• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

إبراهيم (ع) ومحنة الوَلد

د. سمير يونس

إبراهيم (ع) ومحنة الوَلد
تحكي كتب التفسير أنّ إبراهيم (ع) قرر الهجرة إلى ربه بعد أن أراد قومه له الهلاك في الجحيم، ونجاه الله من كيدهم أجمعين. وقد أثبت القرآن الكريم هذه الهجرة في قول الله تعالى: (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الصافات/ 99). يقول صاحب الظلال – رحمه الله –: "إنّها الهجرة، وهي هجرة نفسية قبل أن تكون هجرة مكانية.. هجرة يترك فيها كل شيء من ماضي حياته، يترك أباه وقومه وأهله وبيته ووطنه، وكل ما يربطه بهذه الأرض وبهؤلاء الناس، طارحاً وراءه كل شيء، مسلّماً نفسه لربه، موقناً أنّ ربه سيهديه، وسيرعى خطاه". وعندما قرر إبراهيم (ع) الهجرة لم يكن قد رُزق الولد، وهو الآن يترك خَلْفَه كُلَّ أقاربه وقومه، فإتجه إلى ربه يسأله الذرية المؤمنة الصالحة، فتوجّه إلى ربه متضرعاً: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) (الصافات/ 100). واستجاب الله دعاء نبيه وعبده إبراهيم (ع): (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) (الصافات/ 101).   المحنة محنتان: إنّ محنة إبراهيم (ع) في الولد محنتان؛ المحنة الأولى تجسّدت في صبره على عدم الإنجاب إلى أن صار شيخاً كبيراً؛ فكان صابراً راضياً، والمحنة الثانية تمثلت فيما رآه وهو نائم – ورؤيا الأنبياء حقّ وصدق – حيث رأى أنّه يذبح ولده الحليم الذي رُزق به على كبر!!   إجابة الدعاء ورزق الولد: والآن.. لقد استجاب له ربّه، ورزقه غلاماً حليماً هو إسماعيل (ع)، ولكنه لم يكد يأنس بابنه وفلذة كبده وسنده، حتى ابتلي فيه، وذلك بعد أن تفتّح صباه، وبلغ معه السعي، لقد رأى إبراهيم – الشيخ النبي المقطوع من القوم والعشيرة – في منامه أنّه يذبح إسماعيل، ولقد أدرك إبراهيم رسالة ربّه هذه.. إنها إشارة من ربه بالتضحية.. نعم، إنها إشارة ولكنها من ربه، فلبّى واستجاب دون شك ولا تردد، بل أقدم على تنفيذ إشارة ربه طاعة له وتسليماً وإذعاناً وانقياداً، وهو راضٍ مستسلم، لم يعترض، ولم يخطر بباله – مجرد خاطر – أن يسأل ربه: لماذا يا ربي أذبح ابني الوحيد فلذة كبدي؟! لم يُلبِّ إبراهيم (ع) في انزعاج، ولم يُطِعْ في اضطراب، بل إنّه الرضا والقبول في طمأنينة وهدوء.   مفاتحة الأب وإذعان الابن: هذا الجو الذي يملؤه الرضا والتسليم والسكون يساعد إبراهيم (ع) – بعون الله تعالى له – على أن يفاتح ولده وفلذة كبده، قائلاً في هدوء: (.. يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى...) (الصافات/ 102). إنّ الإبتلاء شديد، لا يصبر عليه إلا مؤمن عظيم الإيمان.. إنّ الله عزّ وجلّ لم يأمر إبراهيم (ع) بأن يضحي بماله أو بيته، ولم يأمره بأن يرسل ولده ليقاتل في سبيل الله، حيث الإبتلاء بلقاء الأعداء، الذي له احتمالان: إما النصر والنجاة من إيذاء الأعداء، وإما الشهادة، إنما يأمره أن يتولى هو بيده ذبح ابنه!! فماذا كانت إجابة ولده؟ (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (الصافات/ 102). إنّه يسمو كما سما أبوه وارتقى، فتلقّى الأمر في طاعة واستسلام ورضا وأدب، يدل على ذلك مخاطبته لأبيه بقوله: "يا أبت"، فهو نداء يوحي بالمودة والقربى والتقدير والتوقير، إنّه يصبر ويصمد، فلا يفزعه شبح الذبح، ولم يفقده رشده، ولا حبه لله ثمّ لأبيه، ويظل محافظاً على هدوئه وأدبه مع أبيه. لم يأخذ إسماعيل (ع) الأمر على أنّه بطولة أو حماسة أو شجاعة، ولم يبرز لذاته حجماً ولا وزناً، ولم يأخذها اندفاعاً دون روية ودون ربط الأمر بمشيئة الله تعالى وعونه، ولم ينسب الفضل في الطاعة والصبر إلى نفسه بل قال: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ).   تنفيذ الذبح وإتيان الفَرَج: وفي خطوة أخرى هي خطوة التنفيذ يتجلى نبل الطاعة، وتتجلى قوة الإيمان، وعظمة الرضا، قال تعالى: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) (الصافات/ 103-111). "لقد أسلما" وتلك حقيقة الإسلام، ثقة وطاعة وتسليم وطمأنينة ورضا وتنفيذ، يقول سيد قطب – رحمه الله – في الظلال: "إنها ليست الشجاعة والجرأة، وليس الاندفاع والحماسة، لقد يندفع المجاهد في الميدان، يَقْتَل ويُقْتَل.. ولقد يندفع الفدائي وهو يعلم أنّه ربما لا يعود، ولكن هذا كله شيء والذي يصنعه إبراهيم وإسماعيل هنا شيئاً آخر.. ليس هنا دم فائر، ولا حماسة دافعة، ولا اندفاع في عجلة تخفي وراءها الخوف من الضعف والنكوص!! إنما هو الإستسلام الواعي المتعقل القاصد المريد، العارف بما يفعل، المطمئن لما يكون، لا بل هنا الرضا الهادئ المستبشر المتذوق للطاعة وطعمها الجميل!! بذلك يكون إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- قد نفّذا الأمر والتكليف، ولم يعد باقياً إلا أن يذبح إبراهيم (ع) ولده؛ لأنّ إبراهيم قد جهّز السكين وأخذ ولده وأكبّه على جبينه استعداداً لوضع السكين على عنقه وذبحه، كما أنّ الغلام إسماعيل (ع) لم يتحرك امتناعاً ولا خوفاً، في موقف حقيقي تنفيذي، عياناً بعد أن كان كلاماً ووعوداً!! وضع إبراهيم (ع) السكين على عنق ولده، ولم يبقَ إلا أن يذبحه ويريق دمه ويزهق روحه، ولكن الله تعالى لا يرضى تعذيب عبده: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ) (النساء/ 147)، إنّما القصد هو الاختبار، وقد اختبر الوالد والولد، فصبرا ونجحا في الاختبار، فلم يعد لله حاجة في التفريق بين الوالد والولد بهذا الذبح، لذا كان تفريج الكرب، وإزالة الهم والغم، وزوال الشدة، وحدوث الفرج، وتحصيل الجائزة. كان الامتحان – إذن – قد تم، وظهرت نتائجه، وقد اجتازه إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- بنجاح، وظهر صدقهما، فاعتبرهما الله تعالى قد أديا وصدقا ونجحا وصبرا وثبتا، لذا جاء الفرج الإلهي من فوق السماوات السبع: (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (الصافات/ 104-105)، أي حقَّقت الرؤيا يا إبراهيم بالفعل، فالله لا يريد إلا الإسلام والاستسلام، بحيث لا يبقى في النفس ما تبخل به على خالقها وبارئها، ولو كان الإبن الوحيد فلذة الكبد وروح الفؤاد. لقد جُدتَ يا إبراهيم بكل شيء وبأعز شيء، جُدت به في رضا، ولم يبق إلا الدم واللحم، وهذا ينوب عنه ذبح، أي ذبح من دم ولحم، وبذلك يفدي الله عزّ وجلّ هذا الغلام الذي أسلم واستسلم ونفّذ بصدق، ففداه الله بكبش وَجَدَه إبراهيم (ع) مُهيّأ بإراده ربه وقدرته، ليذبحه فداء لإسماعيل وبدلاً منه، لأنّ الله لا يريد لعباده ألماً نفسياً ولا بدنياً، وإنما أراد الابتلاء، ليصبّر عباده، فيوفيهم أجورهم.   جزاء المحسنين الصابرين: لم يكن الفرج في فداء إسماعيل فقط بكبش ذبح بدلاً منه، بل أجزل له ربه العطاء والجائزة والمكافأة لإحسانه: (إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (الصافات/ 80)، جزاهم لصبرهم على البلاء، جزاهم بترقية نفوسهم، وتزكيتها، وملئها بالرضا والإيمان، وبتخليد هذه الذكرى وصاحبيها إبراهيم الوالد وإسماعيل الولد -عليهما السلام-.   دروس تربوية: في قصة ابتلاء إبراهيم في ولده إسماعيل (ع) دروس للأُمّة وللناس قاطبة، على مرّ العصور والأجيال، ومن أهم هذه الدروس: أوّلاً: أنّ الله عزّ وجلّ يبتلي أنبياءه وعباده الصالحين الذين يحبهم، فيعرّضهم للمحن ليس بغرض الانتقام والتعذيب، وإنما بغرض الابتلاء والتدريب، والتربية والترقية، وتحصيل الثواب، وزيادة الحسنات، وبلوغ الجنات، ورفع الدرجات. ثانياً: وجوب انقياد العباد لخالقهم طاعة واستسلاماً وتسليماً ويقيناً ورضا، وإن كان في ظاهر ذلك ألماً نفسياً أو جسدياً. ثالثاً: كلّ حب يجب أن يأتي بعد حبّ الله تعالى، فحبّ العبد لربه يجب أن يُقدم على حبِّ أي شيء سواه، يجب أن يأتي بعد حبّ الله تعالى حبّ الولد والنفس والمال والأهل الدنيا والناس أجمعين، هكذا فعل إبراهيم (ع)، حيث قدّم حبّ ربه على كل حب، حتى لو أدى الأمر إلى ذبح ابنه حبيب قلبه، وإلى ذلك يوجهنا القرآن الكريم: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة/ 24). فهل يعقل المسلمون – وخاصة الدعاة – هذا الأمر؟ إنّ من الدعاة من يظن أنّه سيبلغ الجنة وينال رضوان الله تعالى دون أن يبذل ويضحي، ودون أن يجاهد بكلمة حقّ، وربما يحيد عن الحقّ مخافة الناس، والله أحق أن يخشاه!! رابعاً: ضرورة الاهتمام بإحسان تربية الأولاد، فلقد ربى إبراهيم ولده إسماعيل (ع) وأحسن تربيته، لذا كانت الثمرة الطاعة والانقياد، والأجر والثواب. أين الآباء من واجباتهم التربوية نحو أبنائهم، وقد أسلموا أولادهم للتلفاز والفضائيات ودور السينما والإنترنت، وعزفوا عن تربيتهم على الإسلام وقيمه وأخلاقياته؟ خامساً: لجوء مَنْ حرم نعمة الولد إلى الدعاء وتضرعهم إلى الله، وألا يكون دعاؤهم مقصوراً على طلب أي أولاد، وإنما يلحون في الدعاء بأن يرزقهم الله الذرية الصالحة، ذلك ما نتعلمه من دعوة إبراهيم (ع): (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ)، لأنّ الذرية إن لم تكن صالحة أزعجت الوالدين، وكانت مصدر شقاء لهما وإزعاج، وذلك قد يؤدي إلى سقوطهما في أضعف الابتلاءات، بل وسقوط الجميع في أعين الناس!! ذلك أنّ حب الوالد لولده فطري، وربّما جعله ذلك يتهاون مع ابنه في كثير من الأمور التربوية، ومن ثم يكون الولد مصدر إرهاق وطغيان، وربّما الضرر والعياذ بالله، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى: (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا) (الكهف/ 80-81). سادساً: التأسي بإبراهيم (ع) وغيره من الأنبياء والصالحين الصابرين، قال تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ...) (الممتحنة/ 4). سابعاً: من عاش لله كان في معيته ورعايته، فقد استقرت هذه العقيدة في قلب إبراهيم (ع)، وتمكّنت، فوجدناه صابراً على المحن، ومن ثمّ يسَّر الله له من الأسباب ما لم يخطر على باله، فهل كان يتوقع إبراهيم (ع) أنّ الله سيفدي ابنه بكبش عظيم بعد أنّ وضع السكين على عنقه؟!! ثامناً: رقة خطاب الأب مع ابنه، والهدوء أثناء تحاور الأب مع أبنائه، مهما عظم موضوع الحوار، ولنتدبر قول إبراهيم لإسماعيل -عليهما السلام-: "يا بُني"، وهو نداء يشعل حباً ومودة وهدوءاً برغم أنّ العنوان الرئيس: "ذبح الأب لابنه"!! تاسعاً: النتيجة المنطقية لرقة خطاب الأب مع ابنه حُسن أدب الابن مع أبيه ورقة خطابه معه أيضاً، فلقد كان رد إسماعيل على إبراهيم (ع): (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ)، ففي ندائه لأبيه بـ"يا أبت" المودة والقربى والطاعة والأدب. فهل انتهى الآباء عن الصراخ في وجوه أبنائهم وممارسة العنف والقسوة، وإغلاق الحوار؟! عاشراً: جزاء الصبر جزاءات، فقد أثمر صبر الوالد إبراهيم وولده إسماعيل -عليهما السلام- جزاءات وثمرات، فقد خلدت الذكرى، لتتعلم الأمة دروساً عظيمة في الصبر وواجبات الأبوة وحقوق الأولاد، والفداء والتضحية، ولك أن تتصور فقط ذلك الخير العائد على البشرية من الأضحية التي صارت سنة للمسلم القادر على عيد الأضحى، تخليداً لهذه الذكرى العطرة، وكم من المسلمين الفقراء والأغنياء على السواء يستفيدون منها، وتلك ثمرة فرعية واحدة لثمرة أصلية هي الأضحية!!   * أستاذ المناهج وأساليب التربية الإسلامية المساعد. المصدر: مجلة المجتمع/ العدد 1857 لسنة 2009م

ارسال التعليق

Top