إن الجوهر في تحرك اوروبا، تاريخياً، نحو الخارج كان التوجه لنهب الثروات والسيطرة على طرق التجارة الدولية وتحويل بقية بلدان العالم إلى ملحقات للدولة الأوروبية الأقوى. ولهذا كانت السمة العامة في هذا التحرك ارتكازه إلى العنف، ومن ثم الاندفاع في النهب وأحكام السيطرة.
بيد أن هذا التوجه العام بالنسبة إلى مختلف أقطار العالم الأخرى حمل سمة شديدة الخصوصية عندما تواجه مع الشعوب الإسلامية لا سيما، الشعب العربي. أما تلك السمة فهي ذلك الثقل الذي أعطى للجوانب العقدية _الفكرية _ الثقافية الحضارية في خوض هذا الصراع. وذلك باعتباره شرط تحقيق السيطرة على البلدان الإسلامية ونهبها وإضعاف مقاومتها بعد أن يتمكن العنف من اجتياحها. وترجع هذه الأهمية الخاصة للجوانب العقدية _الفكرية _ الحضارية إلى الدور الذي يلعبه الإسلام في حياة الشعوب الإسلامية، وإلى النموذج الذي يحتله الإسلام من جماع الوضع الاجتماعي _الثقافي _ الاقتصادي _ العسكري _ لهذه الشعوب مجتمعة ومنفردة. فهو صميم البنية الاجتماعية _ الاقتصادية _ وفي صميم العلاقات ونهج الحياة وليس في القلوب والعقول والضمائر والنفوس فقط. ومن ثم فإن الصراع مع هذه الشعوب يرتطم بالإسلام عقيدة وأفكاراً ومعايير ومفاهيم ونهج حياة وأنظمة اقتصادية وبنى قانونية واجتماعية وعلائق بين الشعوب.
أما الخاصية الثانية فتتمثل في الطابع التاريخي طويل الأمد لهذا الصراع. ولعل مروراً سريعاً بأحداث التاريخ منذ ثورة الإسلام حتى اليوم يؤكد أن المعارك لم تهدأ يوماً واحداً، وأن الحرب تواصلت من جيل إلى جيل ومن قرن إلى قرن. وقد حدثت كل التطورات على ضفتي هذا الصراع وفي ظله، وضمن سماته. ولهذا يصبح من التعسف عدم رؤية هذه الاستمرارية التاريخية ومن ثم الانجرار وراء الاتجاهات التي تعالج، الصراع الراهن بأنه مجرد جزء من الحالة العالمية الراهنة فقط ولا يحمل سمة شديدة الخصوصية. أو بعبارة أخرى اعتباره مجرد توسع امبريالي في مرحلة تحول الرأسمالية إلى امبريالية وبسببها! وهنا يمكن القول أن وجهة النظر التي ترى لهذا الصراع سمة تاريخية طويلة الأمد تتعارض مع النظرة اللاتاريخية التي تنزعه من السياق التاريخي الذي لا يمكن نكرانه. ومن ثم تراه حالة ناشئة عن ظرف آني عابر في أوروبا يزول بزوالها، وهي المرحلة الرأسمالية الامبريالية. أي لا تراه حتى في المجال الاقتصادي استمراراً لدوافع التوسع الخارجي من أجل نهب الثروات واستعباد الشعوب، ضمن أشكال أخرى تسمى رأسمالية وامبريالية. كما لا ترى العنف الامبريالي الراهن استمراراً لعنف تاريخي لم يتوقف منذ معركة اليرموك حتى اليوم.
أما إذا قيل إن الامبريالية المعاصرة قد حملت سمات خاصة بها تختلف بهذا القدر أو ذاك عن سمات الاستعمار القديم أو الاحتلال الصليبي الأسبق فإن ذلك ليس في الجوهر. كما أنه لا يعني تلقائياً عدم استمرارية الصراع أو لا تاريخيته. فهو لا يعني أن السمات الخاصة لهذه المرحلة من النظام الامبريالي تعفيه من التواصل مع التاريخ مادام هذا التواصل قد حدث فعلاً. فالحرب المندلعة في هذه المرحلة حرب شاملة، ولا يمكن إخفاء أبعادها العقدية _ الثقافية _ الحضارية أو طمسها أو دفع هذه الأبعاد إلى مرتبة ثانوية. ولعله من غير العسير الاتيان بعشرات الشواهد من الجانب الأوروبي الاستعماري الحديث تكشف عن البعد الايديولوجي الحضاري في هذا الصراع. فقد روي عن غورو القائد الفرنسي أنه توجه إلى قبر صلاح الدين الأيوبي بعد اجتياح قوات الحلفاء لدمشق وقال: "ها قد عدنا يا صلاح الدين". كما روي عن اللنبي، القائد العسكري البريطاني، أنه بعد دخوله مدينة القدس قال: "الآن انتهت الحروب الصليبية".
1_ بعد أن اشتد ساعد أوروبا العسكري نتيجة الوصول إلى الأمريكتين واستخدام الطريق المار برأس الرجاء الصالح إلى الشرق الأقصى. وبعد أن فُت من عضد الدولة العثمانية وبدأت تتآكل وتضعف وتنخرها التناقضات، وبعد أن أجرت أوروبا التغييرات الضرورية داخل بيتها _كما عبرت عن ذلك ثورة الأراضي الواطئة (هولندة)، وثورة كرومويل والثورة الفرنسية والثورات البرجوازية الأوروبية الأخرى، أصبح من الممكن لأوروبا أن تفكر باستكمال السيطرة على العالم كله، والبدء بالخطوات العملية في هذا السبيل.
2_ إن استكمال السيطرة الأوروبية على البلدان الأخرى وإحكامها تتطلب السيطرة على البلاد الإسلامية، وعلى التحديد البلاد العربية. وذلك للأهمية الاستراتيجية العالمية التي تتمتع بها في السيطرة على العالم.
3_ إن السيطرة الأوروبية تقتضي أن يتم اجتياح البلاد الإسلامية بالقوة المسلحة العنيفة. أما التغلغل فيها وأخذها من الداخل، أو إنجاز جزء أساسي من هذه المهمة عن هذا الطريق، أو اجتياح بقوة عسكرية محدودة صغيرة، فأمر غير ممكن التحقق بسبب الإسلام، وبسبب ما أرساه من روح جهادية ومن نمط اقتصادي _اجتماعي _ ثقافي، وما رسخه من تقاليد وعلاقات ونهج حياة. وهذا ما يجعل العنف المسلح يشكل الشرط الأول في تحرك القوى الخارجية لكسر شوكة المسلمين مع تركيز خاص ضد العرب داخل دار الإسلام.
4_ إن كسر شوكة الشعوب الإسلامية يتطلب إلى جانب استخدام العنف والقوة العسكرية، القيام بتمزيق وحدة الشعوب الإسلامية، وذلك بإحداث تجزئة واسعة بحيث يعود الوضع في المناطق الإسلامية كما كان قبل ثورة الإسلام الكبرى الأولى. وذلك بإثارة العصبيات القومية والإقليمية والجهوية والطائفية.
5_ إن تكريس تجزئة الأمة الإسلامية يتطلب أن يتمزق الشعب العربي، بصورة خاصة لأن الأمة العربية تشكل الحلقة المركزية التي يمكن أن تمسك ببقية الحلقات، وتجمعها إلى بعضها.
6_ إن تحقيق هذا التمزيق الإسلامي، لا سيما العرب منه يتطلب المضي في المشروع الصهيوني الرامي إلى إقامة الوطن القومي اليهودي على أرض فلسطين من أجل ترسيخ هذه التجزئة فتقطع الطريق البري بين مشرق البلاد العربية ومغربها، وتقام قاعدة عسكرية ضاربة تمنع التحرير وتمنع الوحدة، بالإضافة إلى تحديها العقدي _ الحضاري للأمة الإسلامية.
7_ إن تحقيق الأهداف المذكورة يتطلب شن حملة ايديولوجية وفلسفية مركزة على الإسلام والتشكيك بتعاليمه، لا سيما تلك الموضوعات التي تقول بالأمة الإسلامية الواحدة، وبالأخوة الإسلامية، وعدم الخضوع للاستعمار أو موالاته، والداعية إلى إقامة حكم الحق والعدل والتوحيد. من هنا ركز على نشر العلمنة التي تحصر الإسلام بالعبادة فقط ما دام من غير الممكن إزالته نهائياً. ومن ثم يثار موضوع القومية العربية على أسس علمانية كخطوة أولى لضرب الوحدة الإسلامية. ثم من بعد ذلك، أي بعد أن يُتنكر لوجود وحدة إسلامية يصار إلى التنكر لوجود وحدة عربية أو أمة عربية، وذلك عبر الاحتجاج بمقولات تسمى علمية، وتدعي أن وصف الأمة لا ينطبق على وحدة الشعوب الإسلامية، كما ترى أن وصف الأمة لا ينطبق على العرب. لأنهم لم يدخلوا طور وحدة السوق الرأسمالي ولم ينجزوا ثورتهم البرجوازية التوحيدية. كما يصار إلى نبش القبور والبحث في الحفريات عن التاريخ الوثني الجاهلي لشعوب المنطقة وفق كل إقليم ليصار إلى إعادة المصريين إلى فراعنة بدل أن يكونوا مسلمين وعرباً. وكذلك بالنسبة إلى اللبنانيين أو السوريين. كما يعاد الإيرانيون إلى قومية فارسية ومجوس وساسانيين. ثم يصبح النموذج الأوروبي هو رمز التقدم وتغدو المعايير والمفاهيم الأوروبية هي المقياس.
إن مرحلة القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين قد شهدت بلورة كاملة لكل تلك المخططات والمقولات ثم اتخذت طريقها إلى التطبيق على أرض الواقع الفعلي بعد الحرب العالمية الأولى:
1_ تجزئة الدولة العثمانية وضرب الوحدة الإسلامية.
2_ تجزئة البلاد العربية إلى أكثر من عشرين جزءاً وإقامة الكيان الصهيوني في فلسطين.
3_ تحطيم السياق التاريخي لنمط المجتمع الإسلامي والعمل على الفرنجة لخلق نمط المجتمع التابع مكانه. وهنا تم ضرب المؤسسات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية المستقلة، وجرى العمل على إقامة المؤسسات الموازية الملحقة بالخارج والمرهونة له.
4_ شن حملات نظرية وفكرية و"علمية" لجعل المعايير الأوروبية هي المعايير السائدة في فهم قضايا الفلسفة والمجتمع والاقتصاد والأخلاق والقومية والدين والتربية والتنمية. وبهذا يكون الاخفاق مصير كل ثورة أو انتفاضة أو حركة تحرير ما دامت تحمل في طياتها تغريباً وابتعاداً عن الإسلام.
وقد ركزت تلك القوى الخارجية في المجال النظري والفكري في مواجهة الإسلام على ما يلي:
1_ فصل الدين عن الدولة، والمقصود هنا تحويل الإسلام إلى دين عبادة فقط ونزع كل جوانبه الأخرى المتعلقة بتنظيم الحياة الاجتماعية والثقافية وروحه الثورية، والاستقلالية، واستغلاله بعد ذلك من خلال بعض العملاء وإظهاره بمظهر التخلف أو الموالاة للقوى الاستعمارية. ومن ثم تحويل الدولة إلى تابعة في تشريعها وقوانينها لفلسفة القوانين الغربية المستمدة من القانون الروماني.
2_ اعتبار الفكر الإسلامي والموضوعات الإسلامية "سلفية" بمعنى متخلفة وقديمة.
3_ طمس المرحلة الإسلامية في تاريخ الشعوب الإسلامية والعودة إلى إبراز المرحلة السابقة وذلك من أجل تكريس دول التجزئة وإيجاد العداوات والبغضاء والمشاحنات بين الشعوب الإسلامية ليصار الى السيطرة عليها وإفقادها إمكانية النهوض وذلك لأن تعميم تلك العداوات بين الشعوب الإسلامية يجعل بأسها بينها.
4_ بث القيم والمعايير الغربية وتغيير نمط الحياة بأكمله بما يحكم طوق التبعية الأبدية. وبهذا تصبح التبعية راسخة في أسلوب الحياة والعادات والتفكير.
أما موقف القوى الخارجية في التعامل مع العرب على المستويين النظري _الفكري _ فقد شمل ما تقدم وأضيف عليه.
1_ إيقاع الطلاق بين العروبة والإسلام وذلك من خلال إنكار علاقة الأخوة والوحدة بين العرب والشعوب الإسلامية الأخرى في ظل أمة الإسلام، لا سيما الأتراك، لضرب الدولة العثمانية.
2_ بعد رفض مقولة الأمة الإسلامية يصار إلى رفض حتى مقولة الأمة العربية والوحدة العربية، من أجل تكريس الإقليمية الناتجة عن التجزئة التي فرضت خلال القرن التاسع عشر. ثم توسعت بعد الحرب العالمية الأولى وكرست باتفاقات سايكس بيكو وما شابه من معاهدات تقسيم بلاد المسلمين.
3_ التركيز على إضعاف اللغة العربية وهجرها وإحياء العامية، واللهجات الركيكة، أحياناً، وتكريس لغة أجنبية لتصبح لغة التفكير والخطاب بين فئات النخبة الحاكمة والمتعلمة أحياناً أخرى.
4_ تكوين الشروط الموضوعية والنفسية في دول التجزئة العربية العلمانية المؤدية إلى الاستسلام أمام الكيان الإسرائيلي والقبول بوجوده والتخلي عن هدف التحرير الكامل.
المصدر : قضايا التنمية والاستقلال في الصراع الحضاري
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق