د. زهير سليمان
مقدمة..
الملاحظ في القرن الماضي، أنّ جميع بلدان العالم تقريباً تشكو ظاهرة الغلاء، أو ما يسمى بالتضخم المالي Inflation ولكن تختلف من دولة إلى أخرى، وأنّ هذه الظاهرة تعتبر من أبرز المشاكل التي تواجه الدولة ويعاني منها الناس أيضاً، لأنّها حالة خطرة على الاقتصاد، وتترك آثاراً سلبية اجتماعية واقتصادية كثيرة، وحتى سياسية، وكثيراً ما تكون هذه الآثار سبباً في تغيير بعض الأنظمة،... كما نرى أنّ ظاهرة الغلاء تؤثر على التنمية الاقتصادية والرفاه الاجتماعي والشعبي، وبشكل بالغ جدّاً، الأمر الذي يوجب على الدولة أن تكافح ذلك بأي شكل من الأشكال، ولا سيما إذا ما استغلها الطابور المتربص لها، أو المنتفعون من السماسرة والدلالين، ونحن هنا نلقي نظر خاطفة على ماهية الغلاء وأسبابه وعوامل نشوئه، والمواجهة العارمة للغلاء في العالم الرأسمالي، وتأثيراته على دول العالم الأخرى.
- التضخم وأسبابه:
التضخم المالي وارتفاع الأسعار ظاهرة تؤثر في قيمة السلع والخدمات، وتزيد من أسعارها، فيؤدي ذلك إلى انخفاض القوة الشرائية للمستهلك، وهو ما ينتج عنه إنخفاض في دخله الحقيقي.
وعدم علاج التضخم يؤدي إلى اضطراب واسع، وخلخلة في البنى الاقتصادية، وبروز ظاهرة سيئة على الانتاج، مع فقدان الحوافز المشجعة، كما أنّ عملة البلد تنخفض قيمتها بشكل كبير، ويأخذ بالانخفاض تدريجياً. غير أنّ كل ارتفاع في أسعار السلع ليس نوعاً من الغلاء والتضخم المالي، بل يمكن أن يحدث نتيجة لظروف فنية لتغيير شكل السلعة وجودتها وشكلها، ويمكن إدراك الذين من المنفعة الحاصلة، أو من مستوى المنفعة Utility Level التي يحصل عليها المستهلك، إضافة إلى قياس نفقات المعيشة التي يجب على كل دولة أن ترصدها من أجل المقارنة بين أسعار السلع الحالية وأسعارها السابقة ليتوضح لها ذلك.
- الأسباب:
هناك عدة احتمالات يمكن أن تكون سبباً لبروز هذه الظاهرة، منها ما هو معروف وقديم، ومنها ما هو ناتج عن خلل النظام الحاكم والنظرية الاقتصادية المعمول بها.
فالأسباب الأولى تتركز في قلة الانتاج وكثرة الطلب أو كما هو المتعارف عليه في الاقتصاد بما يسمى "جذب الطلب Demand pull" ويرجع تشخيص هذا السبب إلى عام (1936) على يد الاقتصادي البريطاني المشهور "جون مايرن كينز" فأشار في نظريته إلى مستويات الدخل والعمالة والعلاقة بينهما في الاقتصاد، كما أرجع سبب التضخم المالي إلى الارتفاع الناشىء في الطلب العام على السلع، والخدمات، لتحقيق ما يسمى بالتشغيل الكامل Full Employment أي إنّ العلاقة، كما يقول كينز، تكون نسبة طردية، فكلما زاد التقرب على مستوى التشغيل الكامل زادت أسعار المواد الأولية واليد العاملة، مع الأخذ بنظر الاعتبار وجود التنافس بين المؤسسات الصناعية والتجارية التي تتسابق في شراء المواد الأولية وما تعرضه في إنتاجها.
العامل الآخر في زيادة الأسعار، هو ما فرض من دفع الكفلة Cost push وتعتمد هذه الفرضية على أنّ نشاط النقابات في الدول الرأسمالية من أجل زيادة الأجور وحصولهم عليها يؤدي إلى دفع الرأسماليين إلى زيادة أسعار سلعهم لتعويض ما يدفعونه عن زيادة الأجور لتوفير الأرباح المتوخاة.
أمّا الفرضية الأخرى والتي تعد أيضاً سبباً في إيجاد التضخم، فهي التي تسمى (الفرضية النقدية) Monetarism. وهذه على نوعين:
الأوّل: ما يرجع إلى حجم الكتلة النقدية التي يتحكم بها البنك المركزي في البلد من خلال تحكمه باحتياطي المصارف وشراء السندات الحكومية. فإذا ما شعر الناس بزيادة ما بحوزتهم من أموال عمدوا للتخلص من الزائد أو الفائض منها بالإقبال على الشراء، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة الطلب.
أما النوع الآخر، فهو أيضاً بسبب حركة الكتلة النقدية ودورانها السريع الذي يعمل على زيادة الإنفاق وارتفاع مستوى الأسعار، حيث يتوقع الناس ارتفاع الأسعار في المستقبل ليخلق هذا عندهم حافز الشراء المتزايد حتى لا تهبط قوتهم الشرائية نتيجة هذا التوقع المستقبلي وهو العامل الذي يؤدي إلى ارتفاع الأسعار أيضاً.
وبما أنّنا لا نريد أن نتكلّم على تفاصيل التضخم المالي أو زيادة الأسعار وآثاره الكلية، إلا أنّه لابدّ من إعطاء لمحة سريعة عنه وعن أسبابه، ثمّ الكلام على ظاهرة الغلاء المستمرة في العالم الرأسمالي والتي تؤثر تأثيراً كلياً على البلدان الأخرى، إذ نعتبر من أكبر المشكلات الاقتصادية.
- في العالم الرأسمالي:
من المعلوم أنّ كثيراً من بلدان العالم الثالث، بل جله، يرتبط إقتصاده بالاقتصاد الأوربي بشكل بالغ، حتى أصبح إقتصاد هذه الدول إقتصاداً تابعاً لها، وهذا من صنع الدول الاستكبارية نفسها تجاه شعوب هذه الدول المظلومة والمستضعفة. ولهذا، فإنّ أي تغيير في الجوانب الاقتصادية لدول الاستكبار العالمي، كحدوث التضخم المالي، أو زيادة الأسعار، أو حدوث أزمات إقتصادية نتيجة لعوامل معيّنة، لا يقتصر تأثيرها على تلك الدول وحدها، بل نراها تنتقل إلى هذه الدول، مما يؤدي إلى خلق أزمات وقلق إقتصادي كبير، واضطراب في النشاط الاقتصادي. ونحن هنا نريد أن نستقرىء موجّة الغلاء أو ظاهرة الغلاء التي أصبحت حالة لدى النظام الرأسمالي، وأسبابها.
- ظاهرة الغلاء:
وهي إفراز طبيعي، ونتيجة واضحة للنظام الرأسمالي، بناء على الأسس التي يقوم عليها، سيما تلك الأسس التي تعتمد على التفكير في عملية الانتاج والاستهلاك على السواء. ولهذا، فيمكن إيجاز العوامل التي تحقق موجة الغلاء في هذا النظام والأسباب الداعية لها، وبناء على الظواهر التي أسلفناها في مدخل الحديث، وأن ما سنذكره من أسباب إن هي إلّا الأساس لنشوء تلك العوامل التي تجلب الويل. وأن من أسباب الغلاء والتضخم هو تهرؤ البنية الاقتصادية وسوء الفلسفة الخاصة بذلك النظام.
وهذه الأسباب التي يعاني منها العالم الرأسمالي تتلخص بما يلي:
- أوّلاً، الحرية الاقتصادية:
وهي ما اعتمدت عليها النظرية الرأسمالية في إعطاء الحرية الكاملة. سواء بالملكية وحق الفرد بالتصرف بملكيته، أو بحدود الملكية نفسها، ما تخلق لدى الفرد "الخالي من الأخلاق الفاضلة، والوازع الإنساني" حالات الاستغلال والجشع والعمل الاحتكاري والممارسة البشعة بكل أنانية، فضلاً عن التسابق والتكالب بين الرأسماليين أنفسهم للحصول على الأرباح بأي وسيلة كانت، مما جعل ثلة معينة من هؤلاء تثرى على حساب الآخرين، وتكتنز الثروات الطائلة دون حدود، ودون مراعاة للآخرين، فكانت ظاهرة التنافس فيما بين هؤلاء، سبباً في خلق أمراض اجتماعية مقيتة... ونتيجة هذا الاندفاع وهذه الوحشية أصبح الفرد يتوسل بالحرية الفردية ويتذرع بها لفرض ما يشاء من الأسعار دون رادع، ولا سيما حينما تكون السلع مطلوبة من قبل المستهلك. وإذا ما فرضت زيادة في الضرائب من قبل السلطات الحاكمة، وازدادت الأجور لأي سبب كان، أصبحت هذه أيضاً ذريعة أخرى بيد هذا الرأسمالي لزيادة أسعار سلعة من أجل المحافظة على مستوى الأرباح.
ومن الجدير ذكره، أنّ هذه الظاهرة لا يمكن أن تحدث في النظام الإقتصادي الإسلامي بسبب عدم وجود حرية مطلقة كالتي تسود النظام الراسمالي، وبسبب رقابة الدولة التي تجعل مصلحة المجتمع ومنفعته الإطار العام الذي تنطوي تحته عملية الإنتاج والاستهلاك الفردي.
- ثانياً، هدف الرأسمالي في الانتاج:
الرأسمالي يطلب زيادة الانتاج، فهذا هو مبدؤه ولكن هذه الزيادة يجب أن تكون متناسبة ومتوافقة مع الحاجة الاستهلاكية، أو مع التوزيع بعد الانتاج... إذ إن عملية الانتاج منفصلة عن عملية التوزيع، وذلك لأنّ الرأسمالي يهتم بكيفية توظيف المواد الأولية وكل الإمكانات من أجل زيادة الإنتاج، وبالتالي زيادة الأرباح عن طريق فرض الأسعار المطلوبة، التي تحقق أقصى ما يمكن من الأرباح، الأمر الذي يجعل الطبقات الكادحة لا تستطيع الحصول على ما تحتاجه من السلع والمواد، بينما تقوم هذه المصانع بتلبية طلبات الرأسماليين أو الذين لديهم القدرة على شرائها، دون الاكتراث بالطبقات الأخرى. أي إنّ الجانب الإنساني مفقود تماماً. وهذه الحالة لا وجود لها بهذا الشكل في المجتمع الذي يطبّق النظام الإسلامي، إذ إنّ المشرّع الإسلامي يضع نصب عينيه الحاجة الفعلية للمجتمع الإسلامي، سواء من حيث الكم أو من حيث الكيف، حتى يمكن تحقيق رغبة المجتمع بكل طبقاته، والاستزادة من السلع التي يحتاجها المجتمع، ثمّ استبعاد الجشع في الشراء، وتحديد الأسعار المعقولة. أي إنّ الاقتصاد الإسلامي يربط بين التوزيع والانتاج، (كما جاء في "اقتصادنا" للشهيد الصدر، ج2) مما يخلق نسبة جيِّدة من النمو، ويحاول أن يقرّب بين التفاوت الطبقي والرفاه المطلوب.
- ثالثاً، مشكلة النقد في النظام الرأسمالي:
تتلخص هذه المشكلة التي تجر وراءها ويلات الغلاء وارتفاع الأسعار في سحب المال والنقد من الناس وتجميده واكتنازه في البنوك والشركات من أجل الأرباح والفوائد، مما يسبب تجميد مبالغ كبيرة جدّاً من العملات، فيتحول النقد من وسيلة لتسعير السلع والخدمات، ومن أداة للتبادل بين الأشياء في عملية البيع والشراء، إلى قضية ومشكلة ذات عوامل وأسباب. وهذا بطبيعة الحال يختلف عن عملية التوفير، فبالإكتناز يصبح الفرد معتمداً بصورة كلية على الفوائد والأرباح التي يجنيها نتيجة وضع ما لديه من نقد في أحد البنوك على شكل ربا محض، ومن ثمّ استثمار هذه الأموال من قبل الرأسماليين والتضييق على المال واحتكاره. أما التوفير فهي عملية إقتصادية هدفها استقطاع مبلغ لتجميعه وتوظيفه بعمليات انتاجية وخدمية وفسح المجال له للتداول، مما يؤدي إلى إستثمار النقد، وعدم اكتنازه، ومنع تصعيد نسب الفائدة والأرباح، مما يرفع من قيمة الأشياء والسلع، فيعم الغلاء، وتتأصل جذوره حتى يصبح ظاهرة لا محيص عنها.
وبالتالي، فإنّ ما نعرفه من كوارث هذه الظاهرة ينجر، لا على إقتصاد البلد نفسه، بل إلى إقتصاد البلدان التابعة لها والمرتبطة بها، سواء عن طريق العلاقات النقدية (كالتبعية النقدية لدائرة معيّنة) أو الارتباطات الأخرى كالقروض، والتكنولوجيا وما إلى ذلك، فيعم شر البلدان الرأسمالية الدول التابعة لها والسائرة في ركابها.
المصدر: مجلة التوحيد/ العدد 50 لسنة 1991م
ارسال التعليق