(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (الجمعة/ 9-11).
تتحوّل السورة المباركة – الجمعة – في طروحاتها الفكرية والعملية وفي نقدها الهادف من جانب إلى جانب آخر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأوّل، وحين تتحدث عن تشريع عبادي أساسي يتجه نحو خلق عامل القوة والمناعة في واقع المسلم، عندما يواجه حالة الانحراف عن خط الرسالة. ذلك الداء الذي أصاب القسم الوافر من شرائح بعض الأمم، التي حدثتنا السورة عنها، فتحولوا من أمة يفترض فيها احتضان الرسالة إلى أمة تعيش حالة العداء لها، حين عملت في مجال تحويرها وتحويلها من رسالة إنسانية تعمل لربط الإنسان بالله، ومن خلاله بكل المواقع الإنسانية إلى دين يتجاوز ذلك الواقع الإنساني للدين، ليصب في خدمة فئة، وتأليه اتجاهٍ مخصوص، يتمثل باتجاه الذات لدى مجموعة معينة دون غيرها في الحياة.
فتحركت السورة للحديث عن صلاة الجمعة، بهدف تأطير أفراد الأمة وفصائلها ضمن الموقع الذي يضمهم ويجمعهم، وفي وقت محدد، ليمارسوا صلة جماعية بالله تعالى وليعيشوا حالة الانصهار في هذا الاتجاه ومن ثم لينطلقوا نحو هدف واحد يتمثل بإقامة نظام الحق والعدل.. ويتوجهوا توجهاً واحداً من خلال خطةٍ متكاملة.. تطرحها القيادة الإسلامية.. المتمثلة بالإمام.. الذي يتقدمهم..كرمز لهذه الحالة المطلوبة.
- مع السورة في تشريعها:
تنطلق السورة في هذا المجال وهي تخاطب المؤمنين بالنداء الموحي:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، لتحدثهم عن واحدة من التشريعات العبادية التي أراد الله سبحانه للمسلم أن يعيشها في حياته روحاً وفكراً وممارسة، يؤديها كتعبير عن علاقةٍ يقيمها داخل نفسه وفي أعماق روحه، فيما بينه وبين ربه من جهة، وكعملٍ يقوم به كجزء من مجموعة، تتفق وإياه في التوجه والهدف والأسلوب، من جهة أخرى.
- التجمع للصلاة.. هدف:
فهي تحدثنا عن الصلاة التي لابدّ للمسلم من إقامتها ضمن المجموعة المسلمة، في الموقع الذي يكون فيه، مرة واحدة في الأسبوع، بعد فسح المجال في بقية الصلوات المفروضة، ضمن كل أيامه في تأديتها إفرادياً وكمجرد جلسة خاصة فيما بينه وبين ربه، يعقدها في أي موقع شاء من المواقع المشروعة، رغم تفضيله أداءَها ضمن مجموعة إخوانه المؤمنين مؤتماً بالثقة العدل منهم في واحد من بيوت الله. لكنه منحه الحرية في اختيار أيٍّ من الطريقتين المذكورتين أراد.
فالآية تتحدث عن حالة التشريع وتأكيد التزام ممارسته بالصورة المطلوبة، لا عن أصل تشريع صلاة الجمعة فإن نزولها قرآنياً كان تالياً لتشريعها وإقامتها، من قبل رسول الله (ص).. سيما وأنها جاءت كما تحدث السيرة، لتنقد واقع المسلمين في تعاملهم مع هذه الفريضة، وتندد بأسلوبهم الذي يرسم صورتهم الذهنية المنحرفة، من خلال نظرتهم لها، واستخفافهم بها، حين تصطدم إقامتها ببعض حاجات الدنيا، من لهو وتجارة وأطماع، فتتقدم عندهم هذه الحاجات على إقامة الصلاة. فجاءت الآية لترسم الصورة الرسالية لطريقة التعامل مع هذه الفريضة، التي تحمل في شكلها وعمقها هدفاً تثقيفياً وغاية نوعية، ودوراً روحياً، يتمثل بتمتين العلاقة الخاصة بين المسلم وربه بعد إيجادها في كل واقعه الحياتي.
- أين ومتى تقام؟
لقد ركّز الإسلام على إقامتها في المدن والأمصار بإجماع المسلمين – حين تكون السلطة الإسلامية الشرعية هي التي تتولى شؤون الأُمّة. وإن اختلفت المذاهب الاجتهادية، حول مشروعية إقامتها في القرى، أو ضرورة إقامتها في ظل غياب الحكم الإسلامي الحق. فنرى بعضهم يحتج على ضرورة إقامتها.. حتى مع غياب الحاكم المسلم.
ومهما يكن.. فإنّ الكثير من المذاهب الإسلامية يفرض مشروعية إقامتها، ولو في ظل غياب الحكم الإسلامي سواءً بصورة الإيجاب التعييني الإلزامي، أو التخيير بينها وبين صلاة الظهر.. لكن يتعين الحضور على من يجب عليه الحضور، حين تقام كما هو بعض الآراء.
ولعل الآية القرآنية من خلال موردها، توحي بضرورة السعي لحضورها، حين سماع نداء الدعوة إليها المتمثل بالأذان، بهدف سماع الحاكم العادل أو من يقيمه، حين يطرح حديث ذكر الله، في مختلف الجهات الروحية والثقافية والفكرية، والاجتماعية والسياسية وما إلى ذلك. مما يهم واقع العالم الإسلامي وواقع المسلمين، وانتظام شؤون الأُمّة وحمايتها من الفوضى الفكرية والحياتية.
فقوله سبحانه: (فاسعوا) يمثل أمراً إلزامياً بسرعة التحرك.. باتجاه موقعها وصولاً (إلى ذكر الله) الذي فسره البعض بخطبتي الجمعة، لانطلاقهما في أجواء الذكر.. وإن كان مجموع العمل الصلاتي، بما يشتمله من خطبة وأذان، وصلاة، ودعاء، بل وتواجدٍ في أجواء العبادة يمثل حالة ذكر وتذكر لله، مما يعطي معنىً أشمل للمراد.
كما أن قوله سبحانه: (وذروا البيع). وإن كان يخصص البيع بالمنع، إلا أنه يوحي بشمولية المنع لكل ما يلهي ويمنع عن الصلاة.. بيعاً كان أو غيره لكن ما كان البيع من مصاديق النهي عنه، حيث تمثلت به الحادثة موضوع السورة، أشار إليه ليعطي صورة عن كل ما يوازيه، ويشبهه.
فالآية توحي بضرورة الحضور والسعي، وتجاوز كل الموانع الشهوية الخاصة، - لا الضرورية التي تبيح التخلف – لكونها دورة تدريبية، ودرساً روحياً إلزامياً، وهو ما نستشفّه من مورد نزول الآية وإلزامها بترك البيع والتجارة، في خصوص مرحلة الإقامة في مدتها الزمنية القصيرة، بهدف الوصول إلى بناء الذات الواعية (ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون).
- مع الحادثة.. رفض وتنديد:
من هنا نرى القرآن يندد ببعض المسلمين.. حين تصرفوا بالأسلوب المناقض كما تروي السيرة، حين تركوا الرسول (ص) يخطب في المسجد عندما استمعوا إلى صوت الطبل يقرع إيذاناً بوصول التجار العائدين من سفرة خارجية، فاندفعوا بقصد الشراء واللهو بسماع القرع المطرب، مقدّمين لعامل الشهوة أو المصلحة الدنيوية على عامل بناء الروح الإيمانية – واستماع ذكر الله.. مما يوحي بضآلة البناء الروحي، وضعف عامل الآخرة قبالة عامل الشهوة والمصلحة والدنيا. وهذا ما ترويه السيرة وكتب التفسير.. فقد جاء في تفسير الميزان ج19 ص317 "وقد اتفقت روايات الشيعة والسنّة على أنّه ورد المدينة عيرٌ معها تجارة، وذلك يوم الجمعة، والنبي (ص) قائم يخطب، فضربوا بالطبل والدف لإعلام الناس فانفض المجلس إليهم وتركوا النبي (ص) قائماً يخطب فنزلت الآية: (وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً)" ويروي عن "غوالي الآلي".. أنه "لم يبق إلا اثنا عشر فقال (ص) لولا هؤلاء لسوّمَت عليهم الحجارة من السماء".. فكان نزول الآية للتنديد بهذا الأسلوب الذي يحمل عنوان اللامبالاة من قبل هؤلاء التاركين، ولرفض هذه الصورة من عدم الاهتمام بالموقع الروحي العبادي الذي له الأهمية القصوى في حياتهم، رغم أهمية الجانب المعيشي.
- الإسلام: ومنطق التوازن بين الروح والجسد:
فالإسلام حين شرّع للحياة حاول القيام بعملية تنظيمية لواقع الإنسان بالنحو الذي لا يطغى فيه جانب على جانب. فلا يتحرك في موقع يذوب فيه على حساب موقع آخر له دورٌ في تنظيم حياته بكل مستلزماتها، فهو حين دعا إلى الاهتمام بتنمية العامل الروحي والدافع الإنساني الذي يشدّه إلى الله، ويربطه بالرسالة حفاظاً على سلامة الموقف في اليوم الآخر لم يمنعه من التوجّه لتلبية حاجات الذات وخصوصيات الجسد، المادية والمعنوية، بل أراد لحياته أن تتوازن وتتحرك في الإطار الطبيعي المطلوب لكن لا على حساب قضايا الروح. ومن هنا فرض الله الصلاة في وقت، وشرّع استحبابها في وقت لتبقى الحياة متصلة بالله، وفرض الالتزام بها سيما في يوم الجمعة، في وقت محدد يختلف سعة وضيقاً باختلاف الظروف والإرادة. ثمّ أراد له حين انتهائها أن يستمتع بحريته فيما يرجوه من بيع وشراء، وتحرك نحو أي حاجة ورغبة مشروعة (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
وحين يتجاوز المسلم هذا الواقع التنظيمي، فإنّه يكون قدر تجاوز الحدود المرسومة في هذا المجال، واستحق التنديد الكبير.. كما حدث للرسول (ص) – في هذه الحالة – حين تركه أصحابه يخطب في المسجد، مفضلين البيع والشراء، واللهو والطرب، حين سماعهم قرع طبول القافلة التجارية العائدة (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا)، فالعامل الذي دعاهم لهذا الأسلوب المتمثل بطلب الرزق، أو اللهو، وكلاهما، حسب دوافع كل واحد منهم، ليس هو كل شيء. (قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ)، أما اللهو، فهو قتلٌ وتضييعٌ للوقت، وهو من أثمن ما يملكه الإنسان. وأما التجارة، فهي مورد الرزق الذي هو من الله، وهو وليُّه ومعطيه (وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ). فلماذا نترك الله ونعدو خلف غيره، ونستجدي من غير المعطي..؟
- نقطة لابدّ من مناقشتها:
ولابدّ لنا ونحن نستعرض هذا التشريع ودوافعه وأهدافه، من الإشارة إلى أنّه يهدف – فيما يهدف إليه – إلى جمع المسلمين – في الموقع الذي يتواجدون فيه من مدينة أو منطقة – في مكان واحد لينهلوا من منبع واحد، ويمثلوا وجوداً واحداً، يوحي لهم بالكثرة والوحدة والتماسك مما يعطي شعوراً بالقوة مهما كانت القوى الأخرى المواجهة. ومن الطبيعي أن تكثر مواقع صلاة الجمعة – التي يُراد لها أن تكون جامعة – التي تقام في الموقع الواحد، حين تُقام في مساجد تتقارب المسافات بينها، يُفقد هذه الصلاة أهميتها وتأثيرها، ويقلص فاعليتها الروحية والتربوية لما لذلك من تأثير في تشتيت طرق التربية والتفكير، حين نعاني تشتت توجهات أئمة الجمعة في هذه المواقع مما يعمل في تباين الأفكار والتوجهات في الموقع الواحد.
ولعل بعض التجارب الإسلامية المعاصرة، تعطي صورة مثيرة في هذا الاتجاه.
إذ حين يرى المسلم التجمع الإيماني الكبير في المدن الإسلامية، حين يتجاوز الرقم المليون أو الملايين.. فإنّه يشعر بالاعتداد الكبير الذي يعطيه الشعور بالقوة والتميز. وهذا يختلف عن واقع التشرذم في الأطر الصغيرة، مما يوحي بالضعف وربما التنافر والتركيز على الخصوصيات الذاتية.
وخلاصة القول..
إنّ تشريع هذه العبادة لم ينطلق من أجل خلق حالة رتيبة باردة لا تقدم كثيراً في الواقع الرسالي والحياتي، وإنما كان يهدف إلى خلق حالة تغييرية هامة في حياة الأُمّة، في عناصرها الروحية، والاجتماعية، والخلقية، والاقتصادية، بل والسياسية، والعسكرية، تؤدي إلى حالة تكامل وزخم وقوةٍ في تلك الأُمّة.
فهل نستوحي القرآن ونتعلم من واقع طروحاته، وننفذ إلى عمق أهدافه..؟
وفقنا الله سبحانه لأداء فرض الجمعات وما أوجب علينا فيها من الطاعات والحمد لله رب العالمين.
المصدر: مجلة نور الإسلام/ العددان 21 و22 لسنة 1991م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق