◄محاسبة النفس:
من بين هذه الآيات، قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (الحشر/ 18). تخاطب هذه الآية المؤمنين، وتؤكّد لهم أنّ الإنسان المؤمن لابدّ من أن ينطلق من خلال التقوى التي تجعله يعيش حضور الله سبحانه وتعالى في عقله وقلبه وحياته، بحيث يتحسس وجود الله سبحانه وتعالى، كما ورد في بعض الأحاديث: "خف الله كأنك تراه، فإن كنت لا تراه فإنّه يراك"... أن يشعر الإنسان بمراقبة الله سبحانه وتعالى عليه؛ رقابة تنفذ إلى داخل عقله لتتابع حركة عقلهِ فيما ينتجهُ العقل، وتنفذ إلى داخل قلبه لتلاحق نبضاته وخفقاتهِ في حركته العاطفية، ولتتابع حياته بكلّ ما فيه من مفرداتٍ تتصل بحياته على المستويين الفردي والاجتماعي.
كما يريد هذا النداء أن يستثير في المؤمنين ما تختزنهُ نفوسهم من الانفتاح على الله سبحانه وتعالى في حضوره الدائم في الكون، بحيث يتمثلهُ المؤمن في كلّ وجوده. وعلى ضوء هذا، فإنّ الإنسان عندما يتصور معنى الربوبية التي تهيمن على الأمور كلّها، ومعنى الخالقية التي منحتهُ كلّ وجوده، ومعنى الجبروت الإلهي؛ فإنّ ذلك يجعله يخشى ربّه في كلّ حياته، فينطلق ليتقي الله ويطيعه فيما أمره به وفيما نهاهُ عنه. وقد ورد في تعريف التقوى: "أن لا يراك الله حيث نهاك، وأن لا يفقدك حيث أمرك".
وهذا الأمر بالتقوى، ينسحب على ما سلف من أمور الناس، ليدرسوا كلّ ما فعلوه وكلّ ما عاشوه، دراسة دقيقة عميقة تركز على مواقع المسؤولية؛ هل أطاعوا الله في ما أسلفوا، أم هل عصوه في ذلك؟ وما الذي هيأوه لأنفسهم فيما يقبلون عليه عندما يعرضون على الله (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (المطففين/ 6)، (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا) (النحل/ 111)، (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (الإنفطار/ 19)؟! وقوله تعالى: (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) (الحشر/ 18)، هو الذي يبيّن أنّ دراسة الماضي إنّما ترتكز على عالم المسؤوليّة؛ لأنّ الله أراد للإنسان، في يوم القيامة، أن يقدّم بين يديه كلّ حياته، بكلّ سلبياتها وإيجابياتها، في كلّ نقاط ضعفها ونقاط قوتها، بقدر ما يتصل الأمر بمسؤوليته أمام الله سبحانه وتعالى في ذلك كلّه.
وعلى ضوء هذا، نستطيع أن نستوحي من الفقرة – (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) – أن لا يكتفي الإنسان بالنظر فيما قدمه، بل أن يحاول في موقفه هذا – من خلال حركة التقوى في نفسه – أن ينظر إلى ما قدمه من عمل؛ فإن كان خيراً، حمد الله على ذلك واستزاده التوفيق لأمثاله، وإن كان شراً، استغفر الله في ذلك. وهذه هي الرؤية التي تؤكد عملية الحساب الدائم للإنسان. وقد ورد في أكثر من حديث، أنّ على الإنسان أن يكون واعياً لنفسه في كلّ أعماله وأفعاله وعلاقاته، حيث يقوم بعملية محاسبة نفسه على كلّ ذلك.
المحاسبة منهج العاقل:
ففي الحديث عن النبيّ (ص): "أليس الكيّسين"، والكيّس هو العاقل، أي أعقل العقلاء "وعمل لما بعد الموت"، باعتبار أنّ ما بعد الموت هو الذي يمثل المصير الدائم الخالد: إما إلى جنة وإما إلى نارٍ، "وأحمق الحمقى"، والأحمق هو الذي لا يتحرك على أساس التوازن العقلي، "مَن أتبع نفسه هواه وتمنى على الله الأماني"، يتمنّى بأن يدخله الله الجنّة، من دون أن يؤكد ذلك بالعمل الصالح.
وفي حديث الرسول (ص) أيضاً: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا"، ومعناه أنّه لابدّ للإنسان من أن يجلس مع نفسه، كما لو أنّ نفسه هي إنسان آخر يحاسبه في ما عمل كلّ يوم، في حياته الخاصة والعامة، "وزنوها قبل أن توزنوا"، في حساب يوم القيامة. والميزان هو ميزان الأعمال، وهو الذي يؤدّي بالإنسان إلى مصيره سلباً أو إيجاباً عند العرض الأكبر على الله سبحانه وتعالى.
ويقول الإمام عليّ (ع): "حاسبوا أنفسكم بأعمالها، وطالبوها بأداء المفروض عليها" مما أوجبه الله "والأخذ من فنائها لبقائها" يعني الأخذ من الدنيا الفانية إلى الآخرة الباقية "وتزودوا وتأهّبوا قبل أن تبعثوا" حتى يبعث الإنسان وقد حزم أمره، وركّز أوضاعه، ليقرأ كتابه بشكل واثق، والله تعالى يقول: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (الإسراء/ 14).
وفي الحديث عن الإمام عليّ (ع) أيضاً: "حاسب نفسك لنفسك، فإنّ غيرها من الأنفس لها حسيب غيرك". يقول الإمام (ع)، إنّ كثيراً من الناس يشغلون أنفسهم بحساب غيرهم على ما قاموا به وما عملوه، ولكنك لست مسؤولاً عن حسابات غيرك فيما عمله؛ لأنّ غيرك سوف يقف غداً للحساب، ويتحمل مسؤولية كلّ أعماله، وأما أنت، فإنّك تواجه حساب نفسك لنفسك.
وفي الحديث عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع): "يابن آدم، إنّك لا تزال بخيرٍ ما كان لك واعظ من نفسك، وما كانت المحاسبة من همِّك". لابدّ لك من أن تعظ نفسك في كلّ ما تواجهه من أوضاع الحياة، وفي ما تتحمّله من مسؤوليات؛ ليكون حساب نفسك الهم الأكبر في كلّ ذلك.
ويقول الإمام موسى الكاظم (ع): "ليس منا مَن لم يحاسب نفسه في كلّ يوم، فإن عمل خيراً استزاد الله منه وحمد الله عليه، وإن عمل شراً استغفر الله وتاب إليه".
وهكذا نجد القيمة التربوية لمسألة دراسة النتائج السلبية أو الإيجابية لكلّ ما يقبل عليه الإنسان، وما قام به من مسؤوليات، أكملها أو قصّر فيها، حتى يكتشف من خلال ذلك نقاط الضعف ونقاط القوة عنده؛ لأنّ الأمراض النفسية والعقلية والروحية والعملية كالأمراض الجسدية، فإن استطاع الإنسان أن يكتشف المرض في بدايته، فإنّه يصبح لديه القدرة على معالجته بشكل أسهل ممّا لو اكتشفه بعد أن يتعمّق في النفس أو في الجسد، لأنّه من الصعب أن يعالجه بالطريقة التي يمكن أن يحصِّل من خلالها العافية أو الشفاء من هذا المرض. ولذلك أولى الإسلام عملية المحاسبة والدراسة النفسية اهتماماً بالغاً، لكي يستطيع الإنسان معها أن يكتشف نقاط الضعف ليحوّلها إلى نقاط قوة، وأن يكتشف نقاط القوة ليستزيد منها ما أمكنه ذلك، لأنّ هذه المسألة التربوية يتوقف عليها مصير الإنسان في نهاية المطاف.
(وَاتَّقوا الله). وهنا نسأل: لماذا كرّر الله سبحانه ذكر التقوى في بداية الفقرة وفي نهايتها؟
ربما يكون الأساس في ذلك، والله العالم، أنّه في المرة الأولى، أكّد أنّ على الإنسان أن يتقي الله في ما عمله في الماضي، ممّا يمكن أن يُنتج نتائج سلبية أو إيجابية في مستقبل الآخرة، ثمّ إذا عرف الإنسان رصيده عند الله، في ما يستقبله من العرض على الله سبحانه، ومن الوقوف بين يديه، اتّقى الله في ما يقبل عليه من أمره، وذلك يعني أنّ على الإنسان أن يتّقي الله في ما قام به، ليستغفر الله على ذنوبه، وليشكره على طاعته وعلى حسناته، ثمّ بعد أن يُحكِم أمره، وبعد أن يجمع رصيده ويتعرّف السلبيات والإيجابيات، يتّقي الله من جديد في ما يستقبل من حياته، ليطيع الله في ما أمره به، وفي ما نهاه عنه.
(إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (النور/ 53)، وهذه هي الحقيقة الإيمانية الكبرى، وهي أن يعتقد الإنسان أنّ الله خبير بكلّ ما يعمله، وأنّه (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ) (سبأ/ 3)، وأنّه (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر/ 19)، وأنّه (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ) (المجادلة/ 7)، فإذا اختزن الإنسان في نفسه أنّ الله مطّلعٌ عليه في كلّ أموره حتى وهو يفكر، وأنّه يلاحق خطوات تفكيره، انطلاقاً من الأسس التي تقود العقل إلى اكتشاف الحقّ، وإلى اكتشاف الحسن من القبيح، أو الأسس التي تقود العقل إلى الباطل، فيما يركزه من معادلات وفيما يستنتجهُ؛ لأنّ الإنسان عندما يفكر، فإنّه يشعر – عادةً – بالأمن، فقد يفكر ويخطط لعمل الشر، كما هو شأن البعض الذين يسخّرون ما أعطاهم الله من عقل في التآمر على الناس وخيانتهم، وسرقتهم، وظلمهم، وضدّ قضايا الخير لمصلحة الشر... كلّ ذلك لأنّه يشعر أن لا أحد يطلع عليه في ذلك؛ فإذا شعر الإنسان بأنّ الله يلاحق تفكيره، فإنّ ذلك يجعله يحرك عقلهُ في الخير لا في الشر، وفي الحقّ لا في الباطل، وفي العدل لا في الظلم.
كذلك، فإنّ على الإنسان أن يدرك أنّ الله يعرف نبضات قلبه، والقلب هو مركز العاطفة، وربما تتحرك العاطفة في غير ما يريد الله سبحانه وتعالى ويرضيه، وقد تتحرك فيما يرضي الله وفيما يحبه، كما ورد في بعض الأحاديث: "إذا أردت أن تعلم أنّ فيك خيراً فانظر إلى قلبك، فإن كان يحب أهل طاعة الله ويبغض أهل معصيته، ففيك خير والله يحبك، وإن كان يبغض أهل طاعة الله ويحب أهل معصيته، فليس فيك خير والله يبغضك، والمرء مع مَن أحبّ"، فإنّ الله يحشر الإنسان يوم القيامة مع الذين يحبهم ويخلص لهم، فإن كان يحب الأخيار حشره الله معهم، وإن كان يحب الأشرار حشره الله معهم؛ لأنّ الحبّ ليس مجرد نبضة في الشعور، أو خفقة في القلب، بل إنّ الحبّ أو البغض يتحول إلى حركة للإنسان في الحياة. ولهذا، لابدّ للإنسان عندما ينبض قلبه بحب إنسان أو ببغض إنسان، أو يعرف أنّ الله يطلع عليه، وأنّ عليه أن يحب مَن أحبه الله، ويبغض مَن أبغضه الله في ذلك كلّه.
وهكذا بالنسبة إلى أعمالنا العامة التي قد نعملها في حالة السر، ونحن نشعر بأنّه ليس هناك من يطلع علينا، فنأخذ حرّيتنا في ذلك كلّه، فعلينا أن نراقب الله، وأن نعرف أنّ الله سبحانه وتعالى مطلع علينا في ذلك كلّه.
الذكر الحقيقي:
(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (الحشر/ 19). تؤكّد هذه الآية أنّ على الإنسان أن يكون ذاكراً لله، لا بأن يردد اسمه في لسانه فقط، ولكن أن يكون ذاكراً له، بحيث يشعر بنوره سبحانه وتعالى، وبربوبيته، وبمسؤوليته أمامه، ويشعر بمراقبة الله له، وبحسابه له في المستقبل عندما يقوم الناس لربّ العالمين. ولذلك، فالإنسان إذا ذكر الله ذكر نفسه، وذكر ما يصلحها ويحقق لها سلامة المصير عند الله سبحانه وتعالى، وذكر محبة الله له في ذلك كلّه، وبذلك يستطيع أن يصلح أمره؛ لأنّه يشعر بأنّ عليه أن يرضي الله سبحانه وتعالى في كلّ أعماله، وفي كلّ أقوله، وفي كلّ علاقاته. أما إذا نسي الله سبحانه وتعالى ولم يذكره، لا في عقله، ولا في قلبه، ولا في حركة حياته، بل استسلم لشيطانه وهوى نفسه، فإنّ ذلك سوف يجعله يتخبّط في الظلمات، ويتحرك في كلّ ما يقوده إليه هوى نفسه التي تأمره بالسوء، وبذلك يفقد نفسه، ويفقد الخط المستقيم الذي أراده الله أن يسير عليه. وليس معنى (فأنساهُم أنفسَهُمْ)، أنّ الله سبحانه وتعالى ينسيه نفسه بشكل مباشر، بل معنى ذلك، أنّ نسيان الله يؤدي إلى نسيانه نفسه بحسب النتيجة، من باب علاقة السبب بالمسبِّب. وقد ورد في بعض الآيات: (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا) (طه/ 125-126)، من خلال نسيان الله سبحانه (وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) (طه/ 126).
ثمّ يؤكد الله سبحانه وتعالى، أنّ على الإنسان أن يعرف أنّ هناك طريقين: الطريق الذي يؤدي إلى الجنة، والطريق الذي يؤدي إلى النار، وأنّ عليه أن يختار طريق الجنة باختياره طريق التقوى، والانفتاح على الله، والإحساس بحضوره وبمسؤوليته أمامه، ورفضه طريق النار الذي ينطلق من خلال نسيان الله ونسيان مسؤوليته. يقول تعالى: (لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) (الحشر/ 20)، فعلى الإنسان أن يختار ما يؤكد له الفوز في الآخرة؛ لأنّ الذين يدخلون النار هم الخاسرون والفاسقون الذين انصرفوا عن طريق الله وتجاوزوا حدوده.
يبقى أن نشير إلى أنّه كما يُمكن أن نستفيد من قوله تعالى: (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) (الحشر/ 18)، في عملية الحساب بالنسبة إلى الآخرة، كذلك يمكن أن نستوحي منها أنّ على الإنسان أن ينظر ما قدم لغده حتى في الدنيا، فيخطط للغد في الدنيا كما يخطط للحاضر؛ لأنّ الغد يتصل بحساباته العملية في ما يتصل بالمصير. والقضية في هذه الآيات، هي أن يكون الإنسان واعياً لنفسه، واعياً لربّه، واعياً لمسؤوليته، وأن ينفتح على الحياة كلّها، ليعرف أنّ الدنيا هي مزرعة الآخرة. ►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق