• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

أسباب استجابة الدعاء

السيد كمال الحيدري

أسباب استجابة الدعاء
  ◄هذه بعض الحقائق التي تُشكِّل الأساس في استجابة الدعاء في النظر العرفاني، التي منها:

الحقيقة الأولى: أنّ تتجسّد في صورة الداعي الباطنية حقيقةُ الطلب والحاجة والعوز، فلا يقْدِم على ربِّه وهو في غنى عمّا في يديه، "بحيث تتحوّل جميع ذوات الوجود الإنساني إلى مظهر من مظاهر إرادة الطلب، وأن يبدو ما يُريده الإنسان في صورةٍ حقيقيةٍ من صور الاحتياج والدعاء، كما إذا احتاج جزء من الجسم إلى شيء تأخذ جميع أجزاء الجسم الأخرى بالمشاركة"، وهذه الحاجة وذلك الطلب لا ينحصران بالمقاصد المادّية، كما قد يتوهّم الكثير، وإنما هو مُطلق الحاجة والطلب، وأُولى تلك الحاجات والمطالب هي طلب الارتقاء في سلَّم الكمالات الإلهية، لنيل القرب الإلهي، والتزوّد من ساحة القدس، فافهم.

الحقيقة الثانية: ضرورة التوجّه بالفقرية المطلقة إلى الغنيّ المطلق، أي أنّ نسأل ربنا ونحن نعتقد بفقريتنا المطلقة إليه، فلا نعقد أملاً بغيره أبداً، فإنّ الله تعالى غيورٌ ولا يُحبُّ أن تسأل غيره. ثمّ إننا إذا انعقد في قلوبنا أملٌ بغيره، فلا معنى للتوجه إليه تعالى، ولذلك فإنّ انعقاد أي أملٍ بغيره يعني غلق أبواب الاستجابة، بل يعني التعدِّي على حُرَمِ الله تعالى والغياب عن ساحة قُدسه، وقد ورد عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: "وكن كأفقر عباده بين يديه، وأخلِ قلبك عن كلّ شاغل يحجبك عن ربّك، فإنّه لا يقبل إلّا الأطهر والأخلص...".

وهذا ما نُلاحظه بوضوحٍ في الحديث القدسيّ المرويّ عن الحسين بن علوان قال: "كنّا في مجلس نطلب فيه العلم وقد نفدت نفقتي في بعض الأسفار، فقال لي بعضُ أصحابنا: من تُؤمِّلُ لما قد نزل بك؟ فقلت: فلاناً، فقال: إذن والله لا تُسعفَ حاجتُك ولا يبلُغَكَ أملُكَ ولا تُنجحَ طَلِبتُك، قلت: وما علمُك رحمَكَ الله؟ قال: إنّ أبا عبد الله (ع) حدّثني أنّه قرأ في بعض الكتب: أنّ الله تبارك وتعالى يقول: وعزّتي وجلالي ومجدي وارتفاعي على عرشي، لأقطعنّ أمل كلِّ مؤمِّلٍ غيري باليأسِ، ولأكسونّه ثوبَ المذلّة عند الناس، ولأنُحينَّهُ من قُربي ولأُبعدنَهُ من فضلي، أيؤمِّلُ غيري في الشدائد؟! والشدائدُ بيدي (أي تحت قدرتي)، ويرجو غيري ويقرعُ بالفكر بابَ غيري؟! – إلى أن يقول –: أبخيل أنا فيُبخِّلُني عبدي؟ أو ليس الجود والكرم لي؟! أو ليس العفو والرحمة بيدي؟!... فيا بُؤساً للقانطين من رحمتي ويا بُؤساً لمن عصاني ولم يراقبني".

وهنا أودُّ الوقوف عند جملتين من هذا الحديث القدسي، هما:

الأُولى: قوله جلّ وعلا: "لأقطعنّ أمل كلّ مؤمّلٍ غيري باليأسِ".

الثانية: قوله جلّ وعلا: "ويرجو غيري ويقرعُ بالفكر بابَ غيري".

فقوله: "لأقطعنَّ أملَ كلِّ مؤملٍ غيري باليأسِ" هو محلّ الشاهد في المقام، بأنّ صاحب الحاجة لابدّ أن يقصد أوّلاً ربّه فلا يتعلقُ بغيره، فإنّ الأمور جميعاً هي بيد الله تعالى، هذا هو مُقتضى التوحيد، بمعنى أنّ الإنسان إذا مسّه الضُرُّ فتمثّل أحداً أو ندب أحداً غير الله تعالى، يكون قد أمّل أحداً غيرَ الله تعالى، وهنا سوف يكون قد قطع سبيلَ قضاءِ حاجتِه.

وأما الجملة الثانية: "ويرجو غيري ويقرعُ بالفكر بابَ غيري"، فهي الأهم والأخطر في المقام، فإنّ الله تعالى ينهانا عن التفكُّر بغيره في قضاء الحوائج، لأنّه وحده يملك الأشياء حقيقة لأنّه مُوجدُها، وأما الغير فتملُّكُهُ للأشياءَ عرضيٌّ ومجازيٌّ، فكيف للعاقل أن يُفكِّر بما هو مجازيّ الوجود ويترك ما هو حقيقي؟

الحقيقة إنّ هذا الأمر ليس يسيرَ الفَهم والتقبُّل، فالإنسان اعتاد على الأُمور الحسِّية، وهو يجد أنّ الآخرين يقضون له حوائجَهُ بصورةٍ مُباشرةٍ، والإنسان مجبول على التصديق بما هو حسي ومرئي، وأما ما يتعلّق بالله تعالى فهو لا يُنكر وجودَهُ، ولكن هذا الوجود يُؤتى به للبركة لا لأصل الفعل، كما هو الحال بالنسبة للقرآن الكريم في نظر الكثير من عامّة الناس، فإنّهم يتذكّرونه في المآتم وأيّام شهر رمضان، وتلاوة القرآن في المآتم (مجالس الفاتحة على الأموات) من باب إعلام الناس بوجود مأتمٍ أو مجلسٍ ليس إلّا.

إنّ هذه الثقافة السائدة في مجتمعاتنا الإسلامية تعكس لنا بوضوح الخلل الكبير في التعاطي مع الدين، وفي فَهم حقيقة التوحيد، وفي أهداف نزول القرآن الكريم، وفي علاقة كلِّ ذلك بحياة الإنسان الدنيوية والأخروية، وما ينبغي عملُه وما لا ينبغي، ممّا يُحتِّم علينا جميعاً مواجهة ذلك بشجاعة وموضوعية، فإنّ القرآن الكريم والسنّة الشريفة قد جاءا ليُخرجا الإنسان من الظلمات إلى النور، وأيّ ظلمات أكثر من إفراغ القيم العُليا من مضامينها، وإبدالها بتُرّهات أوجدها الجهل والتخلّف، ونشرها انعدام الشعور بالمسؤولية.

وعلى أيِّ حال، فإنّ تلك الجملة القدسية تُريد أن تُنبِّهنا للخطأ الفاحش ولسلبيات الثقافة السائدة في كون الله تعالى له دور ثانوي في التأثير، أو أنّ دورَهُ دورٌ المتفرِّج والعياذ بالله تعالى. ولذلك ينبغي الانتباه والالتفات إلى هذه الحقيقة البائسة التي يعيشُها كثير من الناس، فإنّ الصحيح والحقَّ الصراح الذي ما عداه هو الضلال المبين، هو أنّه لا مؤثِّر في الوجود غير الله سبحانه وتعالى، وما عدا ذلك فهو اعتقاد مُفضٍ للشرك، والعياذ بالله تعالى.

إلى هنا نكون قد أوضحنا السبب الأوّل والرئيسي في استجابة الدعاء، وهو باختصار شديد كفُّ النفس والقلب والعقل عن التعلّق والتودِّد والتفكر بغير الله تعالى في قضاء حوائجنا في الدنيا والآخرة.

الحقيقة الثالثة: وهي ضرورة الاعتقاد الراسخ بأنّ الله تعالى لا يُخيِّب داعيه والساعي إليه، وهذا السبب مُكمِّل للسبب الأوّل، ففي السبب الأوّل قلنا يجب أن لا نتوجّه لغير الله تعالى، وأمّا السبب الثاني فهو الاعتقاد الراسخ بأنّ الله تعالى سوف يستجيب لنا، وأنّه لا بُخل في ساحته المقدّسة، وهذا ما مرّ علينا في ذيل الحديث القدسي الآنف الذكر، حيث جاء فيه: "أبخيل أنا فيُبخِّلُني عبدي؟ أوَليس الجودُ والكرمُ لي"؟، ولا ريب لأنّ الاعتقاد بعدم استجابة الله تعالى لدعائنا إما لاعتقاد بأنّه لا يملك، وعندئذٍ لا معنى لدُعائه ابتداءً، وإما لاعتقاد وجود بخلٍ وحرص في ساحته كما هو حال اعتقاد اليهود الذين كشف القرآن الكريم حقيقة اعتقادهم وسرائرهم في قوله تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ...) فأجابَهُم اللهُ تعالى: (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ...) (المائدة/ 64)، وأمّا اعتقادُ العبدِ بأنّه غيرُ مُستحقٍّ لاستجابة دعائِهِ فهذا أمر حسنٌ يُعجّل في الاستجابة لا في عدمِ الاستجابة أو تأخيره.

الحقيقة الرابعة: وأمّا السبب الأخير الذي نودُّ الوقوف عنده يسيراً فهو ضرورةُ عدمِ اليأس من رَوْحِ الله تعالى عند تأخير استجابة الدعاء، وقد عبّرنا بالتأخير ولم نُعبّر بعدم الاستجابة؛ لعدم تصوّره في صورة تحقُّق شروطه، وذلك لقوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة/ 186).

إنّ اليأس من الاستجابة دليل على قصور في فَهم الفيض الإلهي الذي لا انقطاع له أبداً، وقد مرّ بنا في الحديث القدسي الآنفِ الذكر إشارة لذلك، حيث يقول: "فيا بُؤساً للقانطين من رحمتي"، والبؤس الافتقار الشديد المُثير للشفقة، وقيل هو الضرر والشدّة، أما القنوط فهو اليأس، بل هو أشدُّ مُبالغةً من اليأس، فالذي ييأس من استجابة الله تعالى لدعائه يكون قد يئس من رحمته تعالى، والعياذ بالله.

ولعلّ من أسرار تفشِّي اليأس إلى قلوب بعض الناس استعجالُهم في طلب قضاء حوائِجِهم، وهذا ما نهى عنه رسول الله (ص) حيثُ يقول: "لا يزال الناس بخير ما لم يستعجلوا، قيل: يا رسول الله صلّى الله عليك وكيف يستعجلون؟ قال: يقولون: دعونا فلم يستجب لنا"، وعن الإمام جعفر الصادق (ع) أنّه قال: "لا يزال المؤمن بخير ورجاء، رحمةً من الله عزّ وجلّ ما لم يستعجلْ، فيقنط ويترُك الدعاء، قلت له: كيف يستعجل؟ قال: يقول: قد دعوت منذ كذا وكذا وما أرى الإجابة".

وبذلك نخلُص إلى أنّ من أهمّ وأعظم أسباب استجابة الدعاء التوجّه بالفقرية المطلقة إلى الغني المطلق، والاعتقاد الراسخ بأنّ الله تعالى لا يُخيِّب داعيه والساعي إليه، ثم عدم اليأس من رَوْحِ الله تعالى عند تأخير استجابة الدعاء.

وأخيراً أودُّ التذكير بأهمية استحضارِ كونِ النافع والضار هو اللهَ تعالى وحدَهُ، فذلك أشبه ما يكون بحجر الزاوية في تحقيقنا لاستجابة الدعاء، وقد جاء في حديث قدسيّ مرويّ عن رسول الله (ص) عن الله تعالى، أنّه قال: "مَن سألني وهو يعلم أني أضرُّ وأنفعُ استجيبُ له".

 

تذييل:

ممّا تقدّم في عرض شروط وأسباب استجابة الدعاء يكون قد اتّضح لنا بالضمن أسباب عدم استجابة الدعاء، فإنّ الإخلال بأيِّ شرط من الشروط المتقدّمة قد يكون مُوجباً لمنع الاستجابة، أو أنّه مُوجب – على أقلّ التقادير – لتأخيره، ولا يُعلم بالضبط أيّ الشروط أعلاه هو الأكثر تأثيراً في الجذب والطرد، ولذلك ينبغي مراعاتها جميعاً، ولكن المقطوع به هو أنّها جميعاً موجبةٌ لكمال ما، كما هو الحال في الطاعات، فنحن لا نعلم في أيِّها وضع الله تعالى رضاه، وهكذا في المعاصي، فنحن لا نعلم أيُّها مُوجبٌ لغضبه، ولذلك يجب علينا اجتناب معاصيه قاطبة، كما ينبغي تحقيق طاعاته.

 

المعقبات:

المعقِّبات مفردة قرآنية، فقد جاءت في قوله تعالى: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) (الرّعد/ 11)، وقد اختلف في تفسير هذه المعقِّبات، فقيل: إنّها ملائكة الليل والنهار، فإذا حلَّ الليل حلّت معه ملائكته، وإذا حلَّ النهار حلّت معه ملائكته، ووظيفتهما حفظ العباد، فكلُّ إنسان له حفظة يتعاقبون عليه تعاقب الليل والنهار، وقد روي في ذلك عن أمير المؤمنين عليّ (ع): "أنّهم ملائكة يحفظونه من المهالك حتى ينتهوا به إلى المقادير، فيحولون بينه وبين المقادير".

وروي الرازي في تفسيره أنّه قيل: يا رسول الله! أخبرني عن العبد كم معه من مَلَكٍ؟ فقال (ص): "ملك عن يمينك للحسنات هو أمين على الذي على الشمال، فإذا عملت حسنة كتب عشراً، وإذا عملت سيِّئة قال الذي على الشمال لصاحب اليمين: أكتب؟ قال: لا، لعلّه يتوب، فإذا قال ثلاثاً قال: نعم، أُكتب أراحنا الله منه، فبئس القرين، ما أقلّ مراقبته لله واستيحاءه منا! فهو قوله تعالى: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) (الرّعد/ 11)..".

والظاهر أنّ ذلك من باب الجري والتطبيق، بمعنى عدم حصر المعقِّبات بالملائكة الحفظة، وهو ما يهمُّنا في المقام فإنّ المعقبات من أبلغ معانيها أقربها للوجدان وإمكان العمل هي أنّها كلمات خاصّة يدعو بها العبد ربّه، وفي ذلك ورد حديث عن رسول الله (ص)، حيث إنّه قال لأصحابه ذات يوم: "أفلا أدلُّكم على شيءٍ أصله في الأرض وفرعه في السماء؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: يقول أحدكم إذا فرغ من صلاته الفريضة: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلّا الله والله أكبر، ثلاثين مرة، فإنّ أصلهنّ في الأرض، وفرعهنّ في السماء، وهنّ يدفعنَ الحرق، والغرق، والتردِّي في البئر، وأكل السبع، وميتة السوء، والبليّة التي تنزل من السماء على العبد، في ذلك اليوم، وهنّ المعقّبات".

 

إشراق:

الطاعةُ كلُّ الطاعة تكمُنُ في طلب رضاه، هي العلم؛ والمعصيةُ كلُّ المعصية في قصْدِ سواه، وهي الجهل؛ وهل في البينِ مقصودٌ آخر يستحقّ الطلب؟!►

 

المصدر: كتاب الدعاء.. إشراقاته ومعطياته

ارسال التعليق

Top