• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الإسلاميون والحداثة

د. إحسان الأمين

الإسلاميون والحداثة

  لا نريد في هذه الإطالة السريعة أن نستقصي هذه الموضوعات الحساسة والمهمّة بحثاً، وانما نريد إثارة المشكلة والتعرُّف على أبعادها مع الإشارة إلى بعض الحلول، والتي تتوقّف بشكل كبير على استيعاب الواقع وإدراكه.

  - مشكلة الحداثة: شهد العالم في النصف الثاني للقرن الماضي وحتى يومنا الحاضر تقدّماً هائلاً على المستوى العلمي والعملي في شؤون الحياة المختلفة، خصوصاً في مجال المكتشفات العلمية والتقنية والنمو المدني... ورافق هذه التطوّرات بروز نظريات سياسية اجتماعية وثقافية متعدِّدة، كان أبرزها ظهور الماركسية والرأسمالية كأيديولوجيا ومنهجية حياتية. ولا شك بأنّ هذا التطور الكبير في مجال العلم صحبه انبهار العالم جميعاً، والعالم الثالث – بشكل خاص – الذي كان يغرق في التخلّف ويعاني من الاستعمار، انبهار اقترن باستقبال ما اقترن بالعصر الجديد من نظريات وأفكار فلسفية وسياسية واجتماعية، فنشأت في العالم الثالث تيارات وأحزاب تتبنّى أشكال الفكر الغربي المستورد رغم التناقض والتضاد الذي يعيشه هذا الفكر بين مدارسه ومناهجه المختلفة. فنشأت عندنا الأحزاب الماركسية إلى جانب الأحزاب العلمانية والليبرالية والقومية والديمقراطية. وكان ردّ فعل قطاعات كبيرة من المتحفظين والمحافظين في العالم الثالث، ومنهم التيارات الدينية يتمثّل بما يلي: 1- الاصرار على التمسك بالتراث والقيم الدينية. 2- التعصّب والالتزام بالمظاهر الدينية والثقافية حتى لو كانت سطحية وشكلية، كالإصرار على شكل الملبس والمظهر وغيرهما. 3- مقاطعة بعض مظاهر المدنية الحديثة كما هو الحال في عدم التعامل مع المدارس العصرية، ومنع تعليم البنات، والتحفّظ – عند البعض – من كل جديد حتى من بعض الوسائل التقنية كالقطار... فضلاً عن الراديو والتلفاز. 4- عدم الاشتراك في الحياة السياسية الجديدة، بل تحريم الاشتراك في الوظائف الحكومية، وكذلك المجالس النيابية، واقتصار الحركة السياسية على الأحزاب والتيارات الجديدة. 5- اقتصار العمل الديني على الاشكال القديمة، كالكتاتيب والزوايا والتكايا، والأعمال الخيرية، في وقت كانت تسيطر الخيبة واليأس فيه على عموم القطاعات الدينية. ورغم كل هذه التحفّظات ووضع العراقيل والبراميل في طريق الموجة العلمية والمدنية الحديثة، فإن هذه الموجة استطاعت ولفترة قصيرة ان تستحوذ تماماً على القطاعات المتعلمة والنخبة السياسية التي تمسك بزمام الأمور بعد الاستقلال وقبله، وان تدفع بالقطاعات المحافظة ومنها الدينية إلى التقوقع في زوايا المجتمع، بعيداً عن أيّة قدرة أو نفوذ. ومن ثمّ فاننا نشهد ومنذ منتصف القرن العشرين المنصرم نهضة وحركة جديدة في العالم الإسلامي تختلف عمّا سبق، إذ تتبنّى هذه النهضة نمطاً جديداً في التعامل مع العلم والمدنية الحديثة تتمثّل بـ: 1- تبنِّي العلم والتعليم والتمكّن من التقدّم العلمي والتقني، باعتبار وسائل مادية مجرّدة وحيادية (غير مذهبية). 2- رفض المذاهب الفلسفية المستوردة، كالماركسية والرأسمالية. 3- نقد الأفكار والنظريات الحديثة المتولّدة في عرض المدنية الحديثة، بما فيها المدرسية والمنهجية مع استمرار التحفّظ منها، ووصمها بصفات: المادية، الوضعية، الجاهلية، وأحياناً بالكافرة واعتبارها من نتاجات الصهيونية والاستعمار. 4- تأسيس الجمعيات والجماعات، ومن ثمّ الحركات والأحزاب ذات الطابع الوطني أوّلاً، إذ بادر الإسلاميون إلى الاشتراك فيها، ثمّ الحركات الدينية التي تتبنّى الحل الإسلامي لعموم المجتمع. 5- وشكّلت هذه الخطوة الأخيرة حافزاً كبيراً للنهوض الفكري عند المسلمين من حيث محاولة اكتشاف واستنباط حل ديني لمختلف المشاكل والقضايا المطروحة آنذاك، ولذا فانّ أكثر ما أنتجه العلماء والمفكِّرون والكتاب المسلمون يدين إلى هذه النهضة السياسية والتي تحرّكت لتأمين فكرها وثقافتها من خلال المؤسسات الدينية القائمة في تلك المجتمعات. 6- بعث الأمل والنشاط من جديد في القطاعات الدينية وتحفز هذه القطاعات للعمل الجاد والمواجهة مع الأنظمة والتيارات الجديدة بالاستعارة من مفاهيم الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.   - الإسلاميون والحداثة على أعتاب القرن الحادي والعشرين: استطاعت التيارات الدينية أن تهضم أدوات الحداثة ووسائل التقنية العلمية الجديدة، وظهر جيل من العلماء المسلمين في مختلف الحقول الحياتية، كالطب والهندسة والفيزياء والذرة والكيمياء وعلوم الفلك وغيرها. إلا انّ الإسلاميين – بشكل عام – شارفوا على نهاية القرن العشرين، ولم يستطيعوا هضم الكم الهائل من النظريات والاكتشافات الفكرية والثقافية الحديثة في المجالات غير المادية، كعلم النفس وعلوم التربية وعلم الاجتماع وعلم التاريخ، والنشوء والارتقاء المتأخر لعلوم اللسانيات وكذلك في مجالي الأدب والفن. ولا زال الموقف العام من هذه النتاجات المذهلة في هذه الحقول متحفظاً بل سلبياً على أساس أنّ هذه الأفكار ليست علمية محايدة وانما صدرت عن رؤى مادية وإلحادية، وبالتالي فهي أفكار ونظريات مذهبية تتعارض مع الدين الذي له رؤاه وآراؤه الخاصة في سائر شؤون الحياة والتي فيها الغِنى عن غيرها، ممّا يحمل التلوث بالأهواء المضلّة والأفكار البشرية الناقصة. ولم يتمكّن الكثيرون منهم التمييز بين ما هو نظريات علمية بحتة، تبحث وتناقش، في حقول علم النفس مثلاً، كما نناقشها في علم الطب، وبين ما هو علمي وتجربي وبين ما هو مذهبي وعقيدي. كما لم يمكن التفريق بين النظر في الأفكار ونقدها وبين الموقف من القائل وعقيدته الخاصة، ولذا كان موقف "الإسلاميين" – في الأغلب – سلبياً من كل ما نسب إلى فرويد، رغم ابداعاته وانجازاته الكبيرة في مجال علم النفس، حتى أنّ البعض يعتبر تاريخ علم النفس منقسماً إلى ما قبل فرويد وما بعده. ولم يتعامل الكثيرون حتى مع أفكار هيغل وماركس على أساس الصحة والخطأ في الآراء المختلفة، بل كان اللجوء عادة إلى الاحكام الكلية من خلال نقد فكرة صارخة في معارضتها للدِّين، والاستهزاء من طلابها بسائر أفكارهما، ونجد في منهج التعامل السليم – وهو غير عام – عند الشهيد الصدر في كتاباته الذي كان يتعامل بموضوعية مع الآراء المختلفة فيقبل منها ما يراه صحيحاً ويرفض ما يثبت خطأه عنده بغض النظر عن القائل أو العامل بها. وتوقّف الكثير من الإسلاميين عند البحث الاصطلاحي في رفض ما جاءت به النهضة الأوربية الحديثة، دون الاستفادة من المضامين الإنسانية التي حملتها، كالموقف من الانتخابات عموماً والبرلمان والديمقراطية، وحقوق الإنسان وحقوق المرأة، والمصطلحات الحزبية والسياسية، وأخيراً في التعامل مع مصطلح العلمنة والجدل المنطقي في التسمية لا الأبعاد الثقافية والاجتماعية التي تهدف إليها. وقد نجد من معالم الموقف السلبي المطلق من النتاجات الفكرية والثقافية الإنسانية هو وصف كل نتاج بشري بالمادية والوضعية، مع انّ النتاجات البشرية الصحيحة هي من نتاج العقل الذي هو أعظم ما أنعم به الله تعالى على البشرية، وكان من أعظم خصائص الإسلام دعوته إلى التفكّر وطلب العلم والسير في الأرض ودراسة الآثار واكتشاف آيات الله تعالى في الأنفس والآفاق. ومن معالم هذا الموقف أيضاً محاولة زجّ الدين في كل أمر حياتي ونسبة رأي له فيه، ناسين أنّ في الإسلام مساحة فراغ تركها للناس ليملأوها بجهدهم الفكري وكفاحهم العملي ومن خلال المصلحة العامّة لهم. وقد كان من نتاج هذا الزجّ التحميلي للدِّين، أن ظهرت ألوان من التفسير العلمي، الذي تُحمِّل آيات القرآن معانٍ ونظريات لا تتضمنها الآيات القرآنية، فكان لوناً من ألوان التفسير بالرأي المنهي عنه. كما وجدنا البعض كتب في: الطب في الإسلام، علم الفلك في الإسلام، بناء المستشفيات في الإسلام، بالاستناد إلى روايات لم يثبت سندها، أو آراء لمسلمين عاشوا زمانهم لا عصرنا الحاضر. ولم يعِ هؤلاء انّ القرآن كتاب هداية، رغم ما تضمّنه من حقائق علمية، وانّ الإسلام منهج حياة، لا بديل للعلوم ولا معطل للجهد البشري الخلاق الذي حث عليه الإسلام وشجّع عليه، وأنّ معنى "ما من واقعة إلا وللإسلام فيها حكم"، لا يعني أنّ له رأياً تفصيلياً في سائر الشؤون بل أن يعطي خطاً عاماً ويترك التفاصيل للجهد البشري والفكر العلمي، مع وجود مساحة الإباحة الواسعة واصالة الحلية في الكثير من الأمور الحياتية. ولذا فلا داعي للتكلف ونسبة آراء للإسلام في أمور تفصيلية وبعضها متغيرة، حتى وجدنا انّ البعض ينسب للإسلام القول بنظرية علمية سرعان ما تتغيّر، أو يزج الإسلام في أمور تفصيلية تركها الإسلام لحكمة وعظمة فيه. كما أنّ الكثيرين لم يدركوا أنّ الكثير من نتاجات النهضة العلمية الحديثة كانت بفعل الآراء الإسلامية، التي انتقلت إلى أوربا من خلال الأندلس وغيرها، بواسطة حركة الترجمة التي نشطت في أواخر القرون الوسطى، وإلا فانّ أوربا كانت تئن من التحجّر والجمود حتى القرن السابع عشر – حيث حكم على غاليلو بالموت، لأنّه قال بكروية الأرض وحركتها – ويعود الفضل في حرية البحث العلمي فيها إلى بحوث المسلمين القائمة على التعليل والتجربة بعيداً عن الخرافة والتي كانت غالبة على أوربا آنذاك. ولذا فإنّ كثيراً من ابتكارات أوربا العلمية هي تكامل وامتداد لحضارتنا العلمية التي تمثّلت في عمالقة اخذوا موقعهم في تاريخ العالم العلمي كجابر بن حيان والخوارزمي وابن سينا والفارابي وغيرهم. كما أنّ الدارسين لتاريخ الحضارات في العالم لا يقرّون بالفصل التام بين الحضارات المختلفة، وإنّما الحضارات في حوار وتكامل تنتقل فيه النهضات من مكان لآخر ومن زمان لبعده حسب الظروف وقوانين بروز الحضارات والمدنيات وضمورها. فلم يكن ما أنتجه العلماء المسلمون مفصولاً ومنقطعاً عمن سبقهم من الروم والفرس وحضارة مصر والرافدين والهند والصين وغيرهم، ولا الأوربيون ابتدأوا من ساكن، وانّما هي حركة العلم والفكر في تكامل واضطراد، فإذا ضمرت هنا ظهرت هناك.   - الإسلاميون والحداثة اليوم: تختلف موجة الحداثة في نهاية القرن العشرين القرن المنصرم عن موجة الحداثة أوّله، فربّما كانت أوائل الحداثة تتمثل أكثر شيء بما جاءت به المكتشفات العلمية الحديثة التي غيرت وجه الحياة المدنية وأدخلت فيها ما كان لا يحلم به الناس في السابق. وبالتالي تأثرت حياة الناس الاجتماعية بهذه التطوُّرات التي قرّبت البعيد، ويسّرت الصعب، وربّما ما كان يعدّ من المستحيل. ولكن موجة الحداثة أواخر القرن المنصرم ورغم ما اشتملت عليه من تجديد وتطوير هائل في وسائل الاتصال والنظريات العلمية وغيرها... رغم كل هذا فانّها حملت معها هذه المرة أفكاراً وآثاراً واسعة على صعيد الحياة الفكرية والاجتماعية والسياسية، إذ انّ التغيير شمل النظم الاقتصادية وحركة الرأسمال ونمط العلاقات الاقتصادية، كما شمل التغيير بشكل واسع الأوضاع الاجتماعية على صعيد الأسرة والعلاقات العامة، وحملت هذه الموجة معها أيضاً الكثير من الأفكار السياسية التي غيّرت وتغيِّر الواقع السياسي في معظم دول العالم. وكانت هذه الأفكار والآثار على ضربين، منها ما هو نتيجة طبيعية لتغير الواقع المادي للإنسان والذي يستتبع بطبيعة الحال تغير نظم العيش ويبرز الحاجة إلى أفكار وبرامج جديدة، كما هو الحال في تغيّر المجتمعات من الحالة الزراعية إلى الحالة الصناعية، وتغير الحياة من الحالة الريفية إلى منظومات المدن الكبيرة المزدحمة ذات الحياة التجارية والصناعية، إذ حلّت فيها قوانين التنافس التجاري والسباق العلمي وقوانين العرض والطلب العالمية الصارمة محل الاستقرار والركود الحاكم على الحياة الريفية المحكومة بالأعراف والقيم. وبعض هذه التغيّرات كان نتيجة لإرتقاء الحياة من حيث تأمين متطلّباتها الرفاهية وتطوّر وسائل التعليم والثقافة وبالتالي نمو الفكر السياسي والثقافة العامة، فإنّ المجتمعات التي تفتقد إلى الأمن – وهو أوّل وأهم متطلّبات الحياة – أو التي تستنزف أوقات أبنائها في طلب لقمة الحياة الأوّلية لا تجد المتسع من الوقت والاهتمام لمتابعة الحياة السياسية أو التفرغ للفكر والثقافة. ولذا فانّ هذه التغييرات ستشمل العالم الثالث النامي – شئنا أم أبينا – وستصلنا الموجة بأسرع ما يمكن سواء بالمعايشة المباشرة بين المهاجرين إلى الغرب، أو بواسطة وسائل الاتصال، أو مع واردات التكنولوجيا والنظم العلمية والإدارية والتي تتضمّن – بصورة طبيعية – بعضاً من هذه الأفكار والبرامج الحياتية الجديدة. ولن تنجح كل محاولات العزل أو الانغلاق أو سدّ النوافذ – مهما كانت حديدية أو شديدة – في إيقاف زحف هذه التغيّرات وورود الأفكار الجديدة، نعم قد تضيّع هذه الاجراءات بعض الوقت أو تبطئ الموجة، ولكن حال المجتمعات المغلقة سيكون شأن أصحاب الكهف، فهم على الرغم من إيمانهم العالي والكبير، إلا انّهم قد يكونون فضلوا العودة إلى الكهف لأنّهم وجدوا أنفسهم ينتمون إلى الماضي ولا يستطيعون العيش في مجتمع جديد، لم يعايشوا نموّه وتطوّره. ولذا فإنّ على الإسلاميين مواجهة هذه الحقيقة كما هي، وهي انّ الحداثة قادمة لكل المجتمعات لا محالة، بما تحمل من نظم وبرامج وأفكار، وعليهم طرح الحلول المناسبة والبدائل الصحيحة لا لمواجهة الحداثة والدخول في معركة مع العصر... ولكن لاستيعاب الحداثة وهضمها والتعايش بالإسلام في هذا العصر بكل ما فيه من تطوير وتنمية وتحديث. وينبغي هنا أن نشير إلى مسائل مهمة وأساسية في هذا الأمر: أوّلاً: إنّ في موجة الحداثة الكثير من الأفكار والبرامج الجيِّدة – دون الإغماض عن بعض الإعراض والآثار الجانبية السلبية المرافقة لأي حل أو دواء – فإن في الدعوة إلى احترام حقوق الإنسان – ولو على مستوى الفكر والشعار والرأي العام – آثاراً إيجابية عظيمة في مواجهة الانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان في مناطق شاسعة من العالم وخلق تيار عام رافض لمظاهر الظلم والعدوان على حقوق الشعوب، وبروز قوى ضغط داخلية أو خارجية على الكثير من الأنظمة باتجاه احترام الحقوق السياسية واعطاء حرية الانتخاب وإبداء الرأي – ولو في الظاهر – وبالتالي فإنّ الأوضاع – بعد هذا الاتجاه – سارت في العالم بشكل عام نحو تقليل الظلم والعدل النسبي – نسبة للماضي – وذلك يعدّ من الأصول الأساسية التي يعمل باتجاهها الإسلام، في دفع الظلم عن المستعضفين والانتصار للمظلومين. وقد يردّ البعض بأنّ هذه المطالبات والشعارات باسم حقوق الإنسان ما هي إلا أدوات سياسية يستعملها الغرب حيثما يشاء وحيثما تتطلّب مصالحه، فيغضّ الطرف على هذا النظام، لأنّه يحقق أهدافه ويساير رغباته، ويثير المسألة ضدّ ذاك، لأنّه يقف عثرة في طريقه ولا ينسجم مع برامجه الاستعمارية. والواقع ان استغلال الغرب لهذه الشعارات وعدم الصدق في تطبيقها والتعامل بأكثر من معيار مع القضايا المطروحة هنا وهناك، هو أمر مسلّم لا شك فيه، ولكننا لا يمكن أن ننكر أنّ هذه الشعارات وما تحمله من أفكار قد غيرت الواقع في مساحات واسعة من الدول لتبنِّيها من قطاعات واسعة من الشعوب، كما انّها أجبرت الكثير من الأنظمة على إعطاء حريات نسبية وإلى مراعاة – ولو ظاهرية – لحقوق الإنسان، خصوصاً مع نشوء منظمات محايدة، وبعضها شعبية، وأخرى انشأتها المعارضة، ومع بروز صحافة حرة في العديد من الدول العالم... كل ذلك أوجد جوّاً اعلامياً ضاغطاً باتجاه الاحترام النسبي – نسبة إلى الماضي – لحقوق الإنسان، ولو ألقينا نظرة شاملة للواقع السياسي في العالم لوجدنا غياب امبراطوريات وأنظمة مستبدّة عديدة، وبروز أنظمة شابة جديدة أعطت بعض المتنفّس لشعوبها وسمحت للتجربة الانتخابية – بشكل من الأشكال – إلى أن تأخذ طريقها إلى الواقع، وقد شملت هذه التغييرات دولاً كثيرة كالمجموعة الاشتراكية السابقة، ودولاً من آسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا. ثانياً: ومن هنا نعرف خطأ الموقف السلبي المسبق الذي اتخذه الإسلاميون – في أكثر من موقع – تجاه كل ما هو غربي، أو في مقابل أيّة فكرة أو نظرية انتجها الفكر البشري. فإنّ موقف المؤسسات الدينية كان – في الأعم الأغلب – ولا زال متحفظاً وسلبياً بشدّة ويدعو إلى مواجهة ومقاطعة الحداثة – فكرها ونظمها لا أدواتها – بما أُوتي من قوة، وعدم التعامل مع أفكاره وآرائه وبرامجه الاجتماعية، بل الدعوة إلى التمسّك بالماضي بما فيه من فكر وتراث وعادات اجتماعية موروثة – والكثير منها لا تصلح لزماننا – وحتى بلغ الأمر إلى الدعوة إلى رفض المظاهر الحياتية المادية الصرفة كطريقة الأكل واللباس و... والإصرار على الأزياء القومية والعادات الحياتية، والتي تختلف في العالم الإسلامي من بلد لآخر، فهي تقاليد وعادات قومية أو محلِّية، لا علاقة لها بالفكر الإسلامي. ومن هنا وجدنا زحف الأفكار العلمانية الحديثة في القطاعات المتعلقة والمثقفة التي وجدت في هذه الأفكار انسجاماً – ولو ظاهرياً – مع حياتها اليومية المتطورة باستمرار، كما انّها اعتبرتها – ولو خطأً – انّها كانت وراء التقدّم العالمي والسبق الذي وصلت إليه الدول المتطوِّرة. وقد رفضت الكثير من المؤسسات الدينية – ولا زالت ترفض – البرامج التعليمية الحديثة وطرق الدراسات الأكاديمية المتطورة، وأصرّت حتى على أشكال التعليم القديمة – ومنها الاصرار على جلوس الطالب على الأرض – معتبر انّ هذه الأشكال – والتي لا أصالة فكرية لها وانّما هي متغيِّرة من حال لحال ومن زمان لزمان ومن مجتمع لآخر – من الأصول التي حفظت الشريعة وحافظت على الدراسة الدينية مئات السنين، وان تغييرها يؤدي إلى إفراغ الدراسة الدينية من محتواها..!! ولا نعلم كيف يفسر هؤلاء التطور العلمي الهائل الذي نتج من تحويل الدراسة في الكتاتيب والمدارس القديمة إلى النظم الحديثة، وكيف تتطور هذه البرامج باستمرار لتنتج لنا قفزة رهيبة في البحوث العلمية التي بات يشارك فيها حتى الشباب الصغار بما لم يكن يفكر فيه حتى كبار العلماء بالأمس. إلّا انّنا نجد في المقابل، ورغم كل محاولات الوقوف بوجه الحداثة، انّ الحداثة فرضت نفسها ودخلت من الأبواب والشبابيك ومع موجات الهواء وأشعة الضوء الكونية، وكيف أنّ هذه الموجة استقطبت الأبناء وأن وقف بوجهها الآباء، وكيف انها نقلت المعركة بين الجديد والقديم من حواجز الحدود إلى داخل البيوت، وبين أفراد العائلة الواحدة، وكيف تسلّم العلمانيون مقاليد الحكم ومسؤوليات التعليم ومراكز التنمية، وبقي المؤمنون بعيداً عن القدرة والتأثير. وبالعودة إلى التجربة الإسلامية في نشوئها وارتقائها في الماضي، لم نجد فيها هذا التعامل السلبي – الضعيف – ولم نجد فيها الانكماش على الذات والتعصّب لكل ما هو ماضي، والاصرار على تراث الآباء – ولو كانوا لا يعقلون – بل نجد انّ الإسلام بما حمل من عظمة وقوة وانفتاح على الحياة واستيعاب لأسباب العلم والحضارة قد استطاع النهوض بالمجتمعات الجاهلية المتخلفة التي دخلها وبلغ بها خلال مدة قصيرة – حينها – إلى أعلى مراتب التطوّر والتقدّم، فكان من هذه الأُمّة علماء وحكماء وفلكيون ومبدعون دانَ لهم العالم كله ولا زال بالاحترام والتجليل والاعتراف بسبقهم العلمي، كما استطاع الإسلام النهوض بالواقع الاجتماعي في مجتمعات كان يسحق فيها الإنسان تحت وطأة الطبقية والعنصرية واحتقار النوع البشري إلى مجتمعات تعطي للإنسان أعلى قيمة فهو خليفة الله في أرضه، أكرمه الله تعالى بالعلم والمعرفة، وسخّر له ما في السماوات والأرض، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة. وهكذا نجد الإسلام لم يلغ حضارات الشعوب ولا دمّر مدنيتها، ولم يغلق أبوابه أمام الفكر العالمي، ما مضى منه وما لحق، وانما تعامل مع كل هذا وذاك بقواعد معرفية منفتحة متقدمة لا منغلقة متخلفة، فكان منها: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق/ 1-5). (فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (الزمر/ 17-18). (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ) (آل عمران/ 190). (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (فصلت/ 54). (قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا...) (الأنعام/ 11). (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك/ 15). "الحكمة ضالّة المؤمن". "طلب العلم فريضة على كلِّ مسلم ومسلمة". "أطلبوا العلم ولو بالصِّين". وغير ذلك من عشرات النصوص بل مئاتها، حتى انّك تجد القرآن كلّه، دعوة لاكتساب العلم واتباع الحكمة. ولذا فإننا نحتاج إلى نظرة جديدة تأخذ بنظر الاعتبار واقعية الحداثة، وتدرس حقيقتها – خيرها وشرّها وتتعاطى معها من موقع الانفتاح والقوة والثقة بالنفس والمبدأ لا من موقع الضعف والانسحاق. ثالثاً: قد يعتبر البعض انّ الحديث عن الحداثة سابق لأوانه، فهو يختص بمرحلة ممارسة تجربة الحكم، وحيث انّ معظم الحركات الدينية لم تصل إلى تلك المرحلة، وهي مستنزفة فعلاً بالصراع مع الأنظمة أو مستغرقة في عمليات التغيير الاجتماعي أو العمل السياسي في الأُمّة فانها بذلك في غنى عن خوض مواضيع لم يأت أوان بحثها ولم تبرز الحاجة الماسّة إليها بعد. والواقع انّ بحث هذه الموضوعات ضروري بل حياتي الآن وليس غداً لأسباب عديدة، منها: 1- إنّ بيان موقف الإسلاميين منها يوضِّح للأُمّة معالم الحياة التي ينشدها هؤلاء لبلدانهم، وبالتالي فإنّ الناس اليوم لم تعد تقتنع بمجرّد طرح الشعارات الجميلة أو تبني المشاريع الخيرية، فقد مرّت الأُمّة بتجارب فاشلة عديدة أبهضت تكاليفها الناس، فلابدّ من طرح المشاريع المستقبلية بصورة واضحة وشفافة. 2- إنّ الموقف من الحداثة لا يختص بمرحلة الحكم، وانما يدخل في رسم الكثير من البرامج الحالية وتحديد الموقف من الأطروحات السياسية المختلفة، واختيار طريقة التعامل مع الغير: حركات وأنظمة وحكومات ومشاريع سياسية، وكذلك الموقف من الشأن الثقافي وحرية الفكر والتعدّدية، وأيضاً في فهم التركيبة الاجتماعية للأُم والشعوب، واستيعاب التطوّر الحضاري العالمي. 3- ولذا فانّ هضم "الحداثة" واستيعاب آثارها والاستفادة من معطياتها قد تغير النموذج المطلوب للمجتمع المنشود وطريقة الوصول إليه، أو ما يُسمّى بخط السير ومراحل التغيير معاً. ولا نستطيع هنا تفصيل هذا الأثر الخطير، وانما نعتمد فيه على إدراك القارئ الكريم لآثار القبول بالديمقراطية – مثلاً – كحلّ للمشكل السياسي – دون الخوض في صحة هذا القبول أو رفضه هنا – في رسم معالم النموذج المطلوب وتغيير برامج العمل السياسية لهذه الحركة أو تلك. رابعاً: استيعاب الحداثة: كما سبق فانّ "الحداثة" لم تعد عبارة عن آليات أو تقنيات حديثة ولا مكتشفات علمية فقط، بل هي ذي وذاك ومعها أفكار وآثار ثقافية واجتماعية وسياسية كبيرة، ولذا ولغرض التعامل مع الحداثة واستيعابها وهضم آثارها يتطلب منا النفوذ إلى ما بعد الظواهر والأعراض لاكتشاف الجواهر وتحديد لوازم الحداثة ونتائجها، وإذا علمنا أيضاً أنّ الحداثة هي تغيّر وتجدّد مستمر، عرفنا أنّ دراسة "الحداثة" تتطلّب منّا معاصرتها والتعرف عليها باستمرار لكي نعيش لحظات التطوّر والتغيير أوّلاً بأوّل. إذ ربّما كان التغيير في كل عقد أوائل القرن يعادل أو يفوق التغيير في قرن ممّا مضى، ولكن التغيير والتجديد الحاصل في سنة واحدة الآن قد يفوق ما حدث في قرن من الزمن المنصرم، ولذا قيل: انّ مَن يفكِّر في الحاضر فهو يفكل في الماضي، ومّن أراد العيش في المستقبل عليه أن يفكِّر في المستقبل دوماً. إنّ "الحداثة" التي طرأت على عالم الاتصال قد جعلت من عالمنا اليوم قرية واحدة بالفعل، فما يحدث في أقصى الشرق يراه ويعايشه الناس في كل العالم حتى أطراف الغرب، وهذا بدوره عمل على انسياب القيم والمفاهيم والأفكار بصورة سيالة ومضطردة دون حواجز أو حدود، ولذا كانت "العلمنة" في هذا الجانب واقعاً لا ينكر. كما أنّ التقدّم الهائل في عالم المعلومات وسهولة تناولها وانتقالها كان له أيضاً الآثار الكبيرة في تقارب مستويات التفكير وتهيئة مقدّمات واحدة لدى مختلف القطاعات العلمية والثقافية والسياسية في العالم، وغيّرت التزامات كبيرة كانت سائدة في مجال حفظ المعلومات والتجارة بها واعتبارها رأسمالاً ومصدراً من مصادر القوة والتفوق، وها نحن نجد أسرار الجينات حلول معادلاتها الصعبة تنزل على الانترنيت لتكون بين يدي العلماء والباحثين في كل العالم دون احتكار أو تحجير. كذلك نجد المهتم السياسي يراجع الفكر العالمي والتحليلات السياسية لسائر الدول والشعوب بمراجعة سهلة إلى جهازه الكمبيوتري. وسهّلت حركة المعلومات وحرية الاتصال هذه أن يتواجه أصحاب الآراء المختلفة والمذاهب السياسية المتعارضة وجهاً لوجه أمام الرأي العام العالمي، فكان نتاج ذلك فكراً سياسياً جديداً يقر بتعددية الرأي ويحترم الرأي الآخر، ويعطي مساحة أوسع لمشاركة الناس في الرأي واتخاذ القرار الذي كان في الأمس محجوراً في دوائر خاصة أو مختصة تتعامل مع الناس كعوام لا يفهمون ولا رأي لهم وتنصب نفسها قيِّمة على الأُمّة بيدها الأمر والنهي، ولذا فاننا نجد اهتماماً حتى من قِبَل الأنظمة المستبدّة بهذا الأمر لتحاول كسب الرأي العام وطرح آرائها ومحاولة إيجاد المقبولية لها. وما ذكرناه مثال على الأفكار والآثار المتولدة من الآليات والأدوات التي جاءت بها الحداثة، وبالتالي التغييرات الكبيرة التي ستوجدها في حركة المجتمعات ووعي الشعوب. ومن هذه الآثار الملموسة والمحتملة هو انحسار فكر الالغاء للآخر والذي ساد في أوضاعنا المتخلفة دهراً، وذلك باتهام أي فكر معارض أو جديد بالتفكير والتفسيق، أو بالتأثر بالفكر الغربي، أو حتى بالعمالة والتآمر، وانما سيكون ملاك التفاضل في المستقبل، وربما الآن في كثير من المجالات، هو الفكر الأصلح، والأكثر حقانية وعقلانية، ولذا فإنّ المدارس الفكرية المتعصِّبة المتحجِّرة لن تجد مكاناً في الرأي العام مستقبلاً ما لم تغيِّر من أساليبها ومناهجها. ومن أفكار "الحداثة" وآثارها بروز الدور المؤسساتي وضمور الدور الفردي على كافة المستويات، فانّ الاتجاه العام لنظام الإدارة في العالم على مستوى المؤسسات الصغيرة أو الكبيرة، الشعبية أو إدارة الدولة، وحتى المؤسسات العالمية هو التأكيد على دور المؤسسة لا الفرد، والبرنامج المدروس لا الاجتهاد الآني، والنظام لا الرأي الشخصي، ولذا نشهد اليوم في عالمنا غياب شخصيات قيادية ورئاسية عالمية كبيرة دون أن تتزحزح أنظمتهم أو تتغير سياساتها أو يؤثر ذلك الغياب في قوة النظام أو ضعفه، ودون أن تقلب الوجوه الجديدة الأمور رأساً على عقب، وبالتالي تتجه الأنظمة والشعوب إلى تحديد دور الفرد ضمن المؤسسة، وبواسطة آليات مقننة. وهذا اتجاه جديد بخلاف الاتجاه السائد في العالم سابقاً القائم على دور الملك أو شخصية الرئيس ومكانة الحاكم وقوة إرادته أو ضعفها. وقد أولد هذا فكراً سياسياً يقوم على أساس التأكيد على شرعية المؤسسة أو النظام لا شرعية الرئيس أو الحاكم، ونقصد هنا الشرعية السياسية لا الدينية. وقد اعتبر أحد الباحثين الكبار تأكيد المسيحية على شخصية المسيح (ع)، دون الدِّين المسيحي أحد العوامل الرئيسة في ضعف المسيحية واضمحلال وجودها الحديث فيما عدّ تأكيد الإسلام على رسالته ومبادئه أحد العوامل الأساسية التي تضمن استمرار وجوده وتأثيره في المستقبل، وهو ما أكدت عليه النصوص الشريفة كقوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا) (آل عمران/ 144). ومن معالم "الحداثة" الجديدة العمل على توفير حد أدنى لمتطلبات الحياة في مجتمعاتها، من توفير الضمان الصحي والتأمين الاجتماعي الذي يوفر للإنسان متطلبات المعيشة الضرورية عند البطالة أو عدم القدرة على العمل، وحق التعليم لجميع الأطفال... وبالتالي يتجه المجتمع نحو الرفاه وتحسين الأوضاع الدنيوية للإنسان، وقد باتت هذه الحقوق مطالباً بها في معظم مجتمعات العالم معتبرين أياها حقوقاً أوّلية أسوة بغيرهم ممن نعموا بها، كما نجد الاتجاه نحو الرفاهية اتجاهاً عاماً في سائر المجتمعات، خصوصاً بعد تلاقي الحضارات واصطكاك المدنيات، وبالتالي باتت هذه الأوضاع تفرض أطروحات جديدة ونمطاً من التعامل يختلف عن السابق حيث كانت الأفكار المثالية والمبدئية والأيديولجية تحتل الصدارة تستهوي قلوب الناس... أي انّ الأطروحات الجديدة – حتى الدينية – لابدّ أن تهتم بالجانب الدنيوي وتأمين متطلبات الحياة السعيدة وتقديم الحلول المناسبة في هذا الصعيد. هذه أمثلة سريعة، فالموضوع يتطلّب اهتماماً تخصصياً ومفصلاً، والخلاصة التي يمكننا أن نصل إليها هي انّ المجتمعات الحديثة – بما فيها غير المسلمة – تنتظر حلاً لمشاكلها التي تعيشها دون أن يلغي هذا الحل معاصرتها ومعايشتها للحداثة والزمن الذي تحياه، بما تحمل هذه الكلمات من سعة ومعنى، وانّ الاسلاميين إذا أردوا أن يكونوا ممّن يقدِّم هذا الحل لابدّ لهم من أن يعيشوا زمنهم ويهضموا حداثته تماماً كغيرهم ثمّ يلجأوا من خلال هذا المنظار الدقيق والواسع لاستلهام حلول الإسلام لمشكلات الحياة: الحياة الجديدة، الحيّة والمتحرِّكة المتطوِّرة. ولا يعني استيعاب "الحداثة" التخصّص العلمي، وإن كان يساعد في ذلك، بل لابدّ من فهمها عبر دراسات اجتماعية متخصصة تتناول أبعاد التغيير الفكرية والاجتماعية والسياسية. وفي هذا الصدد يمكن أن يقدِّم المهاجرون إلى البلاد المتقدِّمة خدمة كبيرة لا العيش فيها، ولكن بالغوص إلى أعماق تلك المجتمعات ودراسة نقاط القوة والضعف فيها، وتشخيص الثابت والمتغيِّر من خصائصها، كما يمكن لغيرهم إدراك تلك الغاية بدراسة ما كتبه روّاد "الحداثة" أنفسهم من تعريف ونقد لتجربتهم ودراسة آراء الناظرين للتجربة من غيرهم. وكل ذلك من أجل طرح بديل حضاري متقدِّم للإنسان والمجتمع المسلم المؤهّل للمسك بزمان الحضارة والتمدّن مستقبلاً، بما يمتلك من تراث عظيم ورسالة حيّة تمتلك الكثير من مقوّمات النهوض: رسالة تجمع الدين والدنيا بأحلى صورة وأفضل حياة.   المصدر: كتاب الإسلاميون على أعتاب القرن الحادي والعشرين

ارسال التعليق

Top