• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

شبابنا والتحولات الحالية والمستقبلية

د. محمود أمين العالم

شبابنا والتحولات الحالية والمستقبلية

◄الشباب هم القوّة الطالعة والمؤهّلة ـ موضوعياً ـ لإنجاز التحوّلات المنشودة ومواصلتها، والتي تتطلع إليها بلادنا حالياً ومستقبلاً في اتجاه الديمقراطية الحقيقية، والوحدة القومية، والتجدّد المتصل، والمشاركة الإيجابية في تنمية الحضارة الإنسانية، علماً وثقافةً وإنتاجاً، وسلاماً وحرّية، ورؤى روحية وعقلائية إيجابية ملهمة. ولهذا ما أكثر المحاولات المعاكسة والمضادة لهذا التوجّه الشبابي البنّاء، التي تسعى إلى تجنيد الطاقات الشبابية لخدمة المصالح الذاتية الضيّقة، أو الطبقية المتعالية، أو الشوفينية المعرقلة لإرادات التفتّح وقيم التجدّد والتحرّر والتقدّم الإنساني، ذلك أنّ الشباب هم دائماً ساحة معركة سياسية وثقافية واجتماعية حاسمة من معارك التجميد أو التجديد، التوعية أو التعمية، التي تخوضها مختلف القوى السياسية والاجتماعية، مستعينة بمختلف الوسائل التعليمية والإعلامية والتثقيفية عامّة، تحقيقاً لمصالحها وأهدافها الخاصّة.

وهذا في الحقيقة بعض ما يعنيه الصراع الأيديولوجي أو الثقافي، الذي يخفي في طيّاته مختلف الأهداف والمصالح داخل كلّ مجتمع وعلى المستوى العالمي العام. إنّه صراع المصالح وإن تجسّد في قيم ومفاهيم ثقافية مختلفة ومتناقضة، وليس صراع حضارات كما يتم الترويج له أحياناً إخفاءً لحقيقته.

وتأسيساً على هذا، يصبح الموضوع المقترح للحديث والحوار في لقائنا هذا هو: أين موقع أو موقف شبابنا العربي عامّة ـ هذه القوى الطالعة الواعدة ـ من مختلف القضايا الحالية؟

لعلّنا نتفق جميعاً على أنّ بلادنا العربية تعاني، بمستويات مختلفة، من أمور ثلاثة بمقاييس عصرنا الراهن: فهي تعاني أوّلاً من تخلّفها العام في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية. وتعاني ثانياً من تمزّقها القومي الذي يبلغ أحياناً حدّ التناقض والتصارع بين بعض الدول العربية نفسها، وداخل بنية الدولة الواحدة كذلك، وتعاني ثالثاً من تبعيتها العضوية المباشرة أو غير المباشرة للنظام الرأسمالي العالمي، المتمثّل اليوم أساساً في هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية. فأيُّ تحوّلات حالية أو مستقبلية في بلادنا العربية، في إطار هذه الأوضاع المحلية والعالمية السائدة، يتم الوعي بها والتصدّي لها، شبابياً، أو شعبياً بوجه عام؟

لا شك أنّ هناك مواجهات واعية وبطولية خارقة يشارك فيها الشباب أساساً، وخاصّة في بعض البلاد العربية الواقعة مباشرة تحت القبضة العسكرية العدوانية المباشرة، الإسرائيلية والأمريكية، كما هو الشأن في فلسطين والعراق. على أنّ هناك قيوداً في مختلف البلاد العربية على التحركات السياسية عامّة والشبابية خاصّة، إذا كانت في تعارض مع السياسات الرسمية. هذا فضلاً عن النسبة الكبيرة للبطالة الشبابية، مما يرجّح صحّة الإحصائية التي تؤكد أنّ أكثر من 50% من الشباب العربي المتقدّم كفاءة وسنّاً يتطلّع للهجرة والعمل في البلاد الغربية. وما أخطر دور الإعلام الرسمي والصحفي والسمعي والمرئي، فضلاً عن مناهج التعليم ومؤسساته، وتشتّتها بين التعليم الديني والمدني والأجنبي بتعريفاته المختلفة، مما يجزئ بل يهمّش الوعي ويغلب روح السطحية والنفعية وفقدان الاتجاه العقلاني، بل القومي عامّة. ولهذا، عندما يعود حديثنا إلى التحوّلات المحلية أو المستقبلية في بلادنا العربية في إطار هذه الأوضاع والملابسات المحلية والعالمية، أتساءل: ما طبيعة هذه التحوّلات؟ ولا أتردّد في القول بأنّ ما نشهده بالفعل اليوم عملياً من تحوّلات جدلية ومستقبلية داخل بلادنا العربية، ليست في الحقيقة تحوّلات تصبو إليها وتسعى لتحقيقها شعوبنا العربية، بمختلف قواها السياسية وفئاتها الاجتماعية وطلائعها الثقافية الواعية، بل هي تحوّلات مخطّطة ومفروضة من جانب الاستقطاب الرأسمالي الأمريكي المهيمن، بتوافق وتواطؤ وتنسيق مع مختلف المؤسسات والهيئات العربية السائدة بمستوى أو بآخر، فضلاً عن التبرير والترحيب من جانب طائفة من المثقفين والكتّاب والإعلاميين في مجالات الإعلام المكتوب والمسموع والمرئي، التي تسيطر عليها هذه المؤسسات السياسية السائدة.

إنّ الهيمنة الأمريكية، كاستقطاب سياسي واقتصادي وعسكري وثقافي وتقني للعولمة الرأسمالية عامّة، تضرب عرض الحائط بكلّ القيم العقلانية والحقوق القومية والديمقراطية والمشروعية الدولية، رغم تشدّقها بها، وذلك من أجل تعميق هيمنتها العالمية وتوسيعها، وتجد في بلادنا العربية من يتبنّاها مصلحة أو غفلة، ويسهم في تحقيقها.

ولعلّ المنطقة العربية، هذا الموقع الغني بكنوز تاريخه الحضاري وكنوز أرضه، وتوسطه بين قارات العالم ومواقعها الحضارية الرئيسية، ليس مجرّد موضع جغرافي، على حدّ تعبير مفكّرنا جمال حمدان، وإنّما هو موقع إستراتيجي يَصلح منطلقاً إلى ما هو أبعد وأعمق، سواء في منطقة الشرق الأوسط نفسها أو فيما يتجاوزها من مناطق ومواقع متحضّرة أخرى توشك أن تهدّد هذه الهيمنة الأمريكية الصاعدة. ويتمثّل ذلك في بعض دول آسيا، كالصين وكوريا الشمالية والحركات البازغة، المنتصرة الجديدة، في إسبانيا والهند وبعض دول أمريكا اللاتينية، وما استجد من تحوّلات وانتصارات ديمقراطية واجتماعية وسياسية أخرى، تكاد تبشّر بها الأوضاع العالمية الراهنة.

ولهذا سعت وتسعى الولايات الأمريكية المتحدة إلى الهيمنة على هذا الموقع الإستراتيجي الفريد؛ لاتخاذه منطلقاً لتوسيع هيمنتها في اتجاه الشرق البعيد وتعميقها.

ولعلّ اقتراح نابليون بونابرت في غزوته القديمة لبلاد الشام، استكمالاً لغزوته المصرية، بإقامة دول يهودية في هذه المنطقة، تكون قاعدة ومنطلقاً للامتداد إلى غزو الشرق، أن تكون نقطة البداية لوعي النظام الرأسمالي المتطلّع للتوسع آنذاك، وإلى الأهمية الإستراتيجية لهذه المنطقة. وما قيام إسرائيل بعد ذلك، أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، إلّا بداية التجسيد لهذه الإستراتيجية، وتحويلها تدريجياً ـ وبخاصّة اليوم ـ في إطار الهيمنة الأمريكية الراهنة، إلى قاعدة إرتكاز وانطلاق وسيطرة على منطقة الشرق الأوسط عامّة، بل وما وراءها كذلك.

وخلاصة الأمر أنّ التحوّلات الحالية، التي تفرض اليوم على بلادنا العربية، هي تحولات تتحقق أساساً لمصلحة الهيمنة الأمريكية ومخططاتها التوسعية الاستغلالية، وقد أتجاسر تاريخياً بالقول بأنّ نقطة البداية لهذه التحوّلات قد بدأت إلى حد كبير بالانقلاب الساداتي على توجهات المرحلة الناصرية ومشروعاتها، بصرف النظر عن الاختلاف في بعض أساليب إنجازها، وتكاد تتلخص نقطة البداية الفارقة نظرياً آنذاك في مقولة السادات المشهورة عندما تولى السلطة: (إنّ 99% من أوراق اللعبة في يد أمريكا). وقد تكون هذه المقولة صحيحة نسبياً من حيث القياس الكمي، أي القدرة العسكرية والاقتصادية، إلّا أنّها من حيث الدلالة الموضوعية كانت تخفي حقيقة هذه اللعبة وطبيعة ممارساتها وأهدافها؛ ولهذا تصبح دعوة إلى الاستتباع والخضوع. وهذا هو ما أخذ يتحقق بمستويات مختلفة منذ ذلك الحين، فيتم الاعتراف بإسرائيل، وتتفجر التناقضات العربية، وتتوالى عمليات تفكيك التوجه السياسي والاقتصادي والقومي السابق، مع ازدياد الاندماج الهيكلي مع النظام الرأسمالي العالمي والأميركي، خاصّة في هذه المرحلة من الاستقطاب العالمي. وتتحول مقولة (أوراق اللعبة الأمريكية) إلى مقولة أخرى في المرحلة السياسية التالية هي مقولة (إنّ الإستراتيجية الأمريكية هي إستراتيجيتنا). وتتدفق المعونات والأسلحة والعلاقات التجارية الأمريكية إلى مختلف البلاد العربية، وخاصّة لتأكيد الوحدة الإستراتيجية والمصالح، وتبنّي القواعد العسكرية الأمريكية، وتفتح الأجواء لطائراتها، والمياه لسفنها، ويستشري الكيان الإسرائيلي عسكرياً وتوسعاً وتدميراً للبيوت والحقول الفلسطينية، وقتلاً لأطفالها ونسائها، واغتيالاً خسيساً لقادتها المناضلين. ولم يكن حادث 11 سبتمبر في تقديري ـ على الأقل ـ خارج الرؤية الأمريكية أو بعيداً عن خيوطها الحريرية المخابراتية، التي تفسح الطريق وتهيء الأجواء. ومع 11 سبتمبر تبدأ أمريكا مشروعها الكبير. وتكون خطواتها العملية الأولى أفغانستان، لتعيد الوهج للحروب الصليبية الدينية، ولتُضفي مسحة مقدسة على مشروعها التوسعي. وهكذا يصبح عدوانها على أفغانستان بداية حربها التحريرية المتحضرة ضد (الإرهاب الإسلامي).

ثم تكون خطوتها التالية بشارة أخرى لتخليص الإنسانية من خطورة أسلحة الدمار الشامل، التي يمتلكها حليفها العراقي السابق. وهكذا يتم احتلال العراق والسيطرة على بتروله الغزير النادر. كما تتاح الفرصة لإجراء تجارب جديدة على ما تملكه هي نفسها من أسلحة دمار شامل جديدة، تشاركها في امتلاكه حلفتها الحميمة إسرائيل، فضلاً عن مشاركتها في محاولة السيطرة على المفاتيح الاجتماعية الأساسية للمجتمع العراقي. على أنّ إسرائيل لا تتوقف في الوقت نفسه عن مواصلة خطتها التاريخية الخاصّة بتخريب القواعد الأساسية للمجتمع الفلسطيني، مما ييسر لها بعد ذلك تفكيك وحدته القومية واستيعابه بشكل كامل في الإطار الصهيوني.

وفي موازاة مع هذا وفي تواقت معه، لم تتوقف الولايات المتحدة عن الإعداد لرسم خريطة سياسية ثقافية جديدة شاملة للشرق الأوسط الكبير والشمال العربي لأفريقيا. وكي لا تتهم الخريطة الجديدة بأنّها مفروضة منها، أو من خارج الإرادات والمصالح العربية الرسمية نفسها، كان لابدّ أن تكون نقطة البداية لصياغة هذه الخريطة بداية عربية، فينعقد في مكتبة الإسكندرية بين 12 ـ 14 مارس من عام 2003م مؤتمر عربي يشترك فيه مثقفون عرب من مختلف البلاد العربية؛ ليصوغوا مشروعاً إصلاحياً عربياً للشرق الأوسط الجديد، منبثقاً من الضمائر والعقول والمصالح العربية الصميمة. ويُعلن المشروع في نهاية المؤتمر زاخراً في بدايته وثناياه بالعديد من القيم المعنوية الرفيعة، التي لا خلاف حولها، مثل قيم الحرّية والديمقراطية والعقلانية والعدالة والإبداع وحقوق المرأة والأقليات العرقية، وأهمية النشاط والعمل المدني، وحرّية الصحافة.. إلى غير ذلك.

ثم يحدد التقرير، بشكل قاطع في مجمله ومقترحاته العملية، هوية النظام العربي المنشود، الذي يتحقق به الإصلاح الاقتصادي العربي ـ كما يقول ـ والذي يتمثل أساساً، على حدّ قوله، في تحرير الاقتصاد العربي من تدخل الحكومات العربية، وخصخصة مختلف المشروعات الإنتاجية، والسعي إلى الاندماج الهيكلي في النظام الرأسمالي العالمي. وتحقيقاً لهذا؛ ينبغي لسياسات التعليم في العالم العربي عامّة أن تتجه إلى السوق أساساً، وذلك لتحقيق المواءمة ـ كما يقول التقرير ـ بين مُخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل. هذا فضلاً عن أن تصبح المشروعات الصغيرة ومساندتها من العناصر والسياسات الأساسية في بنية هذا المشروع الإصلاحي، أو بتعبير آخر، التحرير الاقتصادي. وهنا يحدد التقرير أنّ دور الدولة الإنتاجي والخدماتي في عملية الإصلاح لا يخرج عن أن يكون مجرد (محفزة للنشاط الاقتصادي وتشجيع برامج الخصخصة).

وفي تقديري أنّ القضية المطروحة في هذا التقرير ليست مجرد دعوة إلى الانتقال من النظام الشمولي الناصري، الذي يقوم على تسلط الدولة ـ على حدّ تعبير الأستاذ الفاضل سيِّد ياسين في مقال له في جريدة الأهرام، تعليقاً على نتائج مؤتمر الإصلاح هذا، وإنّما هو دعوة واضحة ملحة إلى الاندماج في النظام الرأسمالي العالمي في هذه المرحلة، التي يتحوّل فيها هذا النظام نفسه إلى استقطاب رأسمالي أمريكي مهيمن.

ولهذا فالدعوة الاقتصادية الليبرالية، في ظل هذا النظام الجديد ـ كما ذكرت في مقال لي تعقيباً على مقال الأستاذ السيِّد ياسين ـ لن تكون دعوة (دعهُ يفعل دعه يمر)، كما كان شأن الدعوة الرأسمالية الكلاسيكية في بدايتها، وإنما لتصبح اليوم دعوة للاقتصاد الرأسمالي الأمريكي المعولم أن يفعل ما يشاء، وأن يمرّ كما يشاء، وليس أمامنا إلّا الاستقبال المرغم، والاكتفاء بالمشروعات الصغيرة التي يقترحها مشروع الإصلاح هذا، مواصلة وتعميقاً لتبعيتنا لدولة الإنتاج الصناعي الكبير، ولهذا لا مجال للتعليم كذلك في بلادنا، إلّا أن يكون تعليماً من أجل السوق، سوق الاستهلاك والإنتاج الصغير التابع.

ولست بما أقول ـ وكما ذكرت في مجال سابق ـ أتجاهل أو أدعو إلى إدارة الظهر للواقع الرأسمالي المعولم الراهن، السائد في ملامحه الأمريكية التي تسعى للهيمنة الكاملة، وإنما القضية هي كيف أتعامل معه تعاملاً موضوعياً مستقلاً، ولا أقول منعزلاً، بحرص واجب على التنمية الذاتية لاحتياجاتنا المادّية والروحية والمعنوية وخصوصيتنا القومية، في تحالف حر مع قوى سياسية واقتصادية واجتماعية أخرى في العالم، قد أخذت تشق طريقها للحدّ بل للتمرد على هذه الهيمنة الاقتصادية والسياسية الأمريكية.

وكاد مؤتمر الإسكندرية للإصلاح أن يكون بالفعل ـ رغم لهجته التي توحي بالخصوصية القومية ـ تمهيداً وتوطئة لمشروع الدول الثماني الكبرى لإصلاح الشرق الأوسط الكبير وشمال أفريقيا، الذي انعقد في سي أيلاند بولاية جورجيا الأمريكية في 9 يوينه عام 2004م. وبالتالي تعبيراً عن مصالح وسياسات ومعتقدات مشتركة بين هذه الدول، التي تقف على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية ومنظمات المجتمع المدني العربية، والمثقفين العرب الذين اشتركوا في مؤتمر الإسكندرية، والذين وافقوا على مقرراته، فضلاً عن جميع بلدان الشرق الأوسط الكبير التي تمتد من المغرب وموريتانيا شرقاً إلى تركيا وباكستان وأفغانستان غرباً، دون إغفال إسرائيل واسطة العقد في الإستراتيجية الأمريكية.

ويقدّم بيان الدول الثماني خططاً ومشروعات ومقترحات وتعديلات في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، ويرصد ميزانيات ضخمة للتشجيع العملي على تنفيذها، ويضع جدولاً لاجتماعات دورية لوزراء دول المنطقة العربية وشمال أفريقية مع وزراء الدول الثماني، هذا فضلاً عن اجتماعات مع ممثلي رجال الأعمال وممثلي منظمات المجتمع المدني حول قضايا محددة، على رأسها الإصلاح الديمقراطي السياسي الذي لا صلة له بالحقوق الاجتماعية أو الاقتصادية، اللّهم إلّا الإلحاح في الدعوة إلى الالتزام بالليبرالية الاقتصادية وآليات السوق، والانفتاح على الشركات متعددة الجنسية، بمقتضى توصيات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ثم الدعوة إلى التصدي للإرهاب، دون أدنى إشارة إلى العوامل والدوافع إلى هذا الذي يكتفون بتوصيفه (بالإرهاب) ولا يشير المؤتمر أدنى إشارة إلى القضايا الملحة التي يتطلّع العالم العربي إلى تحقيقها من سوق مشتركة وتكامل اقتصادي، تمهيداً لوحدة سياسية، فهذا الهدف التاريخي العربي هو ما يسعون إلى مقاومته، فضلاً عن ذلك لا كلمة واحدة بالطبع عن الوجود العسكري الأمريكي المكثف في المنطقة، والأسلحة النووية التي تنفرد بامتلاكها وإنتاجها إسرائيل، ولا إشارة إلى حقوق الشعب الفلسطيني المهددة في أرضه المنهوبة، ووحدته الممزقة، وجرائم الإبادة المتصلة، قتلاً للنساء والأطفال، وهدماً للبيوت وتجريفاً للأراضي الزراعية، واغتيالاً لأبطال الجهاد الفلسطيني: أبو علي مصطفى، والشيخ أحمد ياسين، وعبدالعزيز الرنتيسي، واستمرار اعتقال الآلاف من أبناء الوطن الفلسطيني، وعلى رأسهم مروان البرغوثي، الذين يعانون السجن والتعذيب، ولا إشارة من هذا المجتمع الثماني إلى العدوان المتصل على الشعب العراقي، هذا العدوان الفاقد لكلّ شرعية دولية. هذا فضلاً عن التربص المتصل بسوريا، وإيران، تمهيداً لتوسيع مشروع الهيمنة الأمريكية على المنطقة العربية وشمال أفريقيا، استعداداً لخطوة عدوانية أبعد نحو الهيمنة النفطية على هذه البقعة الممتدة، وخاصة أنّه بحلول عام 2020م ستنضب المصادر النفطية في أمريكا نفسها.

خلاصة الأمر أنّ مشروع الشرق الأوسط الكبير وشمال أفريقيا هو جوهر التحوّلات المستقبلية في بلادنا العربية، وهو تعبير عن الإستراتيجية الأمريكية لوقف إمكانية إقامة أي شكل من أشكال التوحد أو التنمية المشتركة بين البلاد العربية، وتحقيق وحدتها، فضلاً عن تسييد إسرائيل، تجسيداً فاعلاً للهيمنة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط أساساً، واتخاذ هذه المنطقة قاعدة وثوب سياسية واقتصادية وعسكرية لاستكمال الهيمنة الأمريكية على العالم.

ولهذا، فما أتعس أن نقرأ لأسماء كبيرة في بعض جرائد ومجلات عربية ذات قدر كبير من الوقار التاريخي والسمعة الطيبة، وهم يهللون لهذا المخطط الأمريكي، باعتباره طريقنا الوحيد لتحقيق الديمقراطية والتقدم في بلادنا. فإذا كنّا لا نستطيع أن نحققها بأيدينا فماذا يمنع أن نحققها بأيدي غيرنا. هكذا يقولون.

ولكن ما هو أتعس من هؤلاء الكتاب هو مسلك بعض السلطات العربية التي تشارك في تحقيق هذا المخطط سياسياً وأيديولوجياً، بوسائلها الإعلامية والتعليمية، بل تقوم كذلك بتقديم مختلف التسهيلات التشريعية والبرية والمائية والجوية لدعم السيطرة الأمريكية على المنطقة العربية، والمشاركة تشريعياً وعملياً وثقافياً في تبريرها وترسيخها، وتحقيق أهدافها الآنية والمستقبلية، هذا في الوقت الذي نتبيّن فيه بتقدير عميق المواقف الحازمة، التي تتخذها القيادات السياسية في بعض بلدان العالم على رأس شعوبها، في آسيا وأمريكا اللاتينية، خاصّة في مواجهة هذه المخططات الاستتباعية الأمريكية، دفاعاً عن مصالحها الحيوية وخصوصيتها القومية. فضلاً عن هذا، فما أكثر وأعمق ما يحتدم به العالم اليوم من قوى شعبية وثقافية، علمية وأدبية وفنية وسياسية ودينية واجتماعية واقتصادية، متطلّعة إلى بديل عالمي ديمقراطي للعلاقات الدولية في مواجهة هذه العولمة والهيمنة الأمريكية المعادية للحضارة الإنسانية نفسها.

ولعلّ هذا ما ينقلنا إلى النقطة الأخيرة في حديثنا، وهو التساؤل الذي نخلصُ إليه، إذا صح ما يمكن أن نسمّيه تشخيصاً مؤقتاً لواقع ما يجري في بلادنا العربية حالياً، من تحوّلات نرى أنّها تتعارض مع المصلحة القومية لأُمّتنا، وواقعنا العربي بعامّة، ورفعه إلى مستوى ما يفرضه علينا العصر، من وعي بحقيقته، وارتفاع إلى مستوى القدرة الفاعلة للتغيير والتجديد، بما يتفق ومصالح أُمّتنا العربية، فضلاً عن المساهمة في تحقيق مستقبل أفضل وأسعد، وأكثر حرّية وعدلاً وسلاماً وتفتحاً وإبداعاً لنا وللحاضرة الإنسانية الراهنة.

وهو أمر لا يتم إلّا بتنمية الوعي الذاتي بالحقائق الموضوعية، والوعي الشعبي الجماعي وبخاصّة بين الشباب، وبالقدرة على الفعل التغيري للواقع العربي الراهن.

وفي تقديري أنّه لا سبيل إلى تحقيق ذلك إلّا وفق شروط أساسية سبق تفصيلها في بعض دراسات سابقة، واكتفي هنا بتلخيصها:

الشرط الأوّل: في ضوء الخبرات السابقة، هو الحرص على التركيز على العمل البناء من أسفل أساساً، أي البناء في نسيج العلاقات الشعبية المجتمعية الوطنية والبينية القومية على السواء.

ومن هذا الشرط الجوهري الأوّل تتبع شروط أخرى:

* أوّلها: السعي إلى تنمية الرؤية العقلانية والعملية والتاريخية النقدية المتجددة في تناول مختلف القضايا العملية والفكرية، وتعميمها، لا على المستوى النخبوي فحسب، بل على المستوى الشعبي المجتمعي القومي العام والشبابي بخاصّة، سواء في مناهج التعليم أو الإعلام أو التثقيف، دون أن يعني هذا تنميطاً لفكر أو حجراً على تنوع الاجتهادات وحرّيتها، أو على هجر الرؤى والعقائد الدينية.

* والشرط الثاني: أنّه ليس بالفكر العقلاني النقدي وحده ـ على أهميته ـ يتم تغيير الواقع السائد، وإنّما بالممارسة الواعية الفاعلة. القادرة على امتلاك قوانين هذا الواقع وتغييرها. وهذا يفرض بالضرورة وضع خطة تنمية شاملة، متكاملة للجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، تعتمد على القوى الذاتية أساساً، سواء على مستوى كلّ قطر على حدة، أو على المستوى القومي العام، مع توفير الإمكانية المفتوحة لتنوع أنماط هذه التنمية، بتنوع الأوضاع العربية والاختيارات الشعبية في الإطار القومي الموحّد.

* والشرط الثالث: هو ضرورة تغيير المفهوم السائد للوحدة العربية والعمل العربي العام، بحيث يقوم على احترام التنوّع ومراعاته، وحرّية الاختيار في معالجة الخصوصيات الوطنية والتشكيلات السياسية، والأنماط التنموية المختلفة، داخل المشترك القومي العام.

* أمّا الشرط الرابع، فيتعلق بالعامل الإنساني، الذي بدونه لا سبيل إلى تغيير أو تنمية أو نهضة، وأقصد به كتلة الجماهير العربية المنتجة والمبدعة، والحاملة للتراث المتنوّع الإبداعي للأُمّة العربية، فلا سبيل إلى تغيير جذري بغير إطلاق حرّية التعبير والتفكير والاعتقاد والنقد والإبداع، والدفاع عن حقوق الإنسان الفردية والمجتمعية، فضلاً عن حرّية تشكيل الهيئات والتنظيمات المدنية والشبابية، والأحزاب المعبرة عن مصالحها، والمشاركة في صياغة المصير السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

* الشرط الخامس: هو أنّ أي عمل وطني قومي في عصرنا، غير معزول بالضرورة عن الأوضاع العالمية، وما يجري فيها من سياسات وتحالفات وصراعات وخبرات، وبخاصّة في إطار هذه العولمة المهيمنة، التي أصحبت واقعاً موضوعياً لا سبيل إلى تجاهله.

ولهذا، لابدّ من الانفتاح على القوى والتنظيمات الشعبية والسياسية والثقافية في مختلف أنحاء العالم، الناهضة أساساً لهذه العولمة الاستقطابية التوسّعية العدوانية، التي تفرضها على العالم الولايات المتحدة الأمريكية وقاعدتها الصهيونية في المنطقة العربية.

وإذا كانت هذه هي بعض الشروط الأساسية، التي تتيح الانتقال ببلادنا العربية إلى مرحلة تحررية إنتاجية تقدمية جديدة، فما السبيل إلى تحويلها إلى وعي واختيار وإرادة فعل، ثم إلى فعل مؤسس كبنية حضارية جديدة غير معزولة أو مهمشة في حضارة عصرنا الراهن.

أقول بصراحة موضوعية مسؤولة: إنّه لا سبيل إلى إمكانية تجاوز الأزمة العربية الراهنة، وتحقيق بعض هذه الشروط، بالاستناد أساساً إلى الدولة العربية في أشكالها وتجلياتها القائمة المختلفة. على أنّه ليس معنى هذا، أن نتخلّى عن الدولة القائمة وأجهزتها الإنتاجية والخدماتية، أو أن نحكم عليها باعتبارها مجرد جهاز أمني! فهذا بالدقة ما تسعى إلى تحقيقه سياسة الهيمنة الأمريكية بإلغاء دورها الإنتاجي والخدماتي وتعظيم دورها الأمني القمعي. وإنّما ينبغي أن نسعى إلى تنمية سلطة المجتمع المدني بإزاء سلطة الدولة، مع تطوير دور الدولة ديمقراطياً وتعميق دورها الإنتاجي والخدماتي..

ولكن.. وإذا لم يكن من الممكن الاستناد إلى الدولة العربية لتجاوز هذه الأزمة، فهل نستطيع تحقيق ذلك، اكتفاءً بتنشيط الجماعات والتشكيلات المدنية القاعدية على اختلافها، أي تحقيق البناء الجديد أساساً من أسفل، في نسيج العلاقات الاجتماعية؟ هذا بغير شك الطريق الصحيح والصحّي.

إلّا أّن هذه الجماعات المدنية نفسها ما تزال بدورها تعاني في أغلب البلاد العربية من ضيق مساحة حركتها وأنشطتها الديمقرطية، بسبب الطابع الاستبدادي العام للدولة العربية. ذلك أنّ هذه الجماعات المدنية تكاد تكون محصورة ومحاصرة في مقراتها، ولا يتاح لها النشاط الاجتماعي والسياسي الجماهيري خارجها.

تأسيساً على هذا، هل ننتهي إلى القول بأنّ قضية الحرّية، وبالتالي الديمقراطية، هي الحلقة الرئيسية والمدخل الأساسي للعمل على تحقيق التغيير المنشود؟

هذا صحيح! ولكن ما هي السلطة القادرة على الإمساك بهذه الحلقة الرئيسية، وإشاعة الوعي الموضوعي المناضل بها في هذه الملابسات الراهنة السائدة في عالمنا العربي؟

في تقديري، لا سبيل في المرحلة القائمة والأوضاع السلطوية والسياسية السائدة، أن أحدد تنظيماً أو تحالفاً معيناً قادراً على ذلك، ولكن يمكن القول إنّها سلطة الوعي التي يستطيع المثقفون الواعون من مختلف قوى الإنتاج والمعرفة ومنظمات المجتمع المدني أن يصوغوها في بنية القاعدة المجتمعية الشعبية.

وعندما أذكر المثقفين فلست أقصد المثقف المهني أو المتخصص فحسب، وإنّما أقصد المثقفين بالمعنى الشامل للثقافة، أي المدركين للشرط الاجتماعي والمهمومين بالشأن العام.

ولست بهذا أصادر على دور الأحزاب السياسية والتنظيمات المختلفة، وبخاصّة الأحزاب القومية والديمقراطية والاشتراكية والشيوعية، في القيام بدور التوعية والفعل التغييري.

ولهذا اقترحت منذ سنوات، وما زلت اقترح، بل أسعى لتشكيل جبهة للمثقفين العرب، للعمل على اقتراح صياغة لعقد اجتماعي جديد، يكون مرجعيتنا القومية والشعبية في هذه المرحلة الملتبسة، حول مختلف قضايانا الوطنية والقومية والسياسية والاقتصادية والثقافية، على أن يطرح للحوار القومي العام، تمهيداً لإقراره شعبياً وقومياً...

كما اقترحت، وما زلت أقترح، أن تقوم هذه الجبهة أو أي شكل آخر يقترحه المثقفون، بوضع مشروع تنموي إنتاجي عقلاني ديمقراطي شامل لأُمّتنا العربية، يراعي ما بين مجتمعاتها من تباين في الظروف وتفاوت في المستويات. على أن تشارك مختلف القوى المنتجة والمبدعة في مجتمعاتنا العربية في مناقشته وإغنائه والسعي من أجل تبنيه وتنفيذه..

كما اقترحت، وما زلت اقترح، السعي إلى تشكيل جامعة للشعوب العربية، في توازٍ مع جامعة الدول العربية، ولا أقول في مواجهتها، على أن تمثّل هذه الجامعة كذلك مختلف القوى السياسية والنقابية والأنشطة الثقافية والهيئات الأساسية في المجتمع المدني، لتعبر عن الصوت الشعبي في مختلف القضايا العربية والعالمية، وتكون عمقاً ديمقراطياً لجامعة الدول العربية.

وأضيف إلى هذين الاقتراحين، الدعوة إلى المشاركة العملية الفعّالة مع مختلف القوى القومية، التي تمثل مختلف شعوب العالم تمثيلاً ديمقراطياً، هذه القوى التي تجتمع وتتوحّد وتعمل من أجل بناء عولمة إنسانية ديمقراطية بديلة، في مواجهة هذه العولمة الأمريكية الرأسمالية، التي تسعى إلى الهيمنة على حضارة العصر وتوجيهها لصالحها، وتواصل اليوم مشاريعها العدوانية والتوسعية، وإهدارها للمشروعية الدولية.

ولقد تأسست في القاهرة مؤخراً جماعة تتبنّى شعار العولمة البديلة. فحبذا لو تشكلت جماعات مماثلة في كلّ بلد عربي، لتتألف منها جميعاً جبهة العولمة البديلة العربية، التي تحرص على تنسيق عملها مع العمل الشعبي والاجتماعي العالمي.

وحبذا لو تم هذا كذلك بالنسبة لجبهة المثقفين التي نسعى لتشكيلها في القاهرة. وكذلك الامر نفسه بالنسبة لجامعة الشعوب العربية.

فبهذا تتحقق وحدة العمل والنضال العربي القاعدي الشعبي المدني والشبابي والعام في تناسق مع العمل والنضال الجماهيري الإنساني الشامل، الذي ينشر ويعمق الرؤية السياسية والفكرية للجماهير، ويمهد للعمل التغييري الجذري قطرياً وقومياً.

ولست بهذه المقترحات أقدم صياغات نهائية لإمكانيات تجاوز تخلفنا وتمزقنا القومي وتبعيتنا، في تضامن مع مختلف القوى الواعية والمتقدمة في بلادنا العربية وفي العالم، إنما أطرح رؤىً ومقترحات لعلّها تفجر بالحوار المجتمعي والقومي والثقافي، وربما بالمبادرة والقيام ببعض الممارسات والنجاحات العملية، إمكانيات وآفاقاً أكثرغنى ووعياً وفاعلية، لتجاوز أزمة واقعنا العربي الراهن، والمشاركة في التمهيد لبناء عولمة إنسانية ديمقراطية، كمرحلة جديدة متطورة لحضارتنا الإنسانية.►

 

* الكاتب: مفكر من مصر، رئيس اللجنة الفلسفية في المجلس الأعلى للثقافة في مصر. 

ارسال التعليق

Top