• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

العلم في ظلال الإسلام

فضيلة الشيخ عبداللطيف محمد موسى

العلم في ظلال الإسلام
◄من الحقائق الجليات أنّ الإسلام دين العلم وأنّه لا حياة من غير علم، ومع بداية الخليقة البشرية كانت أولى قضايا الإنسان – في مجال التميز – قضية العلم حيث يقول الله تعالى للملائكة: (.. أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ...) (البقرة/ 31)، فقالت الملائكة: (.. لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا...) (البقرة/ 32)، ويعيد الله تعالى نفس السؤال على آدم: (.. أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ...) (البقرة/ 33)، وأجابهم آدم بما أودع الله سبحانه وتعالى فيه من ركائز الفطرة وبما هيأه للتجاوب مع البيئة التي يعايشها بالوسائل المتكسبة. كما أنّ أولى قضايا القرآن الكريم – نزولاً – قضية العلم أيضاً في قوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق/ 1)، إلى قوله: (عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق/ 5). أبرزت الآيات الكريمة توجيهين وتعليق. أما التوجيه الأوّل فهو قضية المخلوق مع الخالق (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)، والتوجيه الثاني البحث في الذات أوّلاً وفي الحياة ثانياً (خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ) (العلق/ 2)، أما التعليق ففي الانفتاح العلمي الذي يكون من ورائه الجديد المتطور (عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق/5). بيد أنّ الإسلام في دعوته إلى العلم من منطلق احترامه للعقل حدد له خطأ لا يتعداه، فالمعارف العقلية قاصرة، وثمة ميادين لا يقف عند عتبات بابها العقل وهي الغيبيات، كالملائكة والوحي والمعجزات واليوم الآخر.. إلخ.. فمن العبث والغرور أن يتناولها العقل لأنّ مجاله المحسوسات في هذا الكون الأرضي، ولكن الغيبيات هي في دائرة ما وراء العقل وما وراء المادة وما يرتبط بالإنسان والكون وما يتعلق بمعايش الناس من حيث النظر. ومن حيث التطبيق فقد حثّ الإسلام على سبر غوره وتأمله وتدبره وكثيراً ما يرد في القرآن الكريم: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الرعد/ 3)، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الرعد/ 4)، على أنّ البحث العلمي ينبغي أن يتجرد من السطحية في الفكر والحشو في الأسلوب والهزل في الوسيلة والانحراف في الغاية وقد كان (ص) يدعو فيقول: "اللّهمّ إني أعوذ بك من قلب لا يخشع ونفس لا تشبع ومن علم لا ينفع"[1]. ويقول: "خير الناس أنفعهم للناس"[2]. على ضوء هذه التوجيهات الحكيمة وانطلاقاً من الضوابط التي تحكم المسيرة العلمية أقبل المسلمون على التحصيل العلمي وعلى أساسه قامت حضارة الإسلام التي نعمت الإنسانية بها أحقاباً ودهوراً.   زعم فاسد: وأما من ادعى أنّ الدين يتنافى مع العلم فمنشؤه قياس الإسلام على الديانات التي لا تحمل وسائل النهضات أو عوامل الحركة ومما سهل لهذه الدعوى الانتشار أنّ جسم الأُمّة الإسلامية قد يصاب بالشلل لأسباب متعددة فيكون بذلك أثره على الجو العلمي بشكل عام ويشيع حينئذ قولهم "ليس في الإمكان أبدع مما كان" هنا تخمد الحركة وتنام الفكرة وتحجب حقائق الإسلام. وتُمنى الأُمّة الإسلامية من داخلها ثمّ تسقط أقطارها لقمة سائغة في أفواه الخصوم فيبيتون للأُمّة ما يبيتون ما دسّ وافتراء. والحقيقة التي لا تقبل الجدل أنّ موقف الإسلام من العلم نشأت عنه حضارة إسلامية ظهرت مع الإسلام نفسه فالمسلم الذي أخذ عن الرسول (ص) كان حضارياً في سلوكياته وأهدافه وكانت وجهته التأسيس وليس التدمير سامي الهمة مثالي الفكر وبتعبير آخر عصامياً أو (Superman). قامت الحياة الإسلامية على الأسس السابقة وَسَنُّت مبادئ العمل الاجتماعي على الإخاء والفضيلة وترجم ذلك الواقع العملي في أمانة وصدق وحملت الأُمّة الإسلامية رسالة السماء إلى الأرض حقاً ورجاء.   موازنة بين الحضارات: كانت الحضارات القديمة أرستقراطية وجاءت الحضارة الحديثة فنشرت الفتنة والتبذل وأخذت كلتاهما موقعاً معادياً للأديان ومواريث الشعوب بشكل مباشر أو غير مباشر، ونحن لا نغمط حق الحضارات التي لم تنشأ في وسط إسلامي دورها في دفع عجلة الحياة إلى الإمام فالحضارات ثمار الفكر الإنساني وهي تمثل تدرجاً في سلم التقدم البشري والعلم لا وطن له، ولعل من ميزات الحضارة الإسلامية أنّها أخذت من الحضارات السابقة ما يتفق مع الأهداف الإسلامية ثمّ أخذت عنها الحضارة الحديثة، وذاكرة التاريخ تعي جيِّداً جابر بن حيان في الكيمياء والرازي في الطب وابن الهيثم في الطبيعة والبغدادي في النبات والخوارزمي في الرياضيات والبيروني في الجغرافية. وتدرك تماماً دور الفارابي في السياسة والماوردي في نظم الحكم والكندي في الفلسفة وابن خلدون في الاجتماع وابن بطوطة في الرحلات... إلخ. وعرفت البيئة الإسلامية المراصد والمتاحف والمكتبات ودور العلم تماماً كمعرفتها لعلوم الشريعة واللغة. طبق المسلمون مبدأ (العلم للعلم) فكانت البحوث الأكاديمية ورفعوا شعار (العلم للمجتمع) فانتفع العالم كله بهذه البحوث واستنكر الإسلام أن يتحوّل محراب العلم إلى المفاخرة وأن يكون مثار جدل، يقول (ص): "لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا تماروا به السفهاء ولا تَخَيروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار النار"[3]. وقال (ص): "أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان"[4].   تقويم ونماذج: إنّ الرحلة العلمية لا تعرف حدود الزمان والمكان وقد شاع القول "اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد" و"اطلبوا العلم ولو بالصين". كان الجهد العلمي للمسلمين ثورة تجديدية وثروة ثمينة قدموها للإنسانية والتاريخ تراثاً خالداً يُذْكر بذكره المسلمون، ومما يجدر التنويه به أنّ القرآن الكريم كتاب هداية وتشريع إلا أنّه قرر القوانين الكونية والإنسانية التي شغلت الباحثين والمجامع العلمية فيما بعد:   1- قال تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ) (فصلت/ 11)، (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا...) (الأنبياء/ 30). قالوا: إنّ أصل نشأة الأرض أنّها كانت على هيئة سديم ودخان ملتهب ثمّ بردت وتحوّلت من النار إلى السائل حول نفسها وحول الشمس – بعد انفصالها – فصارت بيضاوية الشكل. 2- قال تعالى: (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ) (الزمر/ 6)، الظلمات الثلاث أ- ظلمة الرحم يتلاقي فيها الماءان ب- ظلمة المبيض وتتكون فيها البويضة. جـ- ظلمة البوق حيث يتم التلقيح. 3- (.. وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) (نوح/ 14)، إشارة إلى قانون تطور الأحياء وانتخابها. 4- (.. وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ...) (الحج/ 65)، هو قانون الجاذبية. 5- (.. وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ...) (الحجر/ 22)، الذكورة والأنوثة في كل نبات. كما يتحدث القرآن الكريم عن الاضطرابات النفسية وأثرها على الوظائف الجسمية (.. وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) (يوسف/ 84)، وشفي يعقوب من طريق التأثير النفسي (فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا) (يوسف/ 96).   رؤية على الطريق: إنّ القرآن الكريم والسنة النبوية يستحثاننا – دائماً – إلى إمعان ودراسة وتأمل ولنا كذلك في التاريخ الإسلامي في عصوره المختلفة لفتات وعبر أمام عوامل الازدهار وأسباب الجمود كيف كانت وكيف أصبحت؟ ولسنا نشك أنّ المجامع العلمية والمتخصصة الموجودة الآن في المحيط الإسلامي عليها عبء التقنين العلمي وتأصيل مسائله كما أنّ عليها كذلك مهمة أسلمة العلوم ولابدّ من تبادل الخبرات مع المزيد من التطبيق على المستوى الرسمي والعام. وليس هناك ما يمنع الأخذ عن الغير فإنّ حضارة المسلمين لم تبدأ بكرا فقد أخذت عن السابق وأعطت اللاحق، ليس في الإسلام ما يمنع الاستيراد العلمي كما أنّه لا يمنع التصدير العلمي مادام التيار الوافد لا صلة له بالعقيدة والأخلاق، فنحن المسلمين سنبقى كذلك أبداً ولا نقبل البديل الذي يتعارض مع ديننا وفيه الغناء وأي غناء. ومن المعروف أنّ شبكة الاتصالات العالمية تسيطر على عالمنا المعاصر وأنّ علينا أن نضبط وارداتنا من الخارج بضوابط الإسلام حتى تكون لنا العزة كما كانت أوّلاً وهي رسالة كل مسلم نحو دينه ونفسه وتاريخه. وعلى نوافذ المعرفة المنفتحة على الداخل والخارج معاً ألا تنشر أو تبث إلا ما يقوم على الفكرة الصائبة والعرض الجيِّد والأسلوب الأمثل والعلاج الحاسم في عرض قضايا الإسلام بحيث يطالع المسلم الزاد الثقافي الديني والدنيوي في اتجاه واحد وغاية مشتركة وإن تنوعت مناهج البحث وبذا يتسنى تشكيل العقلية المسلمة من غير تناقض أو اضطراب وأبعد ما تكون عن السطحية والتكرار في إطار العمق والذاتية والأصالة.     الهوامش:
[1]- رواه الترمذي. [2]- رواه القضاعي. [3]- رواه ابن ماجه وابن حبان.

[4]- رواه ابن عدي.

المصدر: مجلة الضياء/ العدد 31 لسنة 1993م

ارسال التعليق

Top