اسرة
وللعبد إلى الله رحلتان، رحلة الإقبال ورحلة العودة، ولكل منهما أدب وأصول.
وإذا فقد الإنسان الأدب مع الله في أي من هاتين الرحلتين، لا يبلغ غايته في تلك الرحلة.
وللإقبال على الله أدب ونهج وأصول، تأملوا في هذه الفقرات الواردة في زيارة (أمين الله):
(اللّهمّ إنّ قلوبَ المخبتين إليك والهة، وسبلَ الراغبين إليكَ شارعةٌ، وأعلامَ القاصدينَ إليك واضحةٌ، وأفئدةَ العارفين منكَ فارِغةٌ، وأصوات الداعين إليك صاعدةٌ، وأبوابَ الإجابة لهم مفتَّحةٌ، ودعوةَ من ناجاكَ مستجابةٌ). ومن المناجاة الخامسة من المناجاة الخمسة عشر.
(أتيتكَ طامعاً في إحسانكَ. راغباً في إمتنانكَ مستسقياً وابِلَ طَولِكَ مُستَمطِراً غمامَ فضلِكَ طالباً مَرضاتكَ، قاصداً جنابكَ، وارداً شريعة رفدكَ مُلتمِساً سَنِيَّ الخيرات من عِندِكَ، وافداً إلى حضرة جمالك، مُريداً وجهك، طارقاً بابكَ، مستكيناً لعظمتك وجلالك).
وهذه بعض نماذج أدب (الإقبال على الله). وأما أدب (العودة إلى الله) فهو يختلف بعض الشيء عن أدب الإقبال على الله.
إنّ الإنسان إذا عاد إلى الله يكون حاله كالعبد الآبق الذي يرجع إلى مولاه، نادماً عائذاً به، خجلاً، مستحيياً، منكسراً، مقراً، معترفاً... كذلك يرجع العبد العاصي إلى الله تعالى نادماً تائباً.
- عناصر أدب العودة إلى الله:
وللعودة إلى الله أدب خاص بها. له مفردات وعناصر ورد ذكرها في نصوص الأدعية المأثورة عن أهل البيت – عليهم السلام – وسوف نذكر فيما يلي بعضاً من النصوص الجامعة لطائفة من عناصر أدب العودة إلى الله تعالى، لنعقبه بعد ذلك باستعراض موجز لأهم عناصر العودة إلى الله سبحانه.
- النصوص الجامعة لمفردات أدب العودة إلى الله:
وقد ورد في الدعاء الذي علّمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) لكميل بعذ هذه الحالات إلى تلازم العبد المذنب في عودته إلى الله، هي من آداب رحلة العودة.
يقول أمير المؤمنين في هذا الدعاء.
(وقد أتيتُكَ يا إلهي بعدَ تقصيري وإسرافي على نفسي معتذراً، نادماً، منكسراً، مستقيلاً، مستغفراً، منيباً، مُقراً، مذعناً، معترفاً، لا أجد مفراً مما كان مِنّي، ولا مفزعاً أتوجهُ إليه في أمري غير قبولِكَ عذري، وإدخالِكَ إيايَ في سعةِ رحمتكَ).
وفي دعاء الاسحار:
(يا رب إرحم دعائي، وتضرعي، وخوفي، وذلي، ومسكنتي، وتعويذي، وتلويذي).
وفي النص التالي، من دعاء الأسحار في شهر رمضان ورد ذكر طائفة من أهم عناصر أدب العودة إلى الله:
(يا رب هذا مقام العائذ بك من النار. هذا مقام المستجير بك من النار، هذا مقام المستغيث بك من النار. هذا مقام الهارب إليك من النار. هذا مقام من يبوء لك بخطيئه، ويعترف بذنبه، ويتوب إلى ربه هذا مقام البائس الفقير. هذا مقام الخائف المستجير. هذا مقام المحزون المكروب، هذا مقام المغموم المهموم. هذا مقام الغريب الغريق. هذا مقام المستوحش الغَرِق هذا مقام من لا يجهد لذنبه غافراً غيرك، ولا لضعفه مقوياً إلا أنت، ولا لِهمِّه مُفرّجاً سواكَ. يا الله، يا كريمُ. لا تُحرِق وجهي بالنّار بعدَ سجودي لكَ وتعفيري بغير مَنٍّ منّي عليكَ).
- مفردات أدب العودة إلى الله من النصوص الإسلامية:
وأهم عناصر أدب العودة إلى الله أربعة عشر عنصراً. إستخرجناها من نصوص الأدعية المأثورة عن أهل البيت – عليهم السلام –، وفي كلماتهم وأدعيتهم عليهم السلام كنوز من وعي التوحيد وفقه التوحيد، قلما نجده في مصدر آخر.
وهذه العناصر هي:
1- الإعتراف.
2- الإعتذار.
3- الإستحياء.
4- قبول العتبى.
5- الرجاء وحسن الظّن بالله.
6- الذل والإنكسار.
7- الطمع في رحمة الله.
8- الخوف.
9- العزم على الإنابة والتوبة.
10- الحزن.
11- الإستغفار والإسترحام.
12- الفرار إلى الله.
13- الإضطرار.
14- الندم.
وفيما يلي إشارة موجزة إلى بعض النصوص الواردة في كل واحدة من هذه المفردات الأربعة عشر، ليتسنى لنا أن نعيش ان شاء الله مفردات العودة إلى الله، في ضوء نصوص الأدعية، عسى أن يرزقنا الله تعالى (العودة) و(وعي العودة).
1- الإعتراف والإقرار:
المفردة الأولى من هذه العناصر، الإعتراف والإقرار، وهو بداية البداية والخطوة الأولى على طريق العودة، ومن دونها لا تتحقق العودة.
ورحم الله العبد الصالح ذا النون (ع)، حيث بدأ رحلة العودة إلى الله بالإقرار بـ(إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (الأنبياء/ 87).
الشّرط الأول في العودة إلى الله (الإعتراف) والشرط الثاني (الإعتذار). وفي مقابل (الإعتراف) (الإنكار) وفي مقابل (الإعتذار) (التبرير). وكل من (الإعتراف) و(الإعتذار) جميل، وكل من (الإنكار) و(التبرير) قبيح وليس الإنكار قبيحاً فقط لأنّ الله تعالى يعلم السّر وخفايا أعمال عباده، وما توسوس به صدورهم، وإنّما لأنّ (الإنكار) نحو من العناد واللجاج والإستكبار، والله تعالى يمقت اللجاج والعناد والإستكبار والإعتداد.
ورأس مال الإنسان بين يدي الله أحد اثنين: (عمل صالح)، إذا كان يملك عملاً صالحاً، و(الإعتراف بالسيئات) إذا كان لا يملك عملاً صالحاً، إذا كان الإعتراف بالسيئات يقترن بذل الإنكسار بين يدي الله، ويتضمن العودة إلى الله تعالى. فأنّ الإنسان يرفع إلى الله (العمل الصالح) ويرفع إلى الله فقره وحاجته وضعفه وإنابته إليه تعالى، وكل منهما يصعد إلى الله، كما انّ (العُجُبْ) و(الرياء) يحبطان العمل الصالح ويفسدانه. فإذا اقترن بالعمل الصالح العُجُبْ والرياء افسداه واسقطاه واحبطاه. وإذا تجرد من (العُجُبْ) لم يجد ما يقدمه إلى الله تعالى غير فقره وحاجته واعترافه بسيئاته. ولا عجب أنّ الله تعالى يبدل سيئات العبد في حال الإعتراف والإنكسار إلى حسنات يقول تعالى: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) (الفرقان/ 70).
ما هذا الإنقلاب؟ وكيف يتم هذا الإنقلاب والتبديل؟
الجواب انّ هذا الإنقلاب يحدث بسبب شعور العبد بالندم والفقر والحاجة إلى الله وبالإنكسار بين يدي الله.
ففي دعاء أبي حمزة (إلهي ان كانَ قدْ دنا أجلي ولم يُقربني منكَ عمَلي، فقد جعلتُ الإعترافَ إليكَ بذنبي وسائل عللي). ومن عجب ان يتقرب العبد إلى الله بالعمل الصالح والإعتراف بالسيئات.
إذن بداية العودة إلى الله (الإعتراف بالذنب) وهذه البداية توطِّئ الإنسان لنزول رحمة الله ولولا هذه البداية لم يتمكن ذو النون (ع) أن يواصل هذه الرحلة إلى شوطها الأخير.
وقد جعل ذو النون (ع) اقراره هذا ذريعة إلى رحمة الله الواسعة.
ومن عجيب أن يكون الإقرار بالذنب ذريعة إلى رحمة الله كما أنّ فعل الصالحات ذريعة إلى رحمة الله. وللعلاقة بالله تعالى شؤون وأسرار لا يعيها إلا مثل ذي النون (ع).
إنّ الإقرار بالذنب، والإعتراف بالإثم بين يدي الله تعالى يكسر من شموخ الإنسان، ويضع من كِبريائه، وينقله من موقع الشّموخ والإستعلاء إلى موقع العبودية والفقر بين يدي الله، حيث تنزل رحمة الله على عباده.
وقد ورد ذكر الإعتراف والإقرار كثيراً في المأثور من أدعية أهل البيت – عليهم السلام –.
ففي الدعاء الذي يرويه أبو حمزة الثمالي عن علي بن الحسين زين العابدين (ع).
(وأنا المذنب الذي سترته، والخاطئ الذي أقلته، وأنا القليل الذي كثّرته، والمستضعف الذي نصرته، وأنا الطريد الذي آويتهُ، أنا يا رب الذي لم أستحيك في الخلاء، ولم أراقبك في الملاء، أنا صاحب الدواهي العظمى، أنا الذي على سيده اجترى، أنا الذي عصيتُ جبّار السماء، أنا الذي أعطيتُ على معاصي الجليل الرُشا، أنا الذي حين بُشّرتُ بها خرجتُ إليها أسعى، أنا الذي امهلتني فما ارعويتُ، وسترتُ عليّ فما استحييتُ، وعملتُ بالمعاصي فتعدَّيتُ، واسقطتني من عينكَ فما باليتُ، فبحلمك أمهلتني، وبستركَ سترتني، حتّى كأنك أغفَلتني، ومن عقوباتِ المعاصي جنبتني، حتى كأنك استحييتني).
وفي الدعاء الذي علمه أمير المؤمنين (ع) لكميل:
(اللّهمّ عظمَ بلائي، وأفرطَ بي سوءُ حالي، وقصرتْ بي أعمالي، وقعدتْ بي أغلالي، وحبسني عن نفعي بُعدْ أملي، وخدعتني الدُّنيا بغرورِها، ونَفسي بجنايتِها ومِطالي يا سيدي).
ومن المناجاة الأولى من الخمسة عشر.
(إلهي ألبستني الخطايا ثوب مذلّتي).
2- الإعتذار:
(الإعتذار) مقابل (التبرير) والإعتذار بين يدي الله تعالى جميل، والتبرير قبيح. ولابدّ لهذا الإجمال من إيضاح:
الفرق بين (التبرير) و(الإعتذار). انّ الإعتذار توجيه للعمل مع الإعتراف بالخطأ والتبرير توجيه للعمل من دون الإعتراف بالخطأ. والله تعالى يحب العذر ويكره التبرير لأنّ التبرير نحو من المكابرة في تصحيح الخطأ.
وليس المهم كيف يكون الإعتذار وإنما المهم أن يكون العبد بصدد الإعتذار، وليس بصدد اللجاج والعناد والمكابرة.
ويتم الإعتذار حتى بالإعتراف والإقرار، (إلهي مني لؤمي ومنك كرمك).
والله تعالى كريم لا يرد عذر العبد إذا علم منه العودة والندم، مهما كان عذره، حتى لو كان عذره إقراراً باللؤم وقلة الحياء والصّلف. وقد يعتذر العبد بكرم وجه الله، وهو إعتذار جميل يناسب جمال وجه الله، فيعتذر العبد إلى الله بأنّه لم يعصه حينما عصاه متمرداً على الله، مستخفاً بأمره، مستهيناً بسلطانه وحكمه، وإنما عصاه إذ عصاه واثقاً برحمته وفضله وستره.
تأملوا في هذه الفقرات الرقيقة والشفّافة من دعاء أبي حمزة:
(وما أنا يارب وما خطري؟ هَبني بفضلكَ وتصدَّق عليّ بعفوكِ أي ربِّ جللني بسترك... واعف عن توبيخي بكرم وجهك فلو إطلع اليوم على ذنبي غيرك ما فعلته ولو خفت تعجيل العقوبة لاجتنبته، لا لأنك أهونُ الناظرين، وأخفُ المطَّلعين عليّ، بل لأنك يا ربِّ خيرُ الساترينَ، وأحكمُ الحاكمينَ وأكرمُ الأكرمينَ، ستار العيوب، غفّار الذنوب، تستر الذنب بكرمكَ، وتؤخّر العقوبة بحلمكَ، فلكَ الحمدُ على حلمكَ بعدَ علمكَ، وعلى عفوكَ بعدَ قدرتكَ، ويحملني، ويجرؤني على معصيتكَ حلمكَ عنّي، ويدعوني إلى قِلّة الحياءِ سترُكَ عليِّ ويسرعني إلى التَوثُّبِ على محارمكَ معرفتي بسعة رحمتكِ وعظيمِ عفوكَ).
وهذه الفقرات من دعاء أبي حمزة تتضمن مفاصل هامّة وحسّاسة. فهي:
أوّلاً: تواضع وتصاغر بين يدي الله تعالى (وما أنا يا ربِّ وما خطري). استهانة بصاحب الذنب. والإستهانة بالذنب قبيح والإستهانة بمرتكب الذنب جميل.
ثانياً: استرحام وإستغفار.
(هَبني بفضلكَ وتصدَّق عليّ بعفوكِ أي ربِّ جللني بسترك... واعف عن توبيخي بكرم وجهك).
نسأله تعالى أن يعفو عنا فلا يعاقبنا بسيئات أعمالنا ولا يحاسبنا عليها، ولا يذكرنا بها حتى لا يخجلنا، والكريم لا يعاقب المذنب إذا تاب، ولا يكره بذنبه لئلا يخجله ويحرج موقفه بين يديه.
ثالثاً: اعتراف (فلو اطلع اليوم على ذنبي غيرك ما فعلته).
رابعاً: نفي لشبهة الشرك والاستهانة بعظمة الله وجلاله: (لا لأنك أهون الناظرين وأخف المطلعين عليّ).
خامساً: الإعتذار بأجمل العذر: (بل لأنك يا رب خير الساترين... ستار العيوب، غفار الذنوب). وهو عذر جميل، وقد ورد في الحديث في تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) (الإنفطار/ 6).
إنّ الله تعالى يلقن العبد العذر الجميل في هذه الآية بانّ كرمه تعالى هو الذي غرنا على معصيته.
وفي دعاء أبي حمزة:
(إلهي لم اعصكَ حينَ عصيتكَ، وأنا بربوبيتكَ جاحدً، ولا بأمرك مستخفٌ، ولا لعقوبتكَ متعرضٌ، ولا لوعيدكَ متهاونٌ، ولكن خطيئةٌ عرضتْ، وسولتْ لي نفسي، وغلبني هوايَ، وأعانني عليها شقوتي، وغرّني سترك المُرخى عليّ).
والأمر هنا دقيق ورقيق وحساس في مقام الإعتذار إلى الله. فهناك ما لا يصح الإعتراف به والإعتذار. وهناك ما يصح الإعتراف به والإعتذار.
أما ما لا يصح الإعتراف به والإعتذرا فهو الإستهانة بأمر الله وسلطانه والإستهانة بوعيد الله وعذابه ونهره.
(لا لأنّك أهونُ الناظرين وأخفُ المطّلعين).
(لم اعصكَ حين عصيتكَ وأنا بربوبيتكَ جاحدٌ ولا بأمركَ مستخِّفٌ، ولا لعقوبتكَ متعرضٌ).
فهذا ما لا يجوز الإعتراف به والإعتذار مطلقاً، لأنّه يمس التوحيد، وهو ما لا يرتضيه الله تعالى لعباده.
وأما ما يصح الاعتذار فهو أمران حلمه تعالى وجميل ستره على عباده (ويحملني ويجرؤني على معصيتك حلمك عليّ، ويدعوني إلى قلة الحياء سترك عليّ)، وهذا هو النحو الأوّل من الاعتذار الجميل. وكان العبد يقول: انني لؤمت لأنك حسن جميل.
والنحو الآخر من الاعتذار الجميل: "الاعتذار بدناءة النفس وغلبة الهوى وسقوط الهمة.
(ولكن خطيئة عرضت وسوّلت لي نفسي، وغلبني هواي).
وأمل بستر الله ورحمته.
(بلْ لأنكَ يا ربِّ خيرُ الساترين وأحكمُ الأحكمين وأكرم الأكرمينَ ستّار العيوب غفار الذنوب).
وفي دعاء عرفه للإمام زين العابدين (ع) نجد صورة أخرى من هذا الاعتذار الجميل في السّلب والإيجاب فمن ناحية السّلب ينفي الإمام في الدعاء أن يكون مخالفة العبد لأمر مولاه عناداً واستكباراً.
وفي الإيجاب يعتذر العبد إلى ربه بأمرين: بسلطان الهوى، وغلبة الشّهوة، وضعف النفس تجاه مغريات الحياة الدنيا، أوّلاً.
وبرجاء العبد لعفو مولاه، وثقته بكرمه سبحانه وتعالى.
فلننظر في هذه الرائعة من روائع الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع) من دعائه في عرفه، وهي تسع فقرات متواليات:
1- وأنا عبدُك الذي أنعمتَ عليه قبلَ خلقِك له، وبعدَ خلقِك إياهُ فجعلته ممّن هَدَيْتَه لدينِك، ووفقتَه لحقِك، وعصمتَه بحبلِكَ، وأدخلْتَهُ في حِزبِكَ، وأرشَدْتَه لموالاة أوليائِكَ، ومعاداةِ أعدائِكَ.
2- ثمّ أمرته فلم يأتمر وزجرته فلم يَنْزَجِرْ، ونهيتَه عن معصيتكَ فخالف أمرَكَ إلى نهيِكَ. (وهذا اعتراف، والاعتراف شرط الاعتذار).
3- لا مُعانَدَةً لك ولا استكباراً عليك. (وهذا هو الجانب السلبي، الذي تحدثنا عنه ينفي فيه الإمام أن تكون مخالفة العبد استكباراً وعناداً يخرجه عن دائرة العبودية والتوحيد).
4- بل دعاهُ هواهُ إلى ما زَيّنته وإلى ما حَذَرْتَهُ وأعانَه على ذلكَ عدوُّكَ وعَدُوُّهُ. (وهذا هو الاعتذار الأوّل).
5- راجياً لعفوك، واثقاً بتجاوُزِك. (وهذا هو الاعتذار الثاني).
6- وها أنا ذا بينَ يديكَ صاغراً، ذليلاً، خاضِعاً، خاشِعاً، خائفاً، معترِفاً بعظيم من الذنوب تَحمَلْتُه وجليلٍ من الخطايا اجتَرَمْتُهُ. (اعتراف آخر وتصاغر وتذلل بين يدي الله).
7- مستنجداً بصفحِك لائذاً برحمتك، موقِناً إنّه لا يجيرني منك مجيرٌ، ولا يمنعني منكَ مانعٌ. (استغاثة واستعاذة بالله وثقة بعفو الله وكرمه).
8- فعُدْ عليّ بما تعودُ به على من اقترفَ من تَغَمُدّك وجُدْ عليّ بما تجودُ به على ما القى بيدهِ إليكَ من عفوِك، وامنن عليّ بما لا يتعاظمُك أن تَمُنّ به على من أمَّلَكَ مِن غُفرانِكَ، ولا تردَني صِفراً مما ينقلبُ به المتعبدونَ لكَ من عبادِك. (وهذا ادعاء واسترحام واستغفار).
9- وإني وإن لَم أُقدّم ما قدموهُ من الصالحات فقد قَدَمْتُ توحيدَك ونفي الأضدادِ والأندادِ والأشباهِ عنك وأتيتك من الأبوابِ التي أمرتَ أن تُؤتى منها، وتقربتُ إليكَ بما لا يقرُبُ به أحدٌ مِنك إلا بالتقرُّب منه. (وهذا توسل إلى الله بتوحيده، وهو من أعظم ما يتوسل به العبد إلى الله).
3- الإستحياء:
يعود العبد المذنب من رحلة الهوى والعصيان إلى الله على خجل واستحياء، فهو لا يجد عذراً يُقدمه إلى الله تعالى غير الإعتراف بسوءآته وسيئاته، ولا يجد في حياته عملاً صالحاً يقدمه إلى الله، غير سواد القلب والوجه. وأنّ العبد ليعصي الله فيستحي أن يعود، ويشق عليه أن يرجع ويخاطب الله تعالى لما سبق منه من سوء الفعل والقول، ولكن إذا لم يجد بداً من العودة، ولم يجد باباً آخر يطرقه غير باب الله تعالى، ولم يجد ملجأ يلجأ إليه إلى الله عاد مطرقاً، حيياً خجولاً.
في المناجاة الأولى من الخمسة عشر.
(فوَا أسَفا من خَجَلي وإفتِضاحِي، ووالَهفاهُ من سوءِ عملي وإجتراحي).
4- قبول العتبى:
عندما يُغضب العبدُ مولاه ويخشى أن يتفجر سخط مولاه عليه فيحرقه يسعى إلى أن يخفف من حدة غضبه عليه بالعتاب، فإنّ العتاب يمتص الغضب والسّخط كثيراً فيعطي من نفسه لعتاب مولاه، ويثير مولاه للعتاب حتى يمتص العتاب غضبه وسخطه ويطلب منه أن يعاتبه فيعاتبه حتى يرضى عنه. (لك العتبى، لك العتبى حتى ترضى).
فإذا بدأ المولى بالعتاب أحَسَّ العبد بالانفراج فإنّ الغضب المكتوم يحرق العبد، أما إذا بدأ المولى يعبر عن غضبه بالعتبى أحَسَ بالأمن والانفراج.
5- حسن الظّن بالله:
وهو من متطلبات (العودة إلى الله)، ولا يمكن أن يعود الإنسان إلى الله من غير حسن الظّن بالله، وكل إنسان يأخذ من الله بقدر ما يحسن الظّن بالله.
وفي دعاء الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع) نجد صورة رائعة من صور حسن الظن بالله تعالى، ننقل منها أربع فقرات:
1- إلهي مَن الذي نَزَلَ بكَ ملتمساً قِراكَ فما قَريتَهُ، ومَن الذي أتاخَ بِبابِكَ مُرتَجياً نِداك فما أولَيتَه؟).
وهذه هي الفقرة الأولى من هذه اللوحة يقول فيها الإمام (ع): هل نزل بك، إلهي، أحد من خلقك يلتمس قراك وضيافتك فما قريته؟
والطلب على نحوين: طلب من يعرف لحاجته وجوهاً من العلاج إن لم يستجب المسؤول لطلبه، أو لا تكون حاجته ملّحة، وصاحب هذا الطلب يسأل ويطلب فإن لم يستجب المسؤول لطلبه مَرَّ، ولم يتوقف عند طلبه وسؤاله.
والنحو الآخر من الطلب، طلب المضطر الذي لا يجد بدّاً من الطلب ولا يعرف وجهاً لعلاج أمره غير أن يستجيب المسؤول لطلبه فينزل بحاجته عند باب المسؤول ويقيم ببابه، وإن لم يستجب المسؤول لحاجته لا يرحل عنه، وكيف يرحل عنه؟ وأين يرحل وهو لا يعرف علاجاً لمشكلته إلا أن يستجيب له؟
وهذه حالة المضطر، الذي ينزل بحاجته ولا يرحل.. وهي حالة مألوفة إلى الآن في حاجة الناس بعضهم إلى بعض حيث ينزل السائل بباب المسؤول، وينيخ ببابه، ولا يرحل إلا بحاجته.
والإمام علي بن الحسين (ع) ينزل بحاجته إلى الله نزول المضطر الذي لا يجد بدّاً من قضاء حاجته، ولا يعرف لقضائه وجهاً آخر غير أن يستجيب الله لدعائه فيقول:
(إلهي من الذي نزل بك ملتمساً قراك فما قريته؟ ومن الذي أناخ ببابك مرتجياً نداك فما أوليته؟).
2- ثمّ يقول (ع): (أيَحسُنُ أن أرجعَ من بابك بالخيبة مصروفاً، ولستُ أعرفُ سِواك مولىً بالإحسان مَوصوفاً؟).
وفي هذه الفقرة يقول الإمام (ع) أيحسن، إلهي، أن ينزل العبد حاجته ببابك ثمّ تصرفه عن بابك بالخيبة؟
فإذا الجأت الحاجة والفقر العبد إلى النزول بباب مولاه، فلا يحسن بكرم المولى ورحمته أن يصرف عبده من بابه خائباً.
3- وكيف أرجو غيرك والخيرُ كُلُهُ بيدك؟ وكيف أؤمّلُ سِواكَ والخلقُ والأمر لكَ؟ وإلى أين أرجعُ من بابِك؟ وإلى أين تصرِفُني عن بابِك؟ والأمرُ والخيرُ والسلطانُ والغنى والرحمةُ والفضل كُلُهُ مِنْكَ وبيدِك؟ ولستُ أعرفُ غير بابِك باباً أطرُقُه ولا غيرَ رحابك رحاباً أنزُله ولا غير فضلِك فَضْلاً أرجوهُ).
4- (أأقطع رجائي منك وقد أوْلَيتَني ما لم اسألهُ من فضلِكَ؟ أم تُفقرني إلى مِثلي وأنا أعتصمُ بحبلِك؟ أأقطعُ رجائي مِنكَ أم تَكِلُني إلى إنسانٍ مِثلي في فَقْرِهِ وحاجَتِهِ وقد أوصلتُ حبلي بحبلِك واعتصمتُ بك؟).
- نموذج آخر:
واشفع هذه اللوحة بلوحة أخرى من روائع الإمام زين العابدين علي بن الحسين (ع) من حسن الظن بالله من المناجاة الخامسة من الخمسة عشر.
(إلهي إن كان قد قلَّ زادي في المسير إليكَ، فلقد حسنَ ظني بالتوكلِ عليكَ. وإن كان جُرمي قد أخافني من عقوبتكَ فإنّ رجائي قد أشعرني بالأمن من نقمتك، وإن كان ذنبي قد عرَّضني لعقابكَ فقد آذنني حُسْنُ ثقتي بثوابِكَ).
وحسن الظّن بالله، والرجاء من الله يجبران الكسر الحاصل للعبد من ذنوبه وآثامه، ويسدان النقص الحاصل للعبد من قلة الزّاد.
وحسن الظّن بالله، والتوكل عليه يسدّان النقص الذي يجده العبد في زاده في المسير الطويل.
(انْ كانَ قد قلَّ زادي في المسير إليكَ فلقد حسُنَ ظَني بالتّوكُّل عليكَ).
ورجاء العبد في الله يجبر الكسر الحاصل للعبد من ذنوبه وأثامه (وإن كان جرمي قد أخافني من عقوبتك فانّ رجائي قد أشعرني بالأمن من نقمتك).
وليس فقط يجبر (الرجاء) الكسر الحاصل من الذنوب، وإنما يبدل شعور العبد بالخوف من غضب الله إلى الإحساس بالأمن من نعمته.
- صورة ثالثة:
وفي دعاء الإمام زين العابدين علي بن الحسين (ع) في أسحار رمضان الذي علمه لأبي حمزة الثمالي:
(يا ربِّ هذا مقامُ من لاذَ بكَ، وأستجارَ بكرمكَ، وألِفَ إحسانك ونعمكَ، وأنتْ الجوادُ الذي لا يضيق عفوكَ ولا ينقصُ فضلكَ، ولا تقل رحمتكَ، وقد توثقنا منكَ بالصَّفح القديم، والفضل العظيم، والرحمة الواسعة، أفتراكَ يا ربِّ تُخلِفُ ظنوننا، أو تخيَّب آمالنا؟ كلا يا كريم! فليس هذا ظُّننا بك ولا هذا فيك طمعنا، يا ربِّ انّ لنا فيك أملاً طويلاً كثيراً. انّ لنا فيك رَجاءً عظيماً، عصيناك ونحنُ نرجو أن تستُر علينا، ودعوناك ونحن نرجو أن تستجيبَ لنا فحقّق رجاءَنا مولانا).
وهذه بعض مقامات العبودية:
مقام الأمن، ومقام الإنس، ومقام الركون والثقة ولابدّ للعبد أن يشعر في قيامه بين يدي الله تعالى بهذه المقامات، ولنعيد ذكر هذه المقامات في كلام سيد الساجدين وزين العابدين (ع): (هذا مقام من لاذَ بك، واستجار بكرمك).
وهو (مقام الأمن) فإذا لاذَ العبد بربه واستجار بكرمه من غضبه أحسَّ بالأمن. ثمّ يقول (ع): (وألِفَ إحسانك ونعمك).
وهذا (مقام الأنس) فلا يأنس الإنسان بأحد كما يأنس بالذي ألف إحسانه وكرمه، كما يأنس الإنسان بأمه وأبيه. ثمّ يقول (ع): (عصيناك ونحن نرجو أن تستر علينا).
وهذا (مقام الركون والثقة) فإنّ أقبح حالات العبد وأبعدها عن الله حالة المعصية والمخالفة. فإذا كانت الثقة بالله والركون بفضله لا يفارقه حتى في حالة المعصية والمخالفة فهو من المقيمين مقام الركون والثقة. وقبيح على العبد أن يعصي ربه وهو يراه حاضراً شاهداً. وجميل من العبد أن لا تفارقه الثقة بالله وبستره وفضله حتى في حالة المعصية.
ولا ينفي ذلك القبيح جمال هذا الجميل، ولعل هذا الجميل يكون سبباً في اقلاعه عن ذلك القبيح.
انّ اليأس وقطع الرجاء عن الله في حالة الذنب والمعصية أعظم من الذنب نفسه. ومهما كانت جريمة الإنسان بين يدي الله تعالى فلا يجوز ولا يصح أن يقطع رجاءه عن الله حتى في أقبح حالاته مع الله، وهي حالة المعصية والقبح.
يتبع...
تعليقات
مجهول
مشكورين ..ولكن اين بقية الموضوع؟