فراغٍ في العقيدة، وبسبب غلوها في المادّية، وخوائها من فكرٍ سَوِيّ يبيّن علاقة الإنسان في دورته مع الحياة الدنيا بربطها بما قبلها وما بعدها، وبسبب التباسات في مفاهيم دينية مشوشة، ولا سيما بعد أن غدت النظرة إلى الإنسان في تلك المجتمعات قائمةً على أساس أنّه منتج مستهلك، وأنّه القوّة الأعظم في السيطرة على كلّ مظهر من مظاهر الوجود، لا يشاركه فيها أحد. وهذا يناقض الفطرة التي فطر الله تعالى عليها هذا الكائن البشري، كما يناقض حقيقة جميع ما في الوجود من مخلوقات وأشياء، وأنّ هذا الإنسان هو من ضمن المخلوقات التي خلقها الله سبحانه وتعالى، وميّزه عليها. والفطرة عندما تصطدم بما يناقضها، وهي تتلمسه نتيجة إعمال الفكر ووجود معلومات صحيحة، فإنّه لا مفرّ للإنسان من البحث عما يناسب فطرته، لتستويَ فيطمئن. فإذا قيَّض الله له مَن يهديه ويأخذ بيده إلى الإسلام، أو تمكّن بطريقة ما من الاطلاع على هذا الدين الكريم، استجابت الفطرة، فلبّى داعيَ الإيمان فيها، قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم/ 30). فأكثر الناس لا يعلمون حقيقة هذا الدين الكريم الذي يأخذ بيدهم إلى مراقي المعرفة لكلّ شيء، ويرسم لهم كيف يتعاملون مع الحياة بما يشعرهم بقيمة وجودهم، ويقودهم إلى السبل الصحيحة لتعاملهم مع بعضهم البعض، بما يحقِّق لهم الخير والصلاح.
- الفرق بين الدعوة والحوار:
إنّ الفكرة من الحوار بين الأديان الجاري على الساحة العالمية والمحلية هي من المشاريع التي تنطوي على الكثير من الشك، إمّا من ناحية الأهداف، أو من ناحية طرحها اتجاهاً غرضه التقريب بين الأديان. وكلتا الناحيتين لا تتفقان مع الدعوة إلى الإسلام على أساس أنّه خاتم الرسالات، وأنّه الدين المهيمن على سواه من الأديان، قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (المائدة/ 48).
إنّ معنى (مُهَيْمِنًا) في الآية: الحاكم، الشاهد، الأمين، الحافظ، الرقيب، فأي معنى أُخذ من هذه المعاني يُفضي إلى أنّ الإسلام أحق أن يُستَمَع ويُحتَكَم إليه. وتمام المعنى أنّ الإسلام له المركز الأرقى، وهو من موقعه هذا الأقوم على أن يُدعَى إليه، لا كما يريده مهندسو فكرة الحوار بين الأديان في موضعٍ مقارب، بحيث يؤخذ منه ما يتفق مع ما يؤمنون به، ويُترَك ما لا يتفق، وفي ذلك خروج عن خطّ الإسلام الصحيح. ولا يجوز التنازل عن شيء في الإسلام قلَّ أم كثر، قال تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) (المائدة/ 49).
ثمّ إنّ الحوار بين الأديان على أساس العقيدة، فكرة شجّع عليها الإسلام، قال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران/ 64)، فالغرض من فكرة الحوار في الإسلام أن يتم على قواعد لابدّ من التأكيد عليها وهي: التوحيد، نفي الشرك، إفراد العبادة لله وحده، أن لا يُطيع أحدٌ أحداً من الناس في معصية الله. وهو ما يدل عليه نص الآية دلالة لا لبسَ فيها.
فهل الحوار الجاري الآن قائم على هذا الأساس؟. وإذا كان الجواب بالنفي، وهو قطعاً كذلك، فإنّ من الواجب التدليل على بطلانه، ومن ثمّ تبيين بواطنه وما يدور من شكوك حوله. وذلك أقل ما ينبغي على مسلم أن يفعل، تبرئةً لذمةٍ، وتبصرةً لمتوهّم منخدع..
- نشأة فكرة الحوار:
من الملاحظ أنّ فكرة الحوار بين الأديان عند الغربيين نشأت بعد انهيار دولة الخلافة الإسلامية في تركيا. أمّا بروزها بشكل دولي فبدأ في العام 1932م بإرسال فرنسا ممثلين عنها لمفاوضة رجال الأزهر في فكرة توحيد الأديان الثلاثة: الإسلام واليهودية والنصرانية. وتَبعَ ذلك مؤتمرٌ عقد في باريس في العام 1933م شارك فيه مستشرقون ومبشرون من جامعات أوروبية وأميركية إلى جانب علماء من تركيا وغيرها.
وفي العام 1936م عقد مؤتمر الأديان العالمي، وهو آخر مؤتمر للأديان عقد قبل نشوب الحرب العالمية الثانية. وبنشوب هذه الحرب انشغل الغربيون عن عقد مثل هذه المؤتمرات.
غير أنّه أُعيد إحياءُ فكرة الحوار مجدداً في العام 1964م، فقد وجّه بابا روما بولس السادس رسالة يدعو فيها إلى الحوار بين الأديان. عقب ذلك صدرَ كتاب عن الفاتيكان بعنوان: "دليل الحوار بين المسلمين والمسيحيين" في العام 1969م.
وفي سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين المنصرم عقد أكثر من ثلاثة عشر لقاءً ومؤتمراً للحوار بين الأديان والحضارات، كان أبرزها: المؤتمر العالمي الثاني للدين والسلام، الذي عقد في بلجيكا وحضره حوالي 400 مندوب من ديانات مختلفة، ومؤتمر قرطبة في إسبانيا، وحضره ممثلون من المسلمين والنصارى، من ثلاث وعشرين دولة، ثمّ الملتقى الإسلامي المسيحي الذي عُقد في قرطاج بتونس عام 1979م.
وفي تسعينيات هذا القرن عادت الحيوية إلى عقد مثل هذه المؤتمرات، فعقد مؤتمر الحوار الأوروبي العربي عام 1993م في الأردن، ومؤتمر الخرطوم للحوار بين الأديان عام 1994م، ومؤتمران أحدهما في استوكهولم والآخر في عمان عام 1995م، ثمّ مؤتمر الإسلام وأوروبا في جامعة آل البيت في الأردن عام 1996م.
- سقطات الحوار:
لقد نجح الغربيون من خلال المؤتمرات التي دعَوا إليها، وتلك التي عملوا على عقدها، في توجيه دفة الحوار وضبط مساره بما يخدم مخططاتهم ويتفق مع معتقداتهم. وقد حملوا لتحقيق هذا الغرض لافتة كتبت خطوطها بعناية، إذ تمكّنوا من وضع عناوين توحي بالحرص على حماية الأديان السماوية بالوقوف في مواجهة الكفر والإلحاد اللذين كانت تمثلهما شيوعية الاتحاد السوفياتي قبل انهياره وبعد انهياره. ومن أهم التوصيات التي كانت تصدر عن المؤتمرين هي:
1- إيجاد جوامع مشتركة في الأديان الثلاثة تشمل العقيدة والأخلاق والثقافة، وتأكيد على المشترك الإيجابي بين الأديان، لأنّ جميع أهل الكتاب مؤمنون يعبدون الله.
2- بلورة ميثاق مشترك لحقوق الإنسان من أجل إحلال السلام والتعايش بين أصحاب الأديان لإزالة مفهوم العدو في ثقافات الشعوب وسياسات الدول.
3- إعادة صياغة التاريخ ومناهج التعليم على أساس هذه الثقافة المستحدثة لتكون بعيدة عن الإثارة والأحقاد.
4- اعتبار التعليم الديني من الدراسات الإنسانية التي تكوِّن شخصية منفتحة على الثقافات الإنسانية ومتفهمة للآخرين، ولذلك يجب استبعاد البحث في بعض العقائد والعبادات، والاهتمام في بحث الموضوعات التالية:
- العدالة
- السلام
- المرأة
- حقوق الإنسان
- الديموقراطية
- التعددية
- السلام العالمي
- التعايش السلمي
- الانفتاح الحضاري
- الحرّية
ووضع مفاهيم موحدة لها.
وخلطوا بين مفهوم العلم والثقافة والحضارة والمدنية ليتخذوا من هذا الخلط مسوّغاً لمهاجمة الذين يتمسكون بوجهة نظرهم في الحياة ولوصمهم بالرجعية والتخلّف، وبأنّهم ضد العلم وضد المدنية الناشئة عن الحضارة الغربية.
وكان للديموقراطية الغربية بهوَسها المعروف بالعددية القِدحُ المعلّى في تسيير قرارات وتوصيات ومناقشات تلك اللقاءات والمؤتمرات، حيث اعتبرت العددية (أي رأي واختيار الأكثرية) هي القاعدة في الوصول إلى الحقيقة وتعريفها وليس لديانة ما ادّعاء احتكارها.
وكان هذا أولى سَقطات الحوار بالمنظور الإسلامي.. إذ كيف يصحّ إخضاع حقائق إيمانية في الإسلام لتجاذبات الأكثرية وآرائها انطلاقاً من مبدأ الديموقراطية؟ ثمّ كيف يصحّ شرعاً إعطاء تعريف للكفر أو الإلحاد أو الشرك من خارج دلالات الإسلام وتعريفه لهذه المعاني؟ وهل من الإسلام في شيء أن يكون رأي الأكثرية هو الأقرب إلى الحقيقة في أمور هي من المسلّمات في الكتاب والسُّنة التي لا يصحّ بحال من الأحوال إخضاعها لرأي الأقلية أو الأكثرية أو لأي رأي مطلقاً لأنّها أحكام من الله العلي الحكيم.
لذلك ومن منطلق إيماننا بأنّ الدين عند الله الإسلام، فإنّ الحوار يجب أن يقوم على أساس طرح الإسلام عقيدةً، ومنهج حياة، فإذا وجد الناس فيه ما يلبي تطلّعاتهم، وحاجاتهم الدنيوية والأخروية، وضعت المواثيق التي تنبثق عن المؤتمرات المعقودة التي تطرح على المستوى العالمي مواثيق شرف تلتزم بها الدول، ولا تحاربها، وتترك من ثمّ للناس الحكم عليها إن كانت تصلح لحياتهم.
هكذا نريد الحوار القائم على دعوة التوحيد، وعن هذه الدعوة تنبثق جميع المفاهيم، والمناهج والنظمة التي تؤَمِّن خير الإنسان.►
المصدر: كتاب عالمية الإسلام ومادّية العولمة
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق