• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

دور الإسلام في التفعيل الحضاري

دور الإسلام في التفعيل الحضاري
 الجيل الإسلامي الأوّل تغيّر مَثَلُه الأعلى تماماً. الإسلام جعل الإنسان يشعر بأنّه محور الكون. الإسلام طوّر داخل الأُمّة ثقافةً وفّرت له ما تتطلبه الحياة المتحضّرة. التعارف بين الشعوب والقبائل يؤدي إلى استمرار الحركة الثقافية واستمرارها. لا أضرّ على الساحة الإنسانية ممن يحملون روح الحقد والخصام. مسيرة البشرية تطوي مسيرة كمالها. الأخوّة الإنسانية لا تتوفّر إلّا بتخليص البشرية من ظلم الظالمين واستضعاف المستكبرين. نزل الوحي في بيئة كان مثلها الأعلى القيم القبلية بما فيها من سلبيات وإيجابيات، ولم يكن في هذا المثل الأعلى ما يجعل الإنسان العربي يعيش خارج هموم ذاته وقبيلته. وجاء الإسلام فوضع أمام الجماعة المسلمة مثلاً أعلى مطلقاً كلّه خير ورحمة وعلم وقدرة وعزّة وكرم ودعا إلى السير نحو هذا المثل الأعلى. وكلّ دعوة إلى الله وعبادته والرجوع إليه والفرار إليه والكدح إليه، إنما هي دعوة إلى هذه المسيرة التكامليّة. وقد يقال إنّ هذا الفهم لمعنى العبادة والسير إلى الله لم يكن قائماً في ذهن العربي الذي رافق فجر الدعوة، غير أنّ واقع حركة الأُمّة في الصدر الأوّل يشهد أنها خرجت من إطار ذاتياتها الفردية والقبلية، وأصبحت تحمل رسالة الدعوة إلى عبادة الله الواحد الأحد والتخلّص من عبادة الأوثان كلّها، وتحرير الإنسان من عبودية الطاغوت، والدفاع عن المظلومين والمستضعفين.. والنصوص القرآنية التي تركّز على هذه الآفاق من الدعوة كثيرة، من هنا فإنّ الجماعة البشرية التي خوطبت بالدعوة الأولى تغيّر مثلُها الأعلى تغيراً تاماً، فبعد أن كان الدفاع عن القبيلة ومكانتها أبعدُ مطمع لهذا الإنسان لأفراد القبائل الأخرى، صار مطمح هذا الإنسان أن يُخرج الناس من ضيق الدنيا إلى سعتها ومن عبادة الطاغوت إلى عبادة الله الواحد الأحد، ومن ظلمات الجهل والخرافة والأوهام إلى نور العلم والحكمة والرُّشد والتفكير، ومن جور الطغاة والمستكبرين إلى العدل والرحمة والمساواة. هذه الحقيقة تيؤدها حركة تاريخ الأُمّة الإسلامية بعد ظهور الإسلام كما تؤيدها كثير من النصوص المقدسة في القرآن والسنة وغيرها من النصوص التي وردت على لسان حملة الرسالة في صدرها الأوّل.   - دور الإسلام في التفعيل الثقافي: التفعيل الحضاري يستتبعه تفعيل ثقافي بالضرورة، لأنّ المجموعة البشرية – حين تَخرج من ذاتياتها الضيقة، وحين تزول من أمام مسيرتها المثل العليا السرابية – تسلك طريق المثل الأعلى الحقّ. وهذا المثل الأعلى يفجّر في الإنسان طاقاته الخلاقة ويدفعُهُ إلى حركة لا نهاية لها في عملية الهدم والبناء، هدم ما يعيق مسيرة التكامل الإنساني من عوائق، وبناء ما ينفع الناس. ثمّ إنّ الإسلام قدّم للمجموعة البشرية تصوّراً عن الإنسان تجعله يشعر بأنّه محور الكون، ومحور التشريع الإلهي، وأنّه يحمل الأمانة الكبرى.. ولابدّ أن يؤدي هذه الأمانة يتحمّل مسؤولياته أمام ما أودعت فيه من قوى عقلية وفكرية تمنحه قدرة الإبداع والتطوير. وهذا التصور يمنح الإنسان ثقةً بنفسه وبإمكانياته وطاقاته وقدرته على الخلق والابتكار والإبداع. وهذه الأُمّة تشكّلت في فترة زمنية قصيرة بفضل عظمة مثلها الأعلى، وتحركت بسرعة على طريق بناء الخير وهدم الشر في الساحة البشرية ولذلك كانت خير أمّة أخرجت للناس: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ...) (آل عمران/ 110). وبسرعة مذهلة أيضاً تتناسب مع عظمة الأهداف تطورت في داخل هذه الأُمة ثقافة هي مزيج مما كان عند العرب من خصال حسنة وتعاليم جديدة دفعت إنسان الجزيرة العربية إلى الحياة الحضرية وحرّمت عليه أن يعود إلى البداوة، فكان "التعرّب بعد الهجرة" من الكبائر، ووفّرت له ما تتطلبه الحياة الحضريّة من نظام سياسي واقتصادي واجتماعي ودفاعي. ولعل أهمّ محاور التفعيل الثقافي في التصور الإسلامي الانفتاح على الشعوب الأخرى والتعرّف على ما كسبته في مسيرتها الحياتية التاريخية من تجارب وأخذ النافع منها المتناسب مع المنظومة الفكرية والعملية الإسلامية. والشعوب تختلف في مكتسباتها الحياتية باختلاف ظروفها التاريخية والاجتماعية وطبيعتها القومية والجغرافية، بل إنّ الاختلاف موجود داخل المجموعة البشرية الواحدة، والاختلاف بين الأفراد والجماعات أقرّه الإسلام، بل وجعل هذه التعددية من الأهمية بحيث تستطيع أن تفسّر سبب خلق الناس، لأنّها ترتبط بما يتصف به الموجود البشري من إرادة تجعله فريداً في هذا الكون: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (هود/ 118). إلى جانب إقرار الإسلام بالتعدّدية دعا إلى أن تتعارف المجموعات البشرية: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات/ 13). وكما أنّ تعارف الذكر والأنثى لا يلغي صفة كل منهما؛ بل يجعل من تعارفهما أساس استمرار الحياة البشرية، كذلك تعارف الشعوب والقبائل أو تعارف الثقافات يؤدي إلى استمرار الحركة الثقافية ومواصلة مسيرتها ونمائها.   - الموقفُ الإنساني من الآخر: الدعوة الإسلامية موجهة إلى "الناس" والدعوة إلى التعارف موجهة إلى "الناس" والخطاب إلى أتباع الأديان الإلهية الأخرى يدعوهم إلى المشتركات: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ...) (آل عمران/ 64)، وأسلوب الخطاب مع الآخر يجب أن يكون (.. بالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (النحل/ 125). وأن يكون بأفضل أساليب الإقناع: (.. وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...) (النحل/ 125)، ولا يجوز اتخاذ موقف رافض في الحوار مع الآخر: ... (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (سبأ/ 24)... وهذه وعشرات النصوص الأخرى تؤكد ضرورة تعامل الإنسان المسلم مع الآخر تعاملاً فيه شعور بالأخوّة والمحبّة والاحترام، فالإنسان موجود كرّمه الله (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ...) (الإسراء/ 70). وكل البشر يشتركون في "الفطرة" التي تجعل الناس بأجمعهم أمام أهداف إنسانية سامية، وتخلق بينهم المشترك الحضاري، ولا أضرّ على الساحة الإنسانية ممّن يحملون روح الحقد والخصام رغم تظاهرهم بالشعارات البرّاقة، ويعيثون – متى ما توفرت لهم القدرة – في الأرض الفساد، ويهلكون الحرث والنسل، أي يعتدون على نعم الله في الأرض وعلى كرامة البشرية، ولا يمكن أن تدخل البشرية في سلم إلا إذا أبعدت عن طريقها الحاقدين المخاصمين، وما أجمل تسلسل الآيات في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة/ 204-208). فالبشرية مدعوة إلى الدخول في السلم، وإلى التعامل الذي يحوّل العدوّ إلى وليّ حميم، لكنّ مشكلتها تبقى مع المنافقين الذي يظهرون ما لا يبطنون من الحقد، ويصرون على عنادهم ولجاجهم، وتأخذهم العزّة بالإثم. وهذه هي مشكلة التعايش الآمن بين البشرية في الماضي وفي حاضرنا الراهن وفي المستقبل. وهذا الذي (يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، مزودّ اليوم بوسائل إعلام ضخمة وأساليب دعاية مدروسة تجعل "قوله" ينطلي على الشعوب المضلَّلة، وهذا أكبر تهديد للأمن والسلام في العالم، لكنّ الأملَ في تقدّم كل ما عنده لمسيرة البشرية نحو كمالها المنشود. وهو أمل يقوم على أساس الإيمان بأنّ مسيرة البشرية تطوي سلّم الكمال رغم تعثرها وتراجعها في مقاطع من هذا الطريق الطويل. والإسلام دعا إلى الجهاد بالمال والسلاح والكلمة، من أجل الناس..، وفي سبيل الله لا تعني إلا في سبيل الناس.. فالله لا يناله ثمرة إنفاق المنفقين ولا نتائج جهاد المجاهدين، ولا فائدة دعوة الداعين. بل الذي ينتفع من كل ذلك هو الناس. وأقصى نِعَم الله على الناس هو أن (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) (النور/ 55)، ولذلك يذكّر المسلمين الأوائل بقوله: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا...) (آل عمران/ 103). وهذه النعمة لا تتوفر إلا بتخليص البشرية من ظلم الظالمين واستضعاف المستكبرين: (وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا) (النساء/ 75).   المصدر: مجلة ثقافة التقريب/ العدد 40 لسنة 2011م

ارسال التعليق

Top