◄البناء.. والبداية المبكرة وسورة المدثر
الذين يُقدرون الأهمية البالغة لعملية البناء السليم للمجتمع، وما ينبغي لذلك من الإحكام ومراعاة الأسس السليمة، كيما ترتفع قواعد هذا البناء على الصورة المطلوبة، كما يقدرون تمتين الروابط بين أبناء المجتمع كيما يكونوا – وهم يكدحون في بناء الحياة – عناصر نمائه في مختلف المجالات، وطاقات الرقي به إلى ما هو الأكمل والأفضل.
الذين يقدُرون ذلك كلّه بإحاطة وإدراك: يشاركوننا الحكم بأهمية نظرة الإسلام المبكرة – التي أسعدنا اصطحابها من قريب – إلى جانب من جوانب هذه العملية، قبل أن توسَّد إلى هذا الدين سياسة المجتمع بكلِّ شؤونه ليُحكَم بما أنزل الله، وما لذلك من دلالة لا تقبل الشك، على أنّ القرآن الحكيم الذي يهدي للتي هي أقوم: هو كلام ربنا العليم الخبير، نزل به الروح الأمين على قلب رسول الله (ص) ليكون من المنذرين، وأنّ شرعة الإسلام هي شرعة مالك الملك سبحانه وتعالى، وهو أعلم بما يصلح عباده، وما هو خير لهم في دنياهم ويوم يبعثون. وليست هذه الشرعة – على ما يزعم أهل التفسير المادي للتاريخ – تمخضات أرضية لأوضاع اجتماعية واقتصادية معينة، نادى بها مصلح في الأرض كان من المجنِّي عليهم في تلك الأوضاع، نداءً مقطوع الصلة بالسماء، وأنّ ما طرحه من مقولات وأفكار تتصل بالدين: إنما هي عناوين مناسبة لما أراد من ذلك الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي. وهي عناوين ومصطلحات اقتضتها بيئة وظروف معينة.
أجل: ليست هذه الشرعة المباركة كذلك: وإنّه لزعم تسقطه النصوص والوقائع جملة وتفصيلاً، وقد ظهر عواره أكثر وأكثر عند التطبيق العملي. وجل شأنه ربنا القوي العزيز إذ يقول في محكم كتابه: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الجمعة/ 2-4).
هذا: ومن أبجديات ما يقتضيه الإيمان: اعتقاد أنّ كتاب الله يهدي لأقوم السبل، ويسلم الأُمّة إلى أفضل وأكرم المناهج؛ ذلكم قوله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (الإسراء/ 9-10).
وفي حديث موصول بما سلف من القول فيما دلت عليه آي الكتاب – وبخاصة ما أشرقت به سورتا الماعون والفجر – من تباشير الإصلاح الاجتماعي الذي له كبير الأثر في ميدان الاقتصاد، وتوفير الانتفاع بالطاقة البشرية.. أود أن أشير إلى أنّ ما ذكر – على سبيل الإنكار والتعجب لوجوده – من صفات لتلك العناصر المهلهلة التي تزعزع البناء وتعوق النماء: لابدّ لاستجلاء الحكم عليها بما لها من سوء الأثر في المجتمع، والمخالفة عن صيغة التعامل الإنساني بين الإنسان وأخيه الإنسان.. من الاستنارة بما ورد في شأنها من سوء العاقبة لأصحابها يوم العرض الأكبر على رب العالمين.
ففي كلام طيب مبارك على مسؤولية كلّ نفس بما كسبت، وما تكون عليه حال المجرمين في نار السعير سقر: نقرأ في سورة المدثر – وهي من أوائل ما نزل في العهد المكي من القرآن – أنّ واحداً من أسباب شقوة هؤلاء الذين يتقلبون في الجحيم: أنهم كانوا لا يطعمون المسكين؛ ذلكم قول الله جلّ وعزّ: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ) (المدثر/ 38-47).
قال الحافظ ابن كثير: أي ما عبدنا ربنا ولا أحسنا إلى خلقه من جنسنا. هكذا أجاب المجرمون بذكر أسباب إلقائهم في النار؛ لأنّهم ما ظنوا إلا ظاهر الاستفهام – كما يقول صاحب "التحرير والتنوير" – فذكروا أربعة أسباب هي أصول الخطايا وهي: أنّهم لم يكونوا من أهل الصلاة، فحرموا أنفسهم من التقرب إلى الله. وأنهم لم يكونوا من المطعمين المساكين؛ وذلك اعتداء على ضعفاء الناس بمنعهم حقهم في المال.
وأنّهم كانوا يخوضون خوضهم المعهود الذي لا يعدو تأييد الشرك وأذى الرسول (ص) والمؤمنين.
وأنّهم كذبوا بالجزاء، فلم يتطلبوا ما ينجيهم. وهذا كناية عن عدم إيمانهم، سلكوا بها طريق الإطناب لمقام التحسُّر والتلهف على ما فات؛ فكأنهم قالوا: لأنّنا لم نكن من المؤمنين؛ لأنّ أهل الإيمان اشتهروا بأنهم أهل الصلاة، وبأنهم في أموالهم حقّ معلوم للسائل والمحروم، وبأنّهم يؤمنون بالآخرة وبيوم الدين، ويصدقون للرسل. وقد جمعها قول الله تعالى في فواتح سورة البقرة: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (البقرة/ 2-4).
ويلاحظ هنا ارتباط هذه الخصال الذميمة التي اعترف بها أصحابها من أهل النار، موقنين أنها من أسباب ما يلقون من العذاب المهين في سقر.. يلاحظ ارتباطها بالتكذيب بيوم الدين ارتباطاً يشي بالتلازم بينها كالذي رأينا – من قبل – في السورة التي يذكر فيها الماعون.
ولما كانت الحقيقة تذكِّر بأختها: فلنذكر هنا ما جرت الإلماحة إليه فيما سبق: مما يكون من شأن من يؤتى كتابه بشماله – كما تحدثت سورة الحاقة – وكيف أنّ مآله شر أنواع العذاب في الجحيم؛ إذ نجد من أسباب شقوته أيضاً: أنّه كان – مع ما هو متسربل به من ظلام الكفر نسأل الله السلامة – لا يحض على طعام المسكين.
ولنعد إلى ذكر الآيات الكريمات في ذلك. قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ) (الحاقة/ 25-37).
قال علماؤنا في تذكير بروعة الأسلوب القرآني في الدلالة على المراد: بأنّ جملة (إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) في موضع العلة للأمر بأخذ هذا الذي أوتي كتابه بشماله وإصلائه الجحيم.
ومن بديع النظم القرآني: ووصف الله تعالى هنا بالعظيم؛ إذ في ذلك إيحاء إلى مناسبة عظيم العذاب للذنب، لأنّ الذنب كان كفراناً بعظيم؛ فكان جزاءً وفاقاً.
والملاحظ أنّ نفي حضه على طعام المسكين يقتضي بطريق الفحوى – كما جرت الإشارة من قبل – أنّه لا يطعم المسكين من ماله؛ فالمعنى: لا يطعم المسكين ولا يأمر بإطعامه.
وقد كان أهل الجاهلية مع ما يتصفون به من الكرم في المناسبات: لا يطعمون الفقير إلا قليلاً منهم. وقد جعل عدم الحض على طعام المسكين – وهو من ذميم الخصال في التعامل مع الضعفاء – مبالغة في شح هذا الشخص عن المساكين حتى بمال غيره، وكناية عن الشح عنهم بماله.
قال ابن عاشور: "وإذ قد جعل عدم حضه على طعام المسكين جزءَ علة لشدة عذابه: علمنا من ذلك موعظة للمؤمنين زاجرة عن منع المساكين حقهم وهو الحقّ المعروف في الزكاة والكفارات وغيرها". "التحرير والتنوير" [29/ 138-139]. ويا سبحان الله كيف جُعل الجزاء من جنس العمل؛ فالاستهانة بطعام المسكين أو الحض عليه في الدنيا: جعلت الغسلين طعام ذلك الجاني في الآخرة.
هل لي بعد هذا أن أقول: إنّ أبواب الخير مفتحة على مصاريعها أمام المسلم – أن لو عقل من بيدهم التنهيج ومن بيدهم التنفيذ – لبناء المجتمع المتكافل المتعاون على أساس من الإيمان بالله واليوم الآخر، وأكرم بمنهج القرآن منهجاً يجمع بين العقيدة والأخلاق، وبين الدنيا والآخرة.
المصدر: كتاب الإنسان والحياة في وقفاتٍ مع آيات
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق