• ١٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الحياة مسيرة أمل وعمل

الحياة مسيرة أمل وعمل

كثيرون أُولئك الذين تلتقي بهم وتتحدّث إليهم في قضية العمل في سبيل الله، في مختلف مجالاته، فلا تلمح بينهم إلّا المتشائم الذي يرى عدم الجدوى في كلِّ ما نعمل من أعمال، وما نقوم به من مشاريع، ويرثي ـ في الوقت نفسه ـ لهؤلاء الذين يُجهدون أنفُسهم ويُفنون أعمارهم في سبيل قضيةٍ خاسرةٍ وهدفٍ خياليٍّ. فإذا استطلعت حديثه، وحاولت أن تعرف دوافع هذا التشاؤم وبواعث هذا القلق، فإنّه سيبدأ معك قصّة طويلةً، يُحدِّثك فيها عن تجاربه في ميدان العمل، وكيف تعاون مع فلانٍ فخان الفكرة، وعمل مع آخر فحوّل الفكرة إلى خدمة أمجاده الشخصية، لترفع من قدره، وتُعلي من شأنه، ومدَّ يده إلى ثالث فلم يجد إلَّا الالتواء والانحراف عن الهدف المقصود إلى أهدافٍ لا تلتقي بالفكرة من قريبٍ أو بعيدٍ إن لم تباينها.. وهكذا تتعدَّد التجارب، ويتكرّر الفشل وتتنوّع ألوانه، حتى تصبح القضية عقدةً في ضمير صاحبها؛ وينتهي به الأمر إلى أن يتجمّد ويستسلم لأعماله الخاصّة، بعد أن يكون قد اقتنع ـ في سلامة ضميرٍ وراحة وجدانٍ ـ بأنّ التكليف قد سقط، وأنّ الذمة قد بُرِّئَت، فلا حساب ولا مسؤولية، من جانب الله، أو من جانب البشر. وإذاً فعلامَ التعب؟ وإلامَ الجهد مادامت النتيجة لا تبشِّر بخيرٍ؟

وهكذا تصبح التجربة مصدر جمودٍ ويأسٍ، بعد أن كان المفترض فيها أن تعود منطلق حركةٍ وبداية طريقٍ وإشراقة أملٍ. وبدأ إخفاق التجربة عند هؤلاء وفشلها في حياتهم، يتحوّل إلى حجّة على العاملين في سبيل الله، أو الذين لا يزالون يعملون؛ لأنّهم لم يصطدموا بالتجربة، ولم يعانوا مرارة الفشل، وأصبحت من بين المبرِّرات التي يبرِّر بها المتخاذلون تخاذلهم وتراجعهم، ويتّخذونها أداةً لإثارة الروح الانهزامية اليائسة في كيان العاملين عندما يحاولون السَّير في طريق الجهاد.

ولكن.. هل هذا صحيحٌ؟

هل نفهم من هذا، أنّ إخفاق التجربة دليل فشل الفكرة، وأنّ تعثُّر الخُطى في بداية الطريق يوحي بعدم القدرة على مواصلة السَّير من جديدٍ؟ وهل يريد هؤلاء منّا أن نقف ونتجمَّد عند أوّل تجربةٍ، ونيأس عند أوّل بادرةٍ للفشل؟

تلك هي بعض علامات الاستفهام التي يثيرها موقف هؤلاء الناس، ولا تزال تبحث عن جواب. وما ندري، أن نكون مجانبين للحقيقة إذا قلنا: إنّ ما نخشاه من هؤلاء الذين يفكِّرون هذا التفكير، ويحاولون أن يُقنعوا الناس بصواب هذه الفكرة، هو أن لا يكونوا ـ هم أنفُسهم ـ مقتنعين بها من ناحية المبدأ، ولكنّهم يبحثون فيها عن المبرِّر للتقاعس وحبِّ الراحة والسلامة.

وإلَّا، فما معنى أن يكون إخفاق تجربةٍ ما، في زمانٍ معيّنٍ، ومكانٍ معيّنٍ، وظروفٍ خاصّةٍ، حجّةً على إخفاق بقيّة التجارب التي يمكن للإنسان أن يستقبلها في المدى الطويل، مع اختلاف الزمان والمكان والظروف؟!

هل نفهم من هذا، أنّهم لا يحسبون لهذه الأُمور حساباً، ولا يعتبرون عنصر الزمن في حساب التطوُّرات، وإنّما يقيسون الحاضر بالماضي، والمستقبل بالحاضر.. وهكذا يحصرون الزمن في دائرةٍ معيّنةٍ، لا تقبل التطوُّر والتجديد والتغيير؟

وبعد هذا.. لا نريد أن نهيم في متاهات النظريات، لنردَّ على هذه النظرة أو لنناقشها الحساب، بل نريد الاتجاه نحو الواقع، في محاولة استنطاقٍ لقصّة التجربة في ميدان التقدُّم الحضاري للإنسان.

أمّا قصّة التجربة في ميدان العلم، فهي قصّة الفكرة التي تتلقّى الفشل تلو الفشل، فلا تقف ولا تتراجع، بل تظلُّ صامدةً في معركة البحث لتُجرِّب وتُجرِّب، حتى تنطلق النظرية، عن طريق الصُّدفة الخاطفة، في كثيرٍ من الأحيان، أو البحث الدَّائب المعمَّق الذي يتعثّر بألف مشكلةٍ، ويتخبّط في أكثر من ليلٍ دون أن يكلَّ أو يملَّ.

وقصّة التجربة في واقع الدَّعوات الدِّينية والاجتماعية، مليئةٌ بقصص الاستشهاد والبطولة، وهي تتلقّى الاضطهاد والعسف والتنكيل من قبل أعدائها، وتواجه الصدمة تلو الصدمة، من أُولئك الذين تحاول جاهدةً أن ترفعهم إلى المستوى اللائق بهم في الحياة، وتُنقذهم من واقعهم المظلم. ويتلقّى روّادها الضربات المتلاحقة، ويسقط الشهداء في الطريق، ولكنّ الخُطى تتقدَّم وتتقدَّم، وأخيراً تصل القافلة الصامدة إلى الهدف حيث القمّة تظلُّ شامخةً في زهو الانتصار، لتجد الحياة وقد استسلمت لدعوتها، واستكانت لنظامها وتوجيهها، ولتلمح الفكرة تستوعب الحياة بكلِّ ما فيها من مجالات الفكر والعمل.

وما لنا نبعد كثيراً.. وفي حياة كلٍّ منّا ألف قصّةٍ وقصّةٍ، عن تجاربه الشخصية، وهو يشقُّ طريقه في الحياة، ويركِّز أقدامه فيها، من أجل أن يكسب قوّته، ويحفظ عزّة نفسه وكرامته ويغذِّي طموحه بالآمال الكبار والأحلام الجميلة، فلا يجد أمامه ـ في أغلب الأحيان ـ إلَّا أبواباً مغلقةً في وجهه، وأُناساً لا يحترمون فيه كرامة الإنسان، وعقباتٍ تتحدّى فيه طبيعة التحدّي والمقاومة؛ فيتعثّر طموحه في كلِّ منعطفٍ، وتتساقط أحلامه على أشواك الطريق، فلا ييأس ولا يتراجع، وإنّما يجابه المصاعب بقوّةٍ، ويواجه العثرات بصبرٍ، ويقابل اليأس والتشاؤم بالأمل، ويظلُّ يتقدَّم، وتبدأ الحياة ـ بعد ذلك ـ لتفتح له ذراعيها، فيجد عندها الطموح والحياة الكريمة العزيزة.

وهكذا كان الواقع، واقع التقدُّم الحضاري بكلِّ ألوانه وأشكاله؛ نتيجة عناد الإنسان وصلابته أمام الفشل، وصموده أمام التجربة، وعدم اقتناعه بقياس التجارب المستقبلة على ما مضى، وعدم استسلامه لدواعي اليأس والخذلان.

ولولا ذلك، لوقف الإنسان ـ حيث هو ـ في مجاهل التاريخ، لأنّ التجارب الأولى ـ عادةً ـ لا تشجع السَّائرين على مواصلة الخُطى وإتمام الطريق، بل توحي لهم بالتراجع والوقوف حيث هم في بداية الطريق. وتلك هي طبيعة الحياة، وتلك هي سُنّة الله فيها، فهي لا تعطي قيادتها، ولا تمنح كنوزها وأسرارها، إلَّا للصامدين الصابرين الذين يقابلون المأساة وهم يبتسمون، ويصطدمون بالأهوال وهم يترنّمون.

ارسال التعليق

Top