• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الإيمان بالله هو العلاج

الإيمان بالله هو العلاج

هذا العلاج يتمثل فيما قدمته شريعة السماء إلى الإنسان على الأرض من عقيدة: (الإيمان بالله)، بوصفه المطلق الذي يمكن أن يربط الإنسان المحدود مسيرته به، دون أن يسبب له أي تناقض على الطريق الطويل.
فالإيمان بالله، يعالج الجانب السلبي من المشكلة، ويرفض الضياع، والإلحاد، واللاانتماء، إذ يضع الإنسان في موضع المسؤولية، وينيط بحركته وتدبيره الكون، ويجعله خليفة الله في الأرض. والخلافة تستبطن المسؤولية، والمسؤولية تضع الإنسان بين قطبين: بين مستخلِفٍ يكون الإنسان مسؤولاً أمامه، وجزاءٍ يتلقاه تبعاً لتصرفه، بين الله والمعاد... بين الأزل والأبد، وهو يتحرك في هذا المسار تحركاً مسؤولاً هادفاً.
والإيمان بالله يعالج الجانب الإيجابي من المشكلة – مشكلة الغلو في الانتماء التي تفرض التحدد على الإنسان، وتشكل عائقاً عن اطراد مسيرته – وذلك على الوجه التالي:
أوّلاً: إنّ هذا الجانب من المشكلة كان ينشأ من تحويل المحدود والنسبي إلى مطلق خلال عملية تصعيد ذهني، وتجريد للنسبي من ظروفه وحدوده. وأمّا المطلق الذي يقدمه الإيمان بالله للإنسان، فهو لم يكن من نسيج مرحلة من مراحل الذهن الإنساني، ليصبح في مرحلة رشد ذهني جديد قيداً على الذهن الذي صنعه. ولم يكن وليد حاجة محدودة لفرد أو لفئة، ليتحول بانتصابه مطلقاً إلى سلاح بيد الفرد أو الفئة لضمان استمرار مصالحها غير المشروعة فالله سبحانه وتعالى مطلق لا حدود له، ويستوعب بصفاته الثبوتية كل المثل العليا، للإنسان الخليفة على الأرض، من إدراك، وعلم، وقدرة وقوة، وعدل، وغنى. وهذا يعني انّ الطريق إليه لا حدّ له. فالسير نحوه يفرض التحرك باستمرار، وتدرج النسبي نحو المطلق بدون توقف (يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ) (الإنشقاق/ 6)، ويعطي لهذا التحرك مثله العليا المنتزعة من الإدراك والعلم والقدرة والعدل، وغيرها من صفات ذلك المطلق، الذي تكدح المسيرة نحوه، فالسير نحو مطلق، كله علم، وكله قدرة، وكله عدل، وكله غنى يعني أن تكون المسيرة الإنسانية كفاحاً متواصلاً باستمرار، ضد كل جهل، وعجز، وظلم، وفقر.
وما دامت هذه هي أهداف المسيرة المرتبطة بهذا المطلق، فهي إذن ليست تكريساً للإله، وانّما هي جهاد مستمر من أجل الإنسان وكرامة الإنسان وتحقيق تلك المثل العليا له، (وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (العنكبوت/ 6)، (فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا...) (الزمر/ 41)، وعلى العكس من ذلك المطلقات الوهمية والآلهة المزيفة، فإنّها لا يمكن أن تستوعب المسيرة بكل تطلعاتها، لأنّ هذه المطلقات المصطنعة وليدة ذهن الإنسان العاجز، أو حاجة الإنسان الفقير، أو ظلم الإنسان الظالم، فهي مرتبطة عضوياً بالجهل والعجز والظلم ولا يمكن أن تبارك كفاح الإنسان المستمر ضدها.
ثانياً: انّ الارتباط بالله تعالى بوصفه المطلق الذي يستوعب تطلعات المسيرة الإنسانية كلها يعني في الوقت نفسه رفض كل تلك المطلقات الوهمية التي كانت تشكل ظاهرة الغلو في الانتماء، وخوض حرب مستمرة ونضال دائم ضد كل ألوان الوثنية والتأليه المصطنع، وبهذا يتحرر الإنسان من سراب تلك المطلقات الكاذبة، التي تقف حاجزاً دون سيره نحو الله، وتزور هدفه، وتطوق مسيرته.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ...) (النور/ 39).
(مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ...) (يوسف/ 40).
(.. أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) (يوسف/ 39).
(ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) (فاطر/ 13).
نحن إذا لاحظنا الشعار الرئيسي الذي طرحته السماء بهذا الصدد: (لا إله إلا الله)، تجد أنها قرنت فيه بين شد المسيرة الإنسانية إلى المطلق الحق، ورفض كل مطلق مصطنع. وجاء تاريخ المسيرة في واقع الحياة على مر الزمن ليؤكد الارتباط العضوي بين هذا الرفض وذلك الشد الوثيق الواعي إلى الله تعالى، فبقدر ما يبتعد الإنسان عن الإله الحق ينغمس في متاهات الآلهة والأرباب المتفرقين، فالرفض والإثبات المندمجان في (لا إله إلا الله) هما وجهان لحقيقة واحدة، وهي حقيقة لا تستغني عنها المسيرة الإنسانية على مدى خطها الطويل، لأنّها الحقيقة الجديرة بأن تنقذ المسيرة من الضياع، وتساعد على تفجير كل طاقاتها المبدعة، وتحررها من كل مطلق كاذب معيق.

- العبادات هي التعبير العملي للإيمان:
وكما ولد الإنسان وهو يحمل كل إمكانات التجربة على مسرح الحياة وكل بذور نجاحها من رشد وفاعلية وتكيف، كذلك ولد مشدوداً بطبيعته إلى المطلق، لأنّ علاقته، بالمطلق أحد مقومات نجاحه وتغلبه على مشاكله في مسيرته الحضارية ولا توجد تجربة أكثر إمداداً وأرحب شمولاً وأوسع مغزى من تجربة الإيمان في حياة الإنسان، الذي كان ظاهرة ملازمة للإنسان منذ أبعد العصور وفي كل مراحل التاريخ، فإن هذا التلازم الاجتماعي المستمر يبرهن – تجريبياً – على أنّ النزوع إلى المطلق، والتطلع إليه وراء الحدود التي يعيشها الإنسان، اتجاه أصيل في الإنسان مهما اختلفت أشكال هذا النزوع، وتنوعت طرائقه ودرجات وعيه.
ولكن الإيمان كغريزة لا يكفي ضماناً لتحقيق الارتباط بالمطلق بصيغته الصالحة، لأن ذلك يرتبط في الحقيقة بطريقة إشباع هذه الغريزة وأسلوب الاستفادة منها، كما هي الحال في كل غريزة أخرى، فإنّ التصرف السليم في إشباعها على نحو موازٍ لسائر الغرائز والميول الأخرى ومنسجم معها هو الذي يكفل المصلحة النهائية للإنسان، كما أنّ السلوك وفقاً لغريزة أو ضدها هو الذي ينمي تلك الغريزة ويعمقها أو يضمرها ويخنقها. فبذور الرحمة والشفقة تموت في نفس الإنسان من خلال سلوك سلبي، وتنمو في نفسه من خلال التعاطف العملي المستمر مع البائسين والمظلومين والفقراء.
ومن هنا كان لابدّ للإيمان بالله والشعور العميق بالتطلع نحو الغيب والانشداد إلى المطلق، لابدّ لذلك من توجيه يحدد طريقة إشباع هذا الشعور ومن سلوك يعمقه ويرسخه على نحو يتناسب مع سائر المشاعر الأصلية في الإنسان.
وبدون توجيه قد ينتكس هذا الشعور ويمنى بألوان الانحراف، كما وقع بالنسبة إلى الشعور الديني غير الموجه في أكثر مراحل التاريخ.
وبدون سلوك معمق قد يضمر هذا الشعور، ولا يعود الارتباط بالمطلق حقيقة فاعلة في حياة الإنسان، وقادرة على تفجير طاقاته الصالحة.
والدين الذي طرح شعار (لا إله إلا الله) ودمج فيه بين الرفض والإثبات معاً، هو الموجه.
والعبادات هي التي تقوم بدور العميق لذلك الشعور، لأنّها تعبير عملي وتطبيقي لغريزة الإيمان، وبها تنمو هذه الغريزة وتترسخ في حياة الإنسان.
ونلاحظ أنّ العبادات الرشيدة بوصفها تعبيراً عملياً عن الارتباط بالمطلق يندمج فيها عملياً الإثبات والرفض معاً، فهي تأكيد مستمر من الإنسان على الارتباط بالله تعالى، وعلى رفض أي مطلق آخر من المطلقات المصطنعة. فالمصلي حين يبدأ صلاته بـ(الله أكبر) يؤكد هذا الرفض، وحين يقيّم في كل صلاة نبيه بأنّه عبده ورسوله يؤكد هذا الرفض، وحين يمسك عن الطيبات ويصوم حتى عن ضرورات الحياة من أجل الله متحدياً الشهوات وسلطانها يؤكد هذا الرفض.
وقد نجحت هذه العبادات في المجال التطبيقي في تربية أجيال من المؤمنين، على يد النبي (ص) والقادة الأبرار من بعده، الذين جسدت صلاتهم في نفوسهم رفض كل قوى الشر وهوانها، وتضاءلت أمام مسيرتهم مطلقات كسرى وقيصر، وكل مطلقات الوهم الإنساني المحدود.
على هذا الضوء نعرف انّ العبادة ضرورة ثابتة في حياة الإنسان ومسيرته الحضارية، إذ لا مسيرة بدون مطلق تنشد إليه وتستمد منه مُثُلَها ولا مطلق يستطيع أن يستوعب المسيرة على امتدادها الطويل سوى المطلق الحق سبحانه؛ وما سواه من مطلقات مصطنعة يشكل حتماً بصورة وأُخرى عائقاً عن نمو المسيرة، فالارتباط بالمطلق الحق إذن حاجة ثابتة ورفض غيره من المطلقات المصطنعة حاجة ثابتة أيضاً، ولا ارتباط بالمطلق الحق بدون تعبير عملي عن هذا الارتباط يؤكده ويرسخه باستمرار، وهذا التعبير العملي هو العبادة، فالعبادة إذن حاجة ثابتة.

المصدر: كتاب نظرة عامّة في العبادات

ارسال التعليق

Top