• ٢٣ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

«معرفة النفس»

ضياء الدين أحمد

«معرفة النفس»

 

◄عن الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) قال: "العارف مَن عرف نفسه فأعتقها ونزهها عن كلّ ما يبعدها".

وقال (ع): "أكثر الناس معرفة لنفسه أخوفهم لربه".

وقال (ع): "مَن عرفه نفسه تجرّد". أي تخلص من كلّ علائق الدنيا وفتنها وأخلص لله تعالى وحده.

وقال (ع): "مَن عرف نفسه جاهدها، ومن جهل نفسه أهملها". وقال (ع): "مَن لم يعرف نفسه بَعُدَ عن سبيل النجاة، وخبط في الضلال الجهالات".

ووردت أحاديث كثيرة عن أهل البيت - عليهم السلام - تأمر بوجوب معرفة الإنسان لنفسه وتعتبر ذلك من أهم الأشياء التي تكون طريقاً لتمام العبودية لله تعالى والنجاة من التيه والضلال، وجاء التأكيد في القرآن الكريم واضحاً بوجوب معرفة الإنسان لنفسه وتدبر أمرها حتى ينتهي بذلك إلى ربه تعالى وقد روي عن الرسول (ص) قوله: "أعرفكم بنفسه أعرفكم بربّه"، وقوله: "المعرفة بالنفس انفع المعرفتين".

ويعلق العلّامة المرحوم السيد محمّد حسين الطباطبائي في الميزان على هذه الرواية بقوله: "الظاهر انّ المراد بالمعرفتين المعرفة بالآيات الأنفسية والمعرفة بالآيات الآفاقية، قال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصّلت/ 53). وقال تعالى: (وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (الذاريات/ 20-21).

وكون السير الأنفسي أنفع من السير الآفاقي لعله لكون المعرفة النفسانية لا تنفك عادة من إصلاح أوصافها وأعمالها بخلاف المعرفة الآفاقية، وذلك انّ كون معرفة الآيات نافعة انّما هو لأنّ معرفة الآيات بما هي آيات موصلة إلى معرفة الله سبحانه وأسمائه وصفاته وأفعاله، ككونه تعالى لا يعرضه موت، وقادراً لا يشوبه عجز.. وهذه وأمثالها معارف حقه إذا تناولها الإنسان واتقنها مثلت له حقيقة حياته، وانّها حياة مؤبدة ذات سعادة دائمة أو شقوة لازمة، وليست بتلك المتهوسة المنقطعة اللاهية اللاغية، وهذا موقف علمي يهدي الإنسان إلى تكاليف ووظائف بالنسبة إلى ربه وبالنسبة إلى أبناء نوعه في الحياة الدنيا والحياة الآخرة، وهي التي نسميها بالدين، فإنّ السنّة التي يلتزمها الإنسان في حياته، ولا يخلو عنها حتى البدوي والهمجي انما يضعها ويلتزمها أو يأخذها ويلتزمها لنفسه من حيث انّه يقدر لنفسه نوعاً من الحياة أي نوع كان، ثمّ يعمل بما استحسنه من السنة لإسعاد تلك الحياة، وهذا من الوضوح بمكان. فالحياة التي يقدرها الإنسان لنفسه تمثل له الحوائج المناسبة لها فيهتدي بها إلى الأعمال التي تضمن عادة رفع تلك الحوائج فيطبق الإنسان عمله عليها وهو السنة أو الدين.

فتلخص مما ذكرنا أنّ النظر في الآيات الأنفسية والآفاقية ومعرفة الله سبحانه بها يهدي الإنسان إلى التمسك بالدين الحقّ والشريعة الإلهية  من جهة تمثيل المعرفة المذكورة الحياة الإنسانية المؤبدة له عند ذلك، وتعلقها بالتوحيد والمعاد والنبوّة.

وهذه هداية إلى الإيمان التقوى يشترك فيها الطريقان معاً اعني طريقي النظر إلى الآفاق والأنفس فهما نافعاً جميعاً غير انّ النظر إلى آيات النفس أنفع فإنّه لا يخلو من العثور على ذات النفس وقواها وأدواتها الروحية والبدنية وما يعرضها من الاعتدال في أمرها أو طغيانها أو خمودها والملكات الفاضلة أو الرذيلة، والأحوال الحسنة أو السيئة التي تقارنها، واشتغال الإنسان بمعرفة هذه الأمور والإذعان بما يلزمها من أمن أو خطر وسعادة أو شقاوة لا ينفك من أن يعرفه الداء والدواء من موقف قريب فيشتغل بإصلاح الفاسد منها والالتزام بصحيحها بخلاف النظر في الآيات الآفاقية فإنّه وإن دعا إلى إصلاح النفس وتطهيرها من سفاسف الأخلاق ورذائلها، وتحليتها بالفضائل الروحية لكنه ينادي من مكان بعيد، وهو ظاهر".

وعند تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (المائدة/ 105).

قال صاحب الميزان:

"... إذا كانت الآية قدرت للمؤمنين طريقاً فيه اهتداؤهم ولغيرهم طريقاً من شأنه ضال سالكيه، ثمّ أمر المؤمنين في قوله: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) بلزوم أنفسهم كان فيه دلالة على أنّ نفس المؤمن هو الطريق الذي يؤمر بسلوكه ولزومه فإنّ الحث على الطريق انما يلائم الحث على لزومه والتحذير من تركه لا على لزوم سالك الطريق كما نشاهده في مثل قوله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (الأنعام/ 153).

فأمره تعالى المؤمنين بلزوم أنفسهم في مقام الحث على التحفظ على طريق هدايتهم يفيد أنّ الطريق الذي يجب عليهم سلوكه ولزومه هو أنفسهم، فنفس المؤمن هو طريقه الذي يسلكه إلى ربه وهو طريق هداه، وهو المنتهي به إلى سعادته. فالآية تجلي الغرض الذي تؤمه إجمالاً آيات أخرى كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) (الحشر/ 18-20). فالآيات تأمر بأن تنظر النفس وتراقب صالح عملها الذي هو زادها غداً وخير الزاد التقوى فللنفس يوم وغد وهي في سير وحركة على مسافة، والغاية هو الله سبحانه وعنده حسن الثواب وهو الجنة فعليها أن تدوم على ذكر ربها ولا تنساه فإنّه سبحانه هو الغاية، ونسيان الغاية يستعقب نسيان الطريق فمن نسي ربه نسي نفسه، ولم يعد لغده ومستقبل مسيره زاداً يتزود به ويعيش باستعماله وهو الهلاك، وهذا معنى ما رواه الفريقان عن النبيّ (ص):

"من عرف نفسه فقد عرف ربّه".►

 

المصدر: كتاب نظرات في تزكية النفس

ارسال التعليق

Top