• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بسماحة ويُسر

د. جليل علي لفته

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بسماحة ويُسر
◄(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ...) (آل عمران/ 104). (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ...) (النساء/ 135). القيام بالقسط: هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال رسول الله (ص): "ما أعمال البرّ عند الجهاد في سبيل الله إلّا كنفثة في بحر لجي، وما جميع أعمال البرّ والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلّا كنفثة في بحر لجي". وقال (ص): "إيّاكم والجلوس على الطرقات"، قالوا: ما لنا بدّ منها، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها، قال: "فإذا ابيتم إلّا ذلك فاعطوا الطريق حقه"، قالوا: وما حقه؟ قال: "غض البصر، وكفّ الأذى، ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". وقال سيّد المتقين (ع): "إنّ من رأى عدواناً يعمل به ومنكراً يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكره بلسانه فقد أجر وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا، وكلمة الظالمين السفلى، فذلك الذي أصاب سبيل الهدى وأقام على الطريق ونوّر في قلبه اليقين". وقال (ع): "فمنهم المُنْكِر بقلبه ولسانه ويده فذلك المستكمل لخصال الخير، ومنهم المنكر للمنكر بقلبه ولسانه التارك بيده فذلك مستمسك بخصلتين من خصال الخير ومضيّع خصلة، ومنهم المنكر بقلبه والتارك بيده ولسانه فذلك الذي ضيّع أشرف الخصلتين من الثلاث وتمسك بواحدة، ومنهم تارك لانكار المنكر بلسانه وقلبه ويده فذلك ميت الأحياء". وقال الرسول (ص): "إنّ الله تعالى ليبغض المؤمن الضعيف الذي لا دين له" فقيل له: وما المؤمن الذي لا دين له؟ قال: "الذي لا ينهى عن المنكر". وقيل له (ص) "اتهلك القرية وفيها الصلحاء؟ قال: نعم قيل: بم يا رسول الله" قال بتهاونهم وسكوتهم عن معاصي الله". وقال (ص): "لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم". وقال الامام علي (ع) لقوم من أصحابه: حق لي أن أخذ البرئ منكم بالسقيم، وكيف لا يحقّ لي ذلك وأنتم يبلغكم عن الرجل منكم القبيح فلا تنكرون عليه ولا تهجرونه ولا تؤذونه حتى يتركه. تبيّن لنا من الآية المباركة، والأحاديث النبوية الكريمة، والكلام الشريف للإمام عليّ (ع) أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولا شكّ انّ هذين الأمرين اللذين أمر بهما الله سبحانه في كتابه المجيد هما من قوام الشريعة ومصلحة الناس وسببٌ لنجاتهم من مخاطر الدنيا، وعقوبات الآخرة، وهما مع ذلك أمرٌ تربوي تدعو له كتب التربية والأخلاق على كل المستويات وانّ اختلف المصطلح، أو ترادفت الألفاظ، فالمعنى واحد. فالبشرية سعادتها كامنة باستقامة المجتمع وعدم انخراطه في سلك المنكرات والمعاصي التي نهى عنها الحق سبحانه وهو أعلم بعباده إذ رسم لهم الطريق السليم الذي يؤدي بهم إلى جنان النعيم والصراط المستقيم، ونهاهم عن السير في الدرب الشائك الذي بدوره يهوي بهم في مكان سحيق من العذاب والويلات فإذا ما قامت جماعة من أمّة بهذا التكليف لتدلّ التائه، وتهدي الحيران، وتنبّه الضائع، وتنتشل الغريق، فتنقذه من لجج التردّي والانحراف ففي ذلك نجاة المجتمع والبشرية دنيا وآخرة. وما بعث الله الأنبياء، وأرسل الرسل، ثمّ قيام الأوصياء مقامهم والعلماء والأولياء إلا لهداية هذا الإنسان واصلاحه. والواجب من هذين الأمرين (أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) هو الأمر بالواجب، والنهي عن الحرام. أما ما هو مكروه أو مندوب فالنهي عنه والأمر به مستحب لا غير. بعد أن عرفنا أهميّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفائدة هذين الركنين، نبيّن على من يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. بيّنت الآية المباركة من سورة آل عمران ذلك: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ...) (آل عمران/ 104). إنّ الأمر بالمعروف واجب كفائي، إذ انّ الأمر خاص على جماعة منكم وليس على الجميع، فلم يوجبه الله على الكلّ فيستدعي ذلك الحرج والأذى مما قد يؤدي إلى الهلاك. ولا يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بعد الشروط التالية فإن فقدت سقط الواجب من الأمر والنهي: 1-    ان يعرف الآمر أو الناهي ان ما فعله المكلّف أو تركه معروف أو منكر فلا يجب على الجاهل بالمعروف والمنكر والعلم شرط الوجوب كالأستطاعة في الحج. 2-    تجويز التأثير: فلو علم أو غلب على ظنه أن لا يؤثر فيه الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر لم يجب لعدم الفائدة. 3-    القدرة والتمكن منه، وعدم تضمّنه مفسدة فلو ظن توجّه الضرر إليه أو إلى أحد من المسلمين بسببه سقط إذ لا ضرر ولا ضرار في الدين. 4-    أن يكون المأمور أو المنهي مصرّاً على الاستمرار. فلو ظهر منهما امارة الاقلاع سقط الأمر والنهي للزوم العبث وهذه الأمور تختلف اشتراطاتها بسبب اختلاف درجات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال أبو عبدالله الصادق (ع) عن سؤال وجه إليه: هل انّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الأُمّة؟ فقال: لا. قيل: ولِمَ؟ قال: انما هو على القوي المطاع العالم بالمعروف من المنكر، لا على الضعيف الذي لا يهتدي سبيلا. وقال الإمام الصادق (ع) أيضاً عندما سئل عن حديث الرسول (ص): "انّ أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر" أجاب: "هذا على أن يأمره بعد معرفته وهو مع ذلك يقبل منه وإلّا فلا". وفي خبر آخر جاء في الكافي: "إنّما يُؤمر بالمعروف ويُنهى عن المنكر مؤمن فيتعظ أو جاهل فيتعلّم فأما صاحب سوط أو سيف فلا. ومن تعرّض لسلطان جائر وأصابته بلية لم يؤجر عليها ولم يرزق الصبر عليها". والإسلام منع من التجسس على الغير بغاية أن يطلع على منكراته فينهاه أو يأمره، بل يجب أن يراه مكشوفاً فيأمره أو ينهاه، فلا مجال لفتح باب مغلق أو وضع أذن على الباب لالتقاط الصوت، وطلب إرادة ما تحت الثوب وأمثال ذلك.   طريقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وللتيسير على العباد المكلّفين، وضعت الشريعة أحكاماً لهذين الأمرين وجعلت فيهما اليسر والسماحة. وتدلنا سيرة الأولياء على حكمة العمل والطريق الأفضل الذي يجب أن نسلكه. وذلك لما روي من أنّ الحسن والحسين – عليهما السلام – وهما صغيران رأيا شيخاً كبيراً يتوضّأ بصورة غير صحيحة، فصمّما في نفسيهما أنْ يذهبا إليه ويقولا له أنّهما تنازعا في أمر الوضوء، وهما يريدان أنْ يحكّما هذا الرجل الكبير في وضوئيهما، فوقف الحسن فتوضّأ والشيخ ينظر إليه، ثمّ جاء الحسين فتوضّأ أيضاً على مرأى الشيخ، ولما أتمّا وضوءهما التفت الشيخ إليهما شاكراً وقال: (بأبي أنتما وأمي، انّ وضوءكما صحيح ووضوء الشيخ باطل). بهذه الطريقة الحكيمة من هذين النبراسين المنيرين علوج خطأ ذلك الشيخ الكبير، من دون زجر أو إهانة أو استهزاء. ثمّ تأتي مرتبة ثانية، وهي أعلى من سابقتها، وهي أن يعمل عملاً يظهر منه انزجاره القلبي عن المنكر، وانّه طلب منه بذلك فعل المعروف وترك المنكر، وله درجات كغمض العين والعبوس، والانقباض في الوجه، أو كالإعراض بوجهه أو بدنه وهجره وترك مراودته ونحو ذلك، كما ويجب الاقتصار على المرتبة المذكورة مع احتمال التأثير ورفع المنكر بها، وكذا يجب الاقتصار فيها على الدرجة الدانية فالدانية، والأيسر فالأيسر، سيما إذا كان الطرف في مورد يهتك بمثل فعله، فلا يجوز التعدّي عن المقدار اللازم، فإن احتمل حصول المطلوب بغمض العين المفهم للطلب، لا يجوز التعدّي إلى مرتبة فوقه. لو احتمل حصول المطلوب بالوعظ والإرشاد والقول اللِّين يجب ذلك، ولا يجوز التعدِّي عنه. لو كان بعض مراتب القول أقل إيذاءً وإهانة من بعض ما ذكر في المرتبة الأولى، يجب الاقتصار عليه ويكون مقدّماً على ذلك، فلو فرض انّ الوعظ والإرشاد بقول ليِّن ووجه منبسط مؤثّر أو محتمل التأثير وكان أقل إيذاءً من الهجر والإعراض ونحوهما، لا يجوز التعدِّي منه إليهما والأشخاص آمراً ومأموراً مختلفون جدّاً، فربّ شخص يكون إعراضه وهجره أثقل وأشد إيذاءً وإهانةً من قوله وأمره ونهيه، فلابدّ للآمر والناهي ملاحظة المراتب والأشخاص والعمل على الأيسر فالأيسر. لو توقّف دفع منكر أو إقامة معروف على التوسّل بالظالم ليدفعه عن المعصية جاز، بل وجب مع الأمن عن تعدّيه، مما هو مقتضى التكليف، ووجب على الظالم الإجابة بل الدفع واجب على الظالم كغيره ووجبت عليه مراعاة ما وجبت مراعاته على غيره من الانكار بالأيسر فالأيسر. لو علم اجمالاً بأنّ الانكار بإحدى المرتبتين مؤثّر يجب بالمرتبة الدانية، فلو لم يحصل بها انتقل إلى العالية. لو توقّفت الحيلولة على حبسه في محل أو منعه من الخروج من منزله جاز، بل وجب مراعياً للأيسر والأسهل فالأسهل، ولا يجوز ايذاؤه والتضييق عليه في المعيشة. لو كان الانكار موجباً للجرّ إلى الحرج أو القتل فلا يجوز إلّا بأذن الإمام (ع) على الأقوى. وقام في هذا الزمان الفقيه الجامع للشرائط مقامه مع حصول الشرائط. ينبغي أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر في أمره ونهيه ومراتب انكاره كالطبيب المعالج المشفق، والأب الشفيق المراعي مصلحة المرتكب، وأن يكون انكاره لطفاً ورحمة عليه خاصة، وعلى الأُمّة عامة، وأن يجرد قصده لله تعالى ولمرضاته ويخلص عمله ذلك من شوائب أهوية النفس وإظهاره العلو، وان لا يرى نفسه منزّهة ولا لها علّواً أو رفعة على المرتكب، فربما كان للمرتكب ولو للكبائر صفات نفسانية مرضية لله تعالى أحبه تعالى لها وإن أبغض عمله، وربما كان الآمر والناهي بعكس ذلك وإن خفي على نفسه.   المصدر: كتاب الشريعة السمحاء

ارسال التعليق

Top