◄الموت والحياة، قصتان متلازمتان تختصران كينونة الوجود وتجريان لمستقرّ لهما بحسبان دقيق، وتنظيم عميق. أوجدهما الباري عزّ وجلّ رحمة للعالمين، وفيهما عبرة الابتلاء، ومناهل الاختبار، ثمّ بعد ذلك هو الغفور الرحيم.
وللحياة تجلّيات إعجازية مبدعة، ونتحسّسها في أصغر المخلوقات وأكبرها، أقربها وأبعدها، أضعفها وأقواها، ذكرها وأنثاها، بدءاً من الإنسان سيد المخلوقات إلى أضعف مظاهرها في النبات، مروراً بالحيوان. فسبحان من سبّح بقدرته مواهبه السنية، وعطاياه الهنية، ونعمه الجلية على هذا العالم المحتاج من حيث وجوده ونشأته ونموه إلى نعمة العطف الإلهية.
لعل النبات من ذوي الفاقة الكبرى إلى ما ذكرناه، لأنّه الأساس الحيوي للمخلوقات الأخرى من إنسان وحيوان. ذاك أنّ الإنسان تقوم حياته بالغذاء من النبات والحيوان، وتقوم حياة الحيوان بالغذاء من الحيوان والنبات.
قال الله تعالى: (وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ[1]) (النحل/ 10).
ومن هنا كان النبات محرّكاً أساسياً لاستمرار عجلة الحياة التي تعتمد عليه بشكل أولي.
إنّ في مخلوقات الله عزّ وجلّ آيات وبصائر (.. لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (ق/ 37). فلقد خلق كل شيء فأحسن خلقه وتدبيره، وأتقن صنعه وتنظيمه، فجاء في كل دقائقه ومحطات وجوده مثالاً في الإعجاز، وآية في الإبداع، تدل على العلّام القدير.
وحياة النبات أمرها عجيبٌ كغيرها من أنواع الحياة على الأرض، فإنّ تلك البذرة الصغيرة التي تُلقى في أحشاء الأرض حاملة معها مستلزمات نموّها وخصائصها التي تميّزها عن غيرها من النباتات، لا تلبث أن تستقر وتأنس في رحم التراب، كما يستقر الجنين ويأنس في رحم أمه، فيأخذ كل منها مقدار حاجته من الكالسيوم، والصوديوم، والمغنزيوم، وغيرها من المواد العضوية الفعالة.
ومن بديع الأشياء أنك ترى كيف أنّ الجذر يغور في الأرض، وكيف أنّ الساق تندفع نحو الأعلى، ولم يحدث مرة قط أن اختل هذا المنهج بأن يندفع الجذر نحو الأعلى والساق نحو الأسفل. ثمّ انظر كيف يكتسي هذا المخلوق كساءه الأخضر الريّان فيضفي عليه حلّة زاهية نظرة تبعث البهجة في النفوس، وتزيل الكآبة والعبوس، قال تعالى: (.. فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ) (النمل/ 60).
ثمّ هذه الأوراق الخضراء تُطِلّ زهوراً مختلفة الألوان حمراء أو صفراء أو أرجوانية أو غيرها من الألوان الخلّابة، بعضها عطريّ الرائحة، وبعضها غير ذلك، ومن الأثمار ما هو مختلف في اللون والمذاق والرائحة.
كل هذا من بذرة صغيرة لا تكاد أجزاؤها تتميّز عن سائر الماديات، فأين كانت هذه الساق والأوراق والثمار من البذرة الصغيرة، فسبحان من أودع فيها ما أودع، وإن في ذلك لدلالة على وجود المبدع الخلّاق، وعلامة على قدرة إعجازه الباهرة.
وكذلك فإنّ إحياء الأرض الميتة بالمطر، ثمّ بنموّ نباتها ذات الأطعمة اللذيذة والأشكال المتنوعة والمذاق المختلف، لأكبر دليل على قدرته تعالى على إعادة الحياة بعد الموت. قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً[2] فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (فصلت/ 39).
والبذرة التي بدأت حياتها من اتحاد خليّتين تكون فرداً جديداً يشقّ طريقه في الحياة، ويكون مشابهاً للنبات الذي أنتجه، بحيث لا تنتج حبة القمح إلا قمحاً، ولا بذرة البلوط إلّا شجرة بلوط، وهذه حقيقة واقعة تجدها أينما اتجهت في عالم النبات.
كما أننا إذا نظرنا إلى محاصيل النباتات نجدها تختلف في الطعم حتى لو كانت من نوع واحد، وفي أرض واحدة أو متجاورة وتُسقى بماء واحد. ومثال ذلك ما خصّه تعالى بالذكر في الآية المباركة:
(وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الرعد/ 4).
فالعنب على سبيل المثال لا الحصر، من الأثمار التي تختلف اختلافاً عظيماً في الشكل واللون والطعم والمقدار والجودة، وغير ذلك. وكذلك النخيل الذي وصفه تعالى هنا بالصنوان، وهي النخيلات من أصل واحد تنبت من جذر واحد في أرض واحدة وتُسقى بماء واحد ثمّ هي تختلف بالطعم والمذاق!
وإذا قلنا إنّ هذه الاختلافات عائدة إلى الطبائع الخاصة بكل منها، فمن أين جاءت هذه الطبائع الداخلية والعوامل الخاصة، ومن هيّأها وأعطاها هذه المزايا المتنوّعة في الطعم، وسوف يقودنا السؤال إلى سؤال آخر أشدّ تعقيداً، وأكثر عمقاً وهو من أين جاءت النباتات الأولى؟ ونحن لا نستطيع أن نصل بعقلنا الطبيعي، ومنطقنا السليم إلى أنّ هذه الأشياء قد أوجدت وأنشأت نفسها بنفسها بمحض الصدفة، ولابدّ من التسليم بقدرة المبدع الخالق الذي تتجلّى معجزاته من الذرة إلى المجرة.
قال سبحانه: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ...) (فصلت/ 53).
وقد لفت سبحانه انتباهنا وأفهامنا من خلال آيات عديدة بانّه هو الذي يُنبت ويُنمي الزرع حتى يبلغ الغاية، ويصل بعد ذلك إلى نهاية، قال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) (الواقعة/ 63-67).
ومعنى الآية المباركة: أرأيتم عملكم في الأرض من حرث وإلقاء البذر فيها أأنتم تُنْبتونه وتنمّونه أم نحن، ولو شئنا لجعلنا هذا النبات هشّاً يابساً فظللتم بعد ذلك تتعجبون ما أصيب به زرعكم، فتظنّون تارة أنكم وقعتم في خسارة المال والوقت والسعي، وتارة أخرى تظنّون أنكم ممنوعون من الرزق والخير.
"ولا منافاة بين نفي الزرع عنهم ونسبته إليه تعالى، وبين توسّط عوامل وأسباب طبيعية في نبات الزرع ونموّه، فإنّ الكلام عائدٌ في تأثير هذه في نبات الزرع ونموّه، فإنّ الكلام عائدٌ في تأثير هذه الأسباب وصنعها، وليس نموّ تأثيرها باقتضاء من ذاتها منقطعة عنه تعالى، بل بجعله ووضعه وموهبته، وكذا الكلام في أسباب هذه الأسباب وينتهي الأمر إلى الله سبحانه وإن إلى ربك المنتهى"[3].
فسبحان الذي خلق الأشياء بسرّه المكنون بالكاف والنون، وقد قال أمير البلغاء في نهج البلاغة: "يقول لما أراد كونه كن فيكون، لا بصوت يُقرع، ولا نداء يُسمع، إنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثّله، ولم يكن من قبل ذلك كائناً، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً".
فسبحانك ربنا عدد أوراق الشجر، وقطرات المطر، وحبّات الرمال، وحصى الجبال التي لا يملك علمها عداك، ولا يدبر أمرها سواك.
صفات النبات العامة في القرآن الكريم:
وُصف النبات في القرآن الكريم بعدة أوصاف منها:
الاخضرار:
ورد وصف الأخضر مرتبطاً بالنبات في خمس آيات مباركة:
(فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا) (الأنعام/ 99).
(الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا...) (يس/ 80).
(.. وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ...) (يوسف/ 43و46).
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً..) (الحج/ 63).
ويعدّ اللون الأخضر من أهمّ ألوان الطيف السبعة، وهي تمثل على الترتيب: الأحمر، البرتقالي، الأصفر، الأخضر، الأزرق، النيلي، البنفسجي (وهو بين الأصفر والأزرق).
ونجد هذا اللون شائعاً في النبات والشجر يضفي عليه تعبير الحياة والنضارة، ثمّ في الأثمار، ومن المعروف أنّ هناك علاقة بين غذاء النبات والضوء من ناحية، واللون الأخضر من ناحية ثانية. وبدون اللون الأخضر يصعب على النبات الحصول على غذائه، فلو تأمّلنا في هذه العلاقات نجد أنّ النبات لا يعيش إلا باللون الأخضر، والإنسان لا يعيش إلّا بالنبات وكذلك الحيوان.
لذلك نرى في أنّ هذه العلاقة (دورة الحياة التي نظمها الخالق سبحانه) تبدأ باللون الأخضر، الذي بدوره يعطي الغذاء للنبات والحيوان (الذي يعيش على النبات) والإنسان (الذي يأكل النبات والحيوان معاً)[4].
وقد اختير هذا اللون ليكون لون أزياء أهل الجنة، قال تعالى: (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ...) (الإنسان/ 21).
فسبحان الذي أنشأ النبات من تراب وماء، ولوّنه بريشة الإعجاز فجعله أخضر يانعاً، فكان هذا اللون ملازماً وأساساً لوجوده وعلامة على حياته، وجعل يباسه إشارة إلى موته وتعبيراً عن فنائه وزواله.
الوزن:
قال تعالى: (.. وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) (الحجر/ 19).
ومن معاني هذه الآية[5]: "الموزون يعني المتناسب، وصحيح أنّه مشتق من الوزن، ولكن المعنى الأصلي للوزن هو المقايسة، ولا يمكن الادّعاء بأنّ الوزن في جميع الموارد هو بمعنى الثقل، إذاً يصبح معنى تلك الآية أنّ أعضاء النبات قد خلقت متناسبة ومقدّرة مثل التناسب الموجود بين أعضائنا. فلا يوجد نبات فيه ساق دقيق كسيقان السنابل وله جذور غليظة كجذور أشجار الصنوبر".
البهجة:
قال تعالى: (.. فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ...) (النمل/ 60).
والبهجة هي حسن اللون وظهور السرور فيه. وهو الشيء الذي تفجّر رؤيته البهجة والسعادة في النفس وهذه خاصّية عجيبة في النباتات، فالنظر إلى أيّ لون من ألوان النبات يوجد في نفس الإنسان لذة وسروراً، وتلك الألوان والأشكال نفسها إذا وجدت في الجمادات فإنها لا تتمتع بتلك الخاصّية (أو على الأقل ليس بتلك الدرجة)[6] وكل ذلك جعله سبحانه تمتّعاً للعين وإيناساً للنفس وترفيهاً للمزاج.
الكرم:
كل شيء شَرُفَ في بابه فإنّه يُوصف بالكرم[7]. وقد جاء في القرآن الكريم مرتين ملحوقاً بالنبات: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) (الشعراء/ 7)، وفي آية أخرى (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) (لقمان/ 10)، ومعنى الآية[8]: "أي وأنزلنا من جهة العلوّ ما وهو المطر، وأنبتنا فيها شيئاً من زوج نباتي شريف فيه منافع وله فوائد".
الهوامش:
[1]- تسيمون أي ترعَون أنعامكم، أي مواشيكم.
[2]- خاشعة: يابسة لا نبات فيها. اهتزّت: تزخرفت بالنبات.
[3]- الميزان في تفسير القرآن، للعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، ج19، ص140.
[4]- الأخضر في القرآن الكريم، لعبد المنعم الهاشمي، مجلة المعارج، ج2، عدد 16، ص107.
[5]- معارف القرآن للأستاذ محمد تقي المصباح، ص63.
[6]- م. ن.
[7]- تفسير مفردات وألفاظ القرآن الكريم، للأستاذ سميح عاطف الزين، ص744.
[8]- الميزان في تفسير القرآن، للعلامة الطباطبائي، ج16، ص216.
المصدر: مجلة نور الإسلام/ العددان 53 و54 لسنة 1994م
ارسال التعليق