• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

قوم سبأ في جنة على الأرض

حسنات مصطفى

قوم سبأ في جنة على الأرض


سبأ: مدينة تقع في أرض اليمن، تبعد مسير ثلاثة أيام عن أرض صنعاء، وقد جاء ذكر هذه المدينة في القرآن مرتين: مرة على لسان الهدهد في جوابه للنبي سليمان حين سأله عن سبب عدم حضوره في الاجتماع الذي عقده سليمان لقواته قال: (أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) (النمل/ 22)، ومرة في قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ...) (سبأ/ 15)، وقد سميت باسم رئيس القبائل التي نشأت هناك، فقد جاء في الروايات إنّ سبأ رجل له عشرة أولاد.
لم يكن في هذه البلدة انهار ولا مياه للسقي ولا للزراعة، وكانوا يستسقون من مياه السيول التي تتجمع من الأمطار، فإذا انقضى وقت المطر جفت الأغراس، ومات الزرع، وعلى العكس ربّما اغرقتهم السيول لكثرة الأمطار.
لقد أدت محنتهم هذه إلى اختراعهم سداً محكماً سبّب في عمران مدينتهم، حتى أصبحت جنة لا نظير لها، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) (سبأ/ 15).
قال صاحب كتاب (جزيرة العرب) يصف هذا السد: (في الجنوب الغربي من مأرب سلسلة جبال هي شعاب من جبل السراة الشهير، تمتد مئات الاميال نحو الشرق الشمالي، وبين هذه الجبال أودية تصب في واد كبير يعبّر عنه العرب بالميزاب الشرقي وهو أعظم أودية الشرق، وشعاب هذه المواضع وأوديتها إذا مطرت السماء تجمعت فيها السيول، وانحدرت حتى تنتهي أخيراً إلى وادي (اذنة) وهو يعلو سطح البحر بنحو 1100 متر، وتسير فيه المياه نحو الشرق الشمالي حتى تنتهي إلى مكان قبل مأرب بثلاث ساعات، وهو مضيق بين جبلين يقال لكل منهما (بلن) أحدهما بلن الأيمن وثانيهما بلن الأيسر، والمسافة بينهما ستمائة ذراع، يجري السيل الكبير بينهما من الغرب الجنوبي إلى الشرق في وادي اذنة.
وقد اختار السبئيون المضيق بين جبلي (بلن وبنوا في عرضه سورا عظيماً عف بسد (مأرب) أو بسد (العَرِم)، وبين المضيق ومدينة مأرب متسع من الأرض تبلغ مساحة ما يحيط به من الأرض من سفوح وجبال نحو 300 ميل مربع.
كانت سبأ صحراء جرداء قاحلة، فاصبحت بعد تدبير المياه بالسد ذات مزارع وبساتين على الجانبين، وقد عبر عنهما سبحانه بالجنتين كما مر في الآية المباركة.
جاء في كتب التاريخ انّ ديارهم أصبحت بفضل ذلك السد تشبه الجنان من حيث وفرة الزرع والثمر، ووفرة المياه التي هي السبب في كل ذلك، فكان الماشي أو المار يسير في تلك المزارع ولا يخشى أحداً بل هو في غاية الانس، لأنّه حيثما سار سار مع الظلال الوارفة، والماء الجاري، والثمر المتدلي، فلا يحتاج المسافر إلى حمل زاده معه، ولا يحتاج إلى من يحميه خوفاً من حيوان أو لص أو ما شابه، لأنّه أينما سار سار مع بساتين متراصة، وجنان مغدقة، حتى جاء في بعض الاخبار انّ الحيوانات المؤذية والحشرات لا تعيش هناك، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ) (سبأ/ 18).
كيف تعامل هؤلاء المسرفون مع هذه النعم الوافرة؟ هل استقبلوها بالشكر والثناء على من اعطاها؟
إنّ ما كان منهم هو في غاية الحمق والغباء والجحود، لقد طلبوا من ربهم أن يجعل الأسفار بعيدة (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) (سبأ/ 19)، نريد سفرا بعيد الشقة، وفيه محطات استراحة متباعدة.
لقد دعوا على أنفسهم بالهلاك والدمار، وقد انتقم منهم سبحانه بسبب هذا الدعاء المجنون.
لقد اهلكهم بما كان هو سبب نجاتهم، فالسد الذي سبب لهم العمران، وجعلهم في تلك الحدائق البهيجة، سيكون سبب دمارهم، فلقد انهار هذا السد بفعل مخلوق ضعيف هو الفأر، إذ أحدث فيه ثغراً فأرسل عليهم سيلاً عارماً قضى على كل مدنيتهم، وحضارتهم، وعيشهم الرغيد، ومسكنهم الآمن، (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) (سبأ/ 16).
قال المفسرون: لقد استهانوا بنعمة الله، توهموا إنّ العمران والمدنية والامن أشياء عادية، فقد اسكرتهم النعمة فتفاخر الأغنياء على الفقراء، وظنوا أنّهم يزاحمونهم في ارزاقهم، أرسل الله عليهم سيل العرم فدمر كل ما لديهم فطغى الماء على أمر قد قدر، واستبدل ذلك النعيم الوافر والجنان الفارهة بشجر مرٍّ، ونبات لا خير فيه، كالخشب وهو الاثل، وقليل من السدر، ومن الممكن أن يكون ذكر هذه الأنواع من الأشجار التي بقيت في تلك الأرض المدمرة، إشارة إلى ثلاثة أنواع أحدها قبيح المنظر، والثاني لا خير فيه، والثالث لا يسمن ولا يغني من جوع.
ثمّ يقول الله سبحانه وهو يتحدث عن سبب عقوبتهم (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا) (سبأ/ 17). أصبحت الديار العامرة خراباً، وأصبحت البساتين الناضرة يباباً، واصبح الماء العذب أُجاجاً.
ويجب أن لا يتبادر إلى الذهن أنّ هذا المصير يخص هؤلاء القوم، بل أنّ من الواضح أنّ هذا المصير يعم كل من كانت لهم أعمال شبيهة بأعمال هؤلاء، وتضيف الآية، (وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ) (سبأ/ 17)، أي انّنا لا نعاقب إلا كثير الكفر والجهود.

المصدر: مجلة الرياحين/ العدد 26

ارسال التعليق

Top