• ١٥ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٣ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

«الخوف» حكمة سماوية

السيد عبدالحسين القزويني

«الخوف» حكمة سماوية

◄تشكل الانفعالات دوافع في حياة الإنسان، وبما أنّ الخوف نوع من أنواع الانفعال، فهو يشكل دافعاً يدفع باتجاه البعد، عن مصدر هذا الخوف، واجتنابه، وهو بعينه ما يريده الشرع من الناس، يريد منهم الاجتناب، والبعد عن الممنوعات، والمحرمات التي حرّمها الله.

ثمة في التعاليم السماوية ممنوعات، يعبَّر عنها بالآثام، أو الذنوب، أو الخطايا.. وغير ذلك من التعابير المختلفة التي ترمز إلى النواهي، والمحرمات الشرعية، وقد ورد ما ورد من النهي عنها في الدين عن حكمة سماويّة، وروعيَ في النهي مصلحة أبناء البشر، وأُريد لهم الخير من ذلك، ونَهْيُ الدين عنها، كنهي الطبيب الجسماني، عن ما ينتج عنه الضرر للمريض، وإن كان طيب الطعم، حلو المذاق، ولكنه يضرُّ بصحة المريض، ويعيق شفاءَه.

وبما أنّ النفس مجبولة على المخالفة، وعلى اتباع الهوى، والانصراف إلى الممنوع، وردت تحذيرات الباري عزّ وجلّ، من العقاب في الآخرة.. وربما في الدنيا، وحدّد للناس بعض صور العذاب، ورسمها بأسلوب تعبيري مثير، بحيث تجعل النفس في خوف ووَجل من هذا العقاب الأليم.

(كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ...) (النساء/ 56).

(يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ) (الحج/ 19).

إنّ هذه الآيات، وأمثالها، من آيات العذاب، ترهب النفس، وتملأ القلب رعباً ووحشةً، وتدع العاصي في خوف عظيم، من هذه النتيجة المهولة.

ولكن – رغم ذلك – فالخوف في الحقيقة ليس من الله عزّ وجلّ، وإن كانت النصوص القرآنية، تدعو للخوف من الله تعالى:

(وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (البقرة/ 40).

(فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) (المائدة/ 44).

ولكننا نعلم – بالقطع واليقين – أنّ الخوف المراد في الآيات، هو الخوف من العقاب المحتوم، الذي يسبّبه الإنسان المذنب لنفسه، بنفسه، كالخوف الذي يعتري المريض الممنوع من طعام معيّن، فهو يخشى سوء العاقبة، ولا يخشى الطبيب نفسه وإن كان الطبيب هو الذي أخافه..

كذلك الخوف من الله عزّ وجلّ، إنّه في الواقع، خوف من النتائج السيئةِ، والعواقب الوخيمة التي تنتظر الجُنَاة والعُصاة، أما المؤمنون الطائعون، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

(فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة/ 38).

(لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ...) (الأنبياء/ 103).

(فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة/ 62).

ومن خصائص هذا الخوف، أنّه يبعد الإنسان من مصدره، ويجنّبه مواطن الزلل ومسالك الخطر..

إنّ الخوف من الله تعالى، لا يعني إزعاج النفس، وإيلامها، واشغالها بالقلق، بل هو عبارة عن منهج وسلوك، يُقَوِّمُ حياة الإنسان..

إنّه يعني الالتزام بحدود الله، وقوانينه، والفرار من المعاصي والذنوب، وتجنب الإعتداء على الآخرين وتجاوز حدودهم؟

إنّ الخوف من الله تعالى، يعني الامتناع عن الظلم، واستعباد الناس، والحيف بهم.

إنّه يعني – فيما يعني – الإقبال على العمل الصالح، والبادرة إلى الخير، وإسعاد الحياة في الدنيا والآخرة، إنّه يعني: الالتزام بالمبادئ، واحتضان القيم، والعمل على بثّها في المجتمع، ونشرها بين الناس..

أما الله عزّ وجلّ، فليس من صفاته (الإخافة) بل على العكس من ذلك تماماً، من صفاته (الرحمة) فهو الرحمن الرحيم، وهو أرحم الراحمين، وهو الغفور الودود.

نعم، يهدد تارة بالعذاب، ويلوّح أخرى بالثواب.

(نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ) (الحجر/ 49-50).

(اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة/ 98).

والمطلوب: أن تستقر النفس في مكان وسط، بين الخوف والرجاء.

يقول شاعر:

تعادل الخوفُ فيهم والرجاءُ فلم *** يُفرطْ بهم طمعٌ يوماً ولا وَجَلُ

نقرأ في القرآن الكريم، وفي النصوص الشرعية الأخرى، آيات ودلالات النقمة والعذاب ونقرأ أيضاً آيات ونصوص الشرعية الأخرى، آيات ودلالات النقمة والعذاب ونقرأ أيضاً آيات ونصوص الرحمة والمغفرة، ولكن هذه أكثر بكثير، من تلك، فالمساحة التي زرعها الله رحمة ومغفرة أكبر بكثير، من تلك التي نثر فيها معاني الخوف، وآيات العذاب.

إنّ ما نسمعه، ونقرؤه من مشاهد الهول، وصور العذاب، في النصوص الدينية، تشكّل موضوع انفعال في سلوك الفرد، يؤدي إلى الخوف، وهو ما يعبَّر عنه بـ(التقوى).

إنّ الإنسان بطبعه ميال إلى الذنوب، وتأمره نفسه بالسوء، وتحثه على الأخطاء، والانحراف والزيغ، وإنّ الله سبحانه، الحكيمُ في أفعاله، خلق جنة، وبشَّر بها الطائعين وخلق ناراً، وحذّر منها العاصين، وجعل الإنسان يعيش بين الخوف والرجاء..

ولولا خوفه من العقاب، وحذره من الألم، لمالت به نفسه إلى السوء والحرام دائماً ولكنه بالتقوى يُحدُّ من زيغ نفسه وانحرافها، ويميل إلى حيث الأمن والسلامة، يتجنب مواطن الخوف والبلاء.

ولقد حَثَّ الشرع على التقوى كثيراً، وأمر بها، ودعا إليها. واعتبر المتقين أكرم الناس على الله (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13)، وهي من صفات أهل الفضيلة وذوي النفوس الكبيرة والشرفاء والصلحاء من الناس.

 

المصدر: كتاب رحلة إلى أعماق النفس

ارسال التعليق

Top