◄في آخر جمعة من شهر شعبان، وقف رسول الله (ص) خطيباً في المسجد، يعدّ أصحابه لاستقبال شهر رمضان، وقد كان (ص) في خطبته تلك واضحاً في دعوة أصحابه، ومن خلالهم المسلمين جميعاً، للاستنفار، استعداداً لتحمّل الجوع والعطش وعظيم المعاناة...
وقد قرن هذا الاستعداد للصيام بأمر ثانٍ مطلوب أيضاً في شهر رمضان، ألا وهو: تلاوة القرآن "فاسألوا الله ربكم بنياتٍ صادِقةٍ، وقلوبٍ طاهرةٍ، أن يوفقكم لصيامِهِ، وتلاوة كتابِهِ".
أمّا لماذا؟ فلأنّ شهر رمضان هو شهر القرآن بامتياز، ففيه نزل: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة/ 185)، (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (سورة القدر).
والأحاديث الشريفة ما كانت لتحثّ على هذه الصّلة بين الصيام والقرآن، لولا أهمية القرآن العملية في حياة المسلم، وخصوصاً أثناء عبادة الصوم، حيث ورد: "إنّ لكلّ شيء ربيعاً، وربيع القرآن هو شهر رمضان"، ويقول الصادق (ع): "إنّ الشهور عند الله اثنا عشر شهراً؛ فقرّة الشهور شهر رمضان، وقلب شهر رمضان ليلة القدر، فاستقبل الشهر بالقرآن".
قراءة القرآن وتدبّر آياته:
فشهر رمضان المبارك هو شهر توبة وعمل وإعادة صيانة للنفس والروح، ومَن غير القرآن دليلاً ومعيناً للإنسان المسلم كي يستكمل ورشة الصيانة هذه، في حال عرف كيف يستثمر آياته، وكيف يقرأها ويتلوها ويتدبّرها؟!
فالقضية إذاً هي أن نقرأ القرآن ونتدبّر آياته، وكثيرة هي الأحاديث التي دعت المؤمنين إلى قراءة القرآن، وأعطتها توصيفات:
فهي "كفّارة للذنوب"، وهي، كما جاء: "إذا أحبّ أحدكم أن يحدِّث ربّه ليقرأ القرآن"، وهي "جلاء القلوب من الصّدأ"، و"حياة القلوب"، و"حياة العقول"، و"ستر من النّار"، و"أمان من العذاب"، وهي "الجلوس على مأدبة الله".
والجلوس إلى مائدة الله، أيّها الأحبّة، يعني أنّك لست في حضرة حاكم دنيوي. ليس المهمّ ماذا تلبس، ولا الشكليّات والرّسميات، المهم هل تُقبل على كتاب الله بذهن منفتح، وهل تقبل وقلبك خال من حسابات الدنيا، فتكون قراءتك كلّها لله عزّ وجلّ، وليس للكسب أو الاستطالة؟!
والبداية تكون دائماً من حيث يقول الإمام الصادق (ع): "اغلقوا أبواب المعصية بالاستعاذة – (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) – وافتحوا أبواب الطّاعة بالتسمية" (بسم الله الرحمن الرحيم).
بعض الناس يظنّ أنّ ثواب القراءة يكبر بقدر ما يكبر عدد الآيات، لهذا يحذّر رسول الله (ص) من قراءةٍ كهذه، ويقول: "بيّنه تبياناً، ولا تهذّه – أي تجزّه وتقطعه – هذّ الشَعْر، ولا تنثره نثر الرّمل، ولكن أفرغوا قلوبكم، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة".
لأنّه لا يمكن لقارئ همّه آخر السورة أن يتدبّر مفاتيح خزائن العلم، ولن يُتاح له بالتالي أن يعرف ما فيها، حيث يقول الإمام زين العابدين (ع): "آيات القرآن خزائن العلم"، فكلّما فتحت خزانة، ينبغي لك أن تتمعّن فيها. ووحدهم الخاشعون عند قراءة القرآن، هم القادرون على فتح تلك الخزائن. الخشوع هو المفتاح لإدراك معاني هذه الآيات، أي لتدبّر آياته.
معنى التدبُّر:
وفي معنى التدبُّر: دبّر الأمرَ يعني قلّب الأمر ونظر في معانيه المختلفة، فأنت عندما تتأمّل منظر حائط على وشك السقوط، فقد يظلّ تأمّلك في إطار المشهد أمامك، لكن عندما تذهب في تفكّرك إلى ما وراء ما تنظر، وهي أسباب السقوط ومخاطر سقوط الحائط، وما ينجم عنه، وكيف يمكن منع حدوث ذلك، فإنّك تنتقل في التفكير إلى حالة التدبّر. يعني أنت تحوّل أفكارك إلى عمل، أو إلى مخطّط عمل. فالتدبّر تأمّل وتفكير يستبطن العمل والسّلوك، وتحويل الفكر إلى برامج وخطط.
لقد دعا الله إلى تدبُّر القرآن في أكثر من آية: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا) (النساء/ 82)، (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ) (ص/ 29).
والدّعوة هنا إلى التدبُّر واضحة وجليّة. ومن هنا يقول الإمام عليّ (ع): "ألا لا خيرَ في قراءة ليس فيها تدبُّر".
أيّها الأحبّة: هناك مفاهيم سائدة لدى البعض، في تعاطيهم مع ممارسة عبادة التدبُّر هذه، فمنهم من يعتبر القرآن كتاباً لنيل البركة فقط، فيقرأونه طلباً للثواب، أو لحاجة ما، ويمرّون على الآيات مرور الكرام، ومنهم من يعتقدون أنّهم غير قادرين على فهم الآيات ومعانيها، لأنّهم لا يمتلكون المؤهّلات اللغوية أو غير اللغوية التي تسمح بتفسير كلمات الآية وفهم معانيها، وهم يخطئون، لأنّ القرآن رغم عمق مفاهيمه وسعتها، فهو سهل الفهم، ويسّره الله ليكون كذلك: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر/ 17).
وفي سورة الدّخان يخاطب الله رسوله قائلاً: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (الدخان/ 58)، ثمّ إنّ معظم آيات النّهي والوعيد والترغيب والترهيب، والحديث عن صفات الله، واليوم الآخر، والجنّة والنّار والأخلاق المذمومة والحميدة، وذمّ الظّلم والكفر، كلّ هذا وغيره من الأمور الأساسية للعقيدة، يستطيع عامّة الناس فهمها وتدبّرها، ببذل المجهود والتدرّب، والإقبال بحبّ ولهفة، وليس فقط لإبراء الذمّة...
إنّ اتّباع خطى هؤلاء القدوة أمر ممكن وسهل، فما الذي يمنعنا من أن نحوّل بعض سهراتنا إلى لقاءات وجلسات ذكر، وخصوصاً في هذا الشّهر الفضيل، عملاً بنصيحة الرسول (ص): "ما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوتِ الله تعالى يَتْلُونَ كتاب اللهِ ويتدارَسُونَهُ بينَهُمْ إلّا نزلت عليهم السكينة، وغشِيَتْهُم الرحمةُ، وحَفّتْهُمُ الملائكة، وذكرهُمُ اللهُ فيمَنْ عندَهُ".
"إن أردتُم عيش السعداء، وموتَ الشهداء، والنجاة يوم الحَسْرَةِ، والظلّ يوم الحرُورِ، والهُدى يوم الضّلالة، فادرُسُوا القرآن، فإنّه كلام الرّحمنِ، وحِرزٌ مِنَ الشيطانِ، ورَجَحَانٌ في الميزانِ.
فلندع الله أن يوفّقنا لبلوغ شهر رمضان وصيامه وتلاوة كتابه والعتق من النار والفوز بالجنّة.. وليكن دعاؤنا دعاء الإمام الرّضا (ع) في آخر جمعة من شهر شعبان: "اللّهمّ ولا تدع أمانة في عنقي إلا أدّيتها، ولا في قلبي حقداً على مؤمن إلا نزعته، ولا ذنباً ارتكبته إلا أقلعت عنه".
"اللّهمّ إن لم تكن غفرت لنا فيما مضى من شعبان، فاغفر لنا فيما بقي منه يا ربّ العالمين"..
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق