• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

البطانـــــة والمــلأ

أسرة البلاغ

البطانـــــة والمــلأ

◄تحدث القرآن كثيرا عن الملأ وبطانة السوء ودورهم في صنع القرار وإدارة المواقف، وجلب المشاكل والأزمات، وعزل القيادات عن المساحات التي يجب أن تتفاعل معها.. ووضع الحواجز، وتغيير الحقائق والتحريض على الآخرين، وتقليب الأمور على غير وجهها..

والملأ كما عُرِّف في اللغة هو: (الملأ: جماعة يجتمعون على رأي فيملأون العيون رواء ومنظراً، والنفوس بهاء وجلالاً... ومالأته: عاونته، وصرت من ملئه، أي جمعه، نحو شايعته، أي صرت من شيعته..)[1].

(ويقال ملأه على الأمر: ساعده وشايعه.. والملأ: الجماعة وأشراف القوم وسراتهم.. ويقال: ما كان الأمر عن ملأ منا: عن مشاورة..) [2].

وعرفت البطانة بأنّها: (.... والبطانة صفي الرجل يكشف له عن أسراره) [3].

(.. وتستعار البطانة لمن تختصه بالإطلاع على باطن أمرك، قال عزوجل: (لا تتخذوا بطانة من دونكم).. أي مختصاً بكم، يستبطن أموركم، وذلك استعارة من بطانة الثوب بدلالة قولهم، لبست فلاناً: إذا اختصصته، وفلان شعاري ودثاري.. وروي عنه (ص): (ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان، بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحثه عليه) [4].

ولكي يزداد القادة السياسيون والدينيون والاجتماعيون، وكذا المصلحون والمستضعفون وغيرهم وعياً وثقافة تشخيصية بمن يتخذونه بطانة ومستشاراً ومشاركاً في الرأي والقرار، ومن يشارك في صناعة القرار السليم.. استعرض القرآن على مدى مسيرة الأنبياء.. وتجارب الأمم.. دور الملأ والبطانات الذين اعتمدهم مع الطغاة والمستكبرين. وسمى حواشي ومستشاري الطغاة والمستكبرين والطبقة المتنفذة في المجتمع (بالملأ).

والدراسة الميدانية لدور الملأ، الطبقة المتنفذة، هم: (الحواشي والبطانات).. تظهر في عصرنا الحاضر انّ لها دوراً كبيراً في صنع القرارات والتأثير على القيادات ومراكز صنع القرار.. لذلك عملت دوائر المخابرات العالمية على زرع وصناعة الحواشي والبطانات التي تؤثر من خلالها في القرار والموقف.. ويشتد خطر بعض الحواشي والبطانات المدرَّبة على التخطيط للإيقاع بالقيادات والسيطرة عليها، بل وتجريدها من دورها بشتى الوسائل.. ولو بدفعها إلى المواقف التوريطية السيئة.. وانّ أخطر ما يمارسه الملأ ـ البطانات والحواشي ـ هو الإطراء والمديح والإغراء إلى حد التأليه والأوحدية، وحجز المعلومات الصحيحة، وتحسين القبيح وتقبيح، الحسن، وتقديم المعلومات الكيدية الكاذبة على المخلصين وتشويه صورتهم.. وكثيراً ما تكوّن هذه الطبقة الحواجز النفسية والموضوعية وتصنع منها جداراً عازلاً يشبه السجن ولا يستفيق كثير من صناع القرار إلا بعد فوات الأوان واشتداد الأزمات.

واستعرض القرآن نماذج من مواقف أولئك الملأ.. تلك الطبقة المتنفذة في المجتمع وصنع القرار واستعراض مواقفها من الذين يتصدون لحركة الإصلاح والتغيير ودعوة الحق والهدى.

من أمثلة ذلك قوله تعالــــى:

(لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) (الأعراف/ 59-60).

(فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ) (هود/ 27-28).

(وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) (الأعراف/ 65-68).

(وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ آلاء اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) (الأعراف/ 73-75).

(وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ * وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يُؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ * وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ) (الأعراف/ 85-92).

(وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) (الأعراف/ 127).

(وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) (القصص/ 20).

(وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ) (المؤمنون/ 33-34).

(وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ) (القصص/ 38).

لنقف أمام هذه المجموعة من البيانات القرآنية ولنحاول دراستها وتحليل مضامينها لنزداد وضوحاً بهذه الظاهرة.. فقد بدأ القرآن حديثه عن دور الملأ المواجه لنوح (ع) ومواجهته لدعوة التوحيد والتأليب عليه، وكانت النتيجة أن حالوا بين الدعوة الإلهية ومشروع الإنقاذ الرسالي وبين ذلك الجيل.. فقادهم إلى الهلاك والدمار.. فقد كانت مصالحهم وسلطتهم مرتبطة بذلك الوضع الجاهلي، لذلك كانوا يعارضون التغيير المنطلق من التغيير العقيدي والإيماني.. ويصرون ويحرضون ضد دعوة التوحيد، تلك الدعوة الإصلاحية.. ويثرون الشكوك والشبهات ويقنعون الاتباع بذلك.

وبهذا الإتجاه يتحرك الملأ في الأجيال التي تلت جيل نوح (ع).. يتحرك الملأ في قوم عاد.. يتحركون ضد النبي هود (ع) ويتهمون هذا النبي المصلح بأنه ينطلق من سفاهة وأكاذيب ليقنعوا مجتمعهم بالإبقاء على سلطانهم ومكانتهم التسلطية.. وانتهت مرحلة الصراع بالانتقام من هؤلاء المتسلطين ومن تابعهم.. وهكذا جنى الملأ.. جنى المتسلطون والمتنفذون على من تابعوهم بالهلاك والدمار، كما حل بمن سبقهم من قوم نوح على أيدي الملأ أيضاً.. وينتهي دور هذه الأمة.. أمة عاد.. وتحل محلها أمة ثمود.. ويبعث الله سبحانه صالحاً (ع) نبياً لهم.. وينطلق بدعوة الإصلاح والإيمان ويذكّرهم بفضل الله، وما وهبهم من أسباب العيش الرغيد.. من المزراع والسهولة الخصبة والقصور والبيوت الفارهة.. فيواجهه الملأ المستكبر.. ويحشد الناس ضده، وضد من آمن معه من المستضعفين.. فيسجل القرآن مقالتهم بقوله:

(قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) (الأعراف/ 75).

وما كان حال هذه الأمة من الناس إلا كحال من سبقها.. إذ قادها الملأ المستكبر إلى إعلان الحرب على دعوة الهدى والإصلاح.. فكانت عاقبتهم الخراب والدمار والفناء.. ويأتي دور أمة اخرى، أمة مدين، ويرسل الله سبحانه إليهم شعيباً (ع) نبياً مصلحاً ناصحاً.. يعمل جاهداً لإنقاذهم ومحاربة الفساد والعبث الاجتماعي فيتصدى طابور الملأ لدعوة النبوة والإصلاح، ويقطعون عليهم الطرق والآفاق، ويحرضون ضد النبي شعيب (ع) وضد المستضعفين الذين اتبعوه.. ويتحدث القرآن عن طاغية التأريخ فرعون وملئه ودور هذا الملأ في محاربة الدعوة الإلهية، وتأليهه فرعون، بل والتآمر على موسى (ع) فيخاطبهم فرعون بقوله: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ) (القصص/ 38).

إنّهم يتجاوبون مع دعوة التأليه البشري، بل ويحرّضون فرعون على قتل موسى (ع) ويصوّرونه خطراً يجب التخلص منه.. (وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) (الأعراف/ 127).

(قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) (الأعراف/ 109-110).

وكما تحدث القرآن عن الملأ ودورهم في إسناد الظلم والظالمين وتثبيت عروش الطغاة، ومحاربة دعوة الحقّ والإصلاح.. تحدث عن بطانة السوء.. عن الخاصة التي تحيط بأصحاب النفوذ والقرار والسلطة.. وحذر من أن يتسلل إلى مركز قرار الأمة (الأمة المسلمة) أحد من أعدائها وخصومها.. وهاهو القرآن يصف هذا الصنف من الناس بعد أن نهى عن فسح المجال لهم.. جاء ذلك في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * اأَنتُمْ أُولاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِــنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُــمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (آل عمران/ 118-119).

انّه ينهى عن اتخاذ البطانات، وعن المستشارين والمقربين والمحسوبين على القيادات ومراكز صنع القرار من غير المؤمنين ا المخلصين؛ جاء نهي القرآن عن اعتماد غير المسلمين المخلصين بطانات ومستشارين ومخططين لصنع القرار.

فإنّ هؤلاء يريدون الإضرار بالأمة والمبادئ والأوطان والمصالح والكيان السياسي.. ويعملون على الإضعاف والتخريب، وانهم ليضمرون العداء والبغضاء.. وكثيراً ما يصدر عن هؤلاء من تصريح وتعبير عما تخفي صدورهم من العداوة والبغضاء للناس المخلصين، وما تخفى صدورهم ضد كيان الأمة العقيدي والسياسي ومصالحها ومنافعها.. ما تخفى صدورهم أعظم.. لذا يحذرنا القرآن من أن نخدع بهؤلاء الكذابين المتملقين الذين يظهرون لنا المحبة والتوافق.. وإذا خلوا إلى شياطينهم والتقوا فيما بينهم تفجرت نفوسهم حقداً وعداءً وغيظاً، لذا يضرب القرآن لنا المثل السائر عند العرب، للمُبالغ بالحقد والعداوة.. انه يعض الأنامل من الغيظ.. انهم لا يريدون أن يسمعوا حسنة للأمة المسلمة، ولا تقدماً ولا قوةً ولا عزةً ولا تأييداً ولا نصرة، فإن رأوا ذلك سيطر عليهم الحزن وساءت وجوههم.. وإن سمعوا بضعف أو تأخر أو أزمة أو مشكلة في كيان الأمة السياسي أو العقيدي أو الاجتماعي شمتوا وفرحوا.. وذلك مؤشر على عدائهم المستبطن.

إنّ القرآن يحذر من هؤلاء أن يتسللوا إلى مواقع السلطة والاستشارة وصنع القرار ويوصي بالصبر الإيجابي.. الصبر المقرون بالعمل وتطهير الصفوف من هؤلاء الأعداء.. انّ القرآن يثقف اتباعه والمؤمنين ويحذرهم من ظاهرة الملأ، ويدعو إلى اتخاذ المؤمن الكفوء النزيه الذي يحفظ السر ويمحض النصيحة ويبذل قصارى جهده لأداء المهمة بوعي وإخلاص وتقوى وصبر.. يدعو لاتخاذه بطانة ومستشاراً.

إنّ مراكز السياسة والحكم ومواقع الزعامة والقيادة وصنع القرار في عالمنا اليوم يمارس فيه الملأ والبطانات المتنفذة دوراً خطيراً في صنع القرار وتوجيهه حتى صار من القضايا المحسوبة في التعامل مع هذه القيادة أو الزعامة والرئاسة، فيُسأل عندما يراد تقييم القيادة وكيفية الوصول إليها، والحصول على إقناعها.. يُسأل من هم الأشخاص المؤثرون في قرار ذلك القائد أو المسؤول.. فيعمل المخططون وأصحاب المصالح، أو حتى الذين يهمهم صنع القرار السليم.. يعملون على التأثير على الملأ والحواشي والبطانات.. وكلّ حسب ما يريد ويستهدف لاستحصال القرار.. ولأصحاب المال الممول للسياسة، ولأصحاب النفوذ الاجتماعي والسياسي دور خطير في تشكيلة الملأ والحواشي والبطانات التي تخدم مصالحهم.. بل وبعض القيادات التي تسمح لها أخلاقها بالفساد الأخلاقي ترى الحواشي والبطانات المحيطة بها مليئة بهذا الصنف المتناسب مع هذه الأخلاقيات الفاسدة.. حواشي الرشاوى والتجسس والجنس المحرم.. إلخ.

وكم حمل القرآن على أولئك المفسدين من القيادات والزعامات وحواشيهم.. انّ الرسول القائد والهادي للرشاد يزيدنا وضوحاً في قوله النيّر: (وما بعث الله من نبي، ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان، بطانة تأمره بالخير، وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحثه عليه).

وتلك الحقيقة التي يخبر بها النبي محمد (ص) هي حقيقة لها دلالات كبرى.. انّ بطانات الشر والسوء تحاول التسلل حتى إلى حواشي الأنبياء والصالحين من القادة.. لذا يجب الفرز بين نوعين من الحواشي والبطانات.. والقرآن الكريم والرسول العظيم محمد (ص) يزوداننا بالوعي والثقافة القيادية لنحذر بطانة السوء وحواشي الشر، ونتخذ بطانة الخير والحواشي الخيرَّة الأمينة النزيهة التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ولا تخدع صانع القرار، وتعيين على الخير والصلاح، وتساعد على إضاءة البصيرة السياسية والاجتماعية والإنسانية لصنع القرار السليم.

وكم من شخصيات سياسية واجتماعية وأصحاب زعامة ورئاسة ضللتهم ودمرتهم الحواشي والبطانات النفعية والانتهازية.

ونقرأ بياناً آخر يزيدنا وعياً وثقافة وتقوى، وهو خطاب الإمام علي (ع) إلى مالك الأشتر، واليه على مصر حين خاطبه في كتابه إليه محذراً من بطانة السوء وداعياً إلى اتخاذ البطانة الصالحة.. جاء في كتابه (ع): "انّ شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا، ومن شركهم في الأثام فلا يكونن لك بطانة، فانهم أعوان الأثمة، وأخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم وآثامهم، ممن لم يعاون ظالماً على ظلمه، ولا إثماً على إثمه: أولئك أخف عليك مؤونةً، وأحسن لك معونةً، وأحنى عليك عطفاً، وأقل لغيرك ألفاً، فاتخذ أولئك خاصةً لخلواتك وحفلاتك، ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمر الحقّ لك، وأقلهم مساعدةً فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه، واقعاً ذلك من هواك حيث وقع، والصق بأهل الورع والصدق؛ ثم رُضهمْ على ألا يطروك ولا يبجحوك بباطلٍ لم تفعله، فإنّ كثرة الإطراء تحدث الزهو، وتدني من العزة"[5].

 

الهوامش:

[1] الراغب الاصفهاني/ مجمع مفردات الفاظ القران

[2] المعجم الوسيط

[3] المعجم الوسيط

[4] الراغب الاصفهاني / المصدر السابق

[5]- نهج البلاغة/ ص702

ارسال التعليق

Top