• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التدرّج في التشريع

أسرة البلاغ

التدرّج في التشريع

(ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الجاثية/ 18).

(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة/ 48-50). (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلا) (الإسراء/ 106). ويتحدّث القرآن في الآيتين الأولى والثانية عن الشِّرعة والمنهاج.. وعن الأهواء والرغبات الشخصية.. الرغبات الغريزية والعاطفيّة والنّفعيّة الذاتيّة والطبقيّة والعنصريّة وغيرها من الأهواء التي تحرف التشريع عن مجراه العلمي، وعن الحقّ الذي يجب أن يقوم عليه. لذا، فإنّ القرآن الكريم يُحذِّر من إتِّباع الهوى في التّشريع والتّقنين، والإستماع إلى مَن يريدون تعطيل أحكام الشريعة؛ لتنفيذ أهوائهم وأغراضهم الشخصية، وتحقيق منافعهم الذاتية والأنانية. ويدعو الرسول (ص) وهي دعوة لكلِّ المؤمنين به، والسائرين على نهجه.. يدعوه إلى تطبيق أحكام الشّريعة والعمل بما أنزل الله – سبحانه وتعالى – وتحدِّي كلّ الذين يريدون تعطيل أحكام الشريعة واستبدال قوانينها. ويوضِّح القرآن أنّ الحُكم في كلِّ زمان ومكان حُكمان: حُكم القرآن ومنهجه في تنظيم الحياة البشرية وإدارة شؤونها.. وحكم الجاهلية ومنهجها القائم على الجهل وهوى النفس والشّهوات المنحرفة والنّفعيّة الذاتيّة والطّبقيّة والعنصريّة... إلخ. لذلك يرفض ويستنكر هذا الإتِّجاه بقوله: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة/ 50). لقد حوى القرآن الأُسس العامّة للتّشريع والتّقنين في مجال السياسة والحكم والقضاء والمال والإقتصاد والسّلوك الشّخصي والصّحيِّ والطّهارة والعبادة وأحكام الأسرة والميراث والحرب والجهاد والعلاقات الدوليّة والأطعمة والأشربة وغيرها.. كما حوى تفصيلات هامّة في هذه التشريعات.. وقام الرسول الكريم محمد (ص) ببيان أحكام الشّريعة وتفصيلها وتطبيقات، فبنى الدّولة والمجتمع والأسرة والحياة العامة على أسس الشّريعة وقيمها وقوانينها.. بعد ذلك جاء دور الأئمّة – عليهم السلام – ثمّ الفقهاء والمجتهدون، فاتّسعت قواعد التّشريع الإسلامي وأحكامه، وشملت كلّ صغيرة وكبيرة في الحياة.. وجدير ذكره أنّ المجتمع الجاهلي حين نزول القرآن كانت فيه قيم وقوانين ومعاملات ماليّة وأسريّة وسلوكيّة صحيحة، كالشّركة والدَّيْن والإجارة وغيرها من العقود والمعاملات، وكان بعضها باطلاً وفاسداً، فأقرّت وأمضت الشّريعة الإسلامية الصحيحة منها، وصحّحت أو حرّمت ما كان باطلاً؛ كالرِّبا والتزوّج من زوجات الآباء والمواريث وغيرها. فسُمِّيت هذه الأحكام إمضائيّة. أمّا المجالات الأخرى التي لم يكن فيها أحكام وقوانين إجتماعية صحيحة، فقد شرّع لها الإسلام القوانين والأحكام، وسُمِّيت بالأحكام التأسيسيّة. وبذا، فإنّ الأحكام الشّرعيّة تُقسم إلى قسمين: أوّلاً: الأحكام الإمضائيّة. ثانياً: الأحكام التأسيسيّة. إنّ المُشرِّع هو الله – سبحانه وتعالى – وهو الذي أوحى بالشّريعة لنبيِّه الكريم (ص) ليُبيِّنها للناس ولتعمل بها البشريّة جمعاء.. وجدير ذكره هنا أنّ القرآن جاء بمشروع تغييري، يريد أن يُغيِّر مناهج الحياة المنحرفة ويبني إنساناً ومجتمعاً وثقافةً وحضارةً ودولةً على أساس عقيدة التوحيد والإيمان بالله. وعلى أساس شريعة ومنهج وقيم أخلاقيّة وإنسانيّة متكاملة البناء والأهداف.. ونظراً لضخامة هذا المشروع الحضاري الكبير.. مشروع التغيير والبناء الشامل، فإنّه يحتاج إلى هدم قواعد وأسس التفكير الجاهلي[1] المنحرف، وإسقاط أنظمته وقوانينه المعبِّرة عن عقيدته وفكره وثقافته وسلوكيّته المنحرفة، واستبدالها بمنظومة تشريعيّة وثقافيّة إسلاميّة.. إضافة إلى ما حمل الإسلام من تكاليف عباديّة، كالصّوم والصّلاة والحجّ... إلخ. لتحقيق العبوديّة لله وحده ولإكمال عمليّة التغيير الباطني والسلوكي لدى الإنسان. ومع اعتياد النّفس البشريّة وألفتها لأنماط من السلوك وتفاعلها معها وإيمانها بها، يصعب تغييرها واقتلاعها من غير تهيئة وإعداد ومقدّمات مساعدة على ذلك. وعندما يُراد تغيير منظومة سلوكيّة ونظام حياة بأسره، فإنّ من الحكمة أن يكون التّغيير مرحليّاً وتدريجيّاً.. وذلك يحتاج إلى زمنٍ وعملٍ تغييري متواصل. لذا جاء القرآن مفرّقاً ومتتالي النّزول، مدّة ثلاثة وعشرين عاماً، وبشكلٍ مرحلي وتدريجي.. فلم يُحرِّم القرآن كلّما كان المجتمع يعمل به من أوّل نزوله: كالخمر والقمار والرِّبا و... إلخ. بل اتّبع التدرّج في تحريمه، كما أنّه لم يفرض الواجبات والتكاليف من أوّل يومٍ نزل فيه الوحي، كالصّوم والزّكاة والجهاد.. بل جاءت متدرِّجة وعلى مراحل.. وخلال فترة نزوله كانت تحدث في المجتمع حوادث فيعالجها القرآن ويضع لها الحلول.. كما كانت تطرأ حوادث ومشاكل لدى الأفراد والجماعات فيسألون النبي (ص) عنها. فيُجيب عليها القرآن.. فكان للآيات التي عالجت المشاكل والأسئلة الحادثة في المجتمع أسبابٌ.. سُمِّيت بأسباب النّزول. بدأ القرآن ومشروعه التّغييري الشّامل ببناء القاعدة الفكريّة، وهي الإيمان بالله وحده لا شريك له والتّصديق بنبوّة محمّد (ص)، وبما جاء به من وحي ورسالة، لتكون هذه القاعدة هي الأساس الذي يُبنى عليه التّشريع والفكر والسّلوك ونظام الحياة وعبادة الله وحده. حاول المشركون التشكيك بالنّبوّة والقرآن؛ لأنّه لم ينزل جملةً واحدةً؛ لجهلهم بالحكمة الإلهيّة البالغة من وراء نزوله بشكلٍ متدرِّج، وعلى فترات. سجّل القرآن هذا الاعتراض، وأجاب عليه بقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ[2] تَرْتِيلا) (الفرقان/ 32). القرآن يوضِّح في هذه الآية أنّه رُتِّل ترتيلاً.. أي نزل مفرّقاً متتابعاً شيئاً فشيئاً، ليقوى قلبك يا محمد (ص) على حفظه وفهمه والعمل به وتبليغه للناس بشكلٍ متدرِّج. ويوضِّح القرآن في موضع آخر الحكمة من تنزيل القرآن مفرّقاً متدرِّجاً.. يوضِّح ذلك بقوله: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ[3] وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلا) (الإسراء/ 106). يوضِّح أنّ نزول القرآن مفرّقاً وبشكل متدرِّج ليبلغ للناس على مُكث.. أي على مهل، ينزل تارةً، ويتوقّف تارةً.. ليسهل حفظه وفهمه واستيعابه والعمل به. ومن المفيد أن نوضِّح أنّ كلمة (تنزيلاً) – الواردة في الآية – تعني النزول المتدرِّج المتتابع. ومن الأمثلة على التدرّج في التشريع، أنّ الصوم فُرضَ في شهر شعبان بعد سنة وخمسة أشهر من قدوم الرسول (ص) المدينة المنوّرة، ولم يُفرض قبل ذلك، أي فُرض بعد أكثر من أربعة عشر عاماً من البعثة النّبويّة.. شُرِّرع الصوم بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183). وفي هذا العام تمّ تغيير القبلة إلى المسجد الحرام.. وكان بيت المقدس قبل ذلك هو القبلة التي يتوجّه إليه المسلمون في الصلاة.. وتمّ هذا التغيير عند نزول قوله تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (البقرة/ 144). ومع فرض الصوم تمّ تشريع الزكاة، وفرض القرآن ذلك بقوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ[4] عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (التوبة/ 103). ولم يأخذ الرسول (ص) الزكاة من المسلمين إلّا بعد عام من نزول الآية؛ ليصرفها في مجالاتها المحدّدة لها في القرآن. وفي بداية الهجرة شُرِّع الجهاد ولم يكن مشرّعاً قبل ذلك. جاء في أسباب النزول أنّ المسلمين كانوا يشكون إلى رسول الله (ص) ما يُصيبهم من أذى المشركين؛ من الضّرب والجراح والتّعذيب، فكان رسول الله (ص) يقول لهم: "اصبروا فإنِّي لم أؤمَرْ بالقتال، حتى هاجر رسول الله (ص)، فأنزل الله تعالى هذه الآية"[5]. والآية هي: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (الحج/ 39). ومن الأمثلة على التدرُّج في التشريع هو تحريم الخمر.. فقد جاء تحريم الخمر بثلاثة مراحل.. لأنّ شرب الخمر كان مستحكماً في سلوك المجتمع الجاهلي وكان صعب التّغيير.. فكانت المرحلة الأولى هي بيان مضارّه وخطره، ولم يفرض تحريمه، ليتعامل الإنسان بوعي وإرادة ذاتية مع هذا الشّراب المدمِّر للصّحّة الجسديّة والعقليّة. فقال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (البقرة/ 219). فلمّا نزلت هذه الآية: كفّ الكثير من المسلمين عن شرب الخمر.. ثمّ أنزل الله سبحانه آية أخرى توجب على المصلِّي أن يقوم إلى الصلاة وهو خالٍ من السِّكر.. وذلك يعني أنّ فترات طويلة من اليوم أن يكفّ فيها عن شرب الخمر ليأتي إلى الصلاة ولا تأثيرَ للخمر عليه، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا) (النساء/ 43). ثمّ أنزل الله سبحانه آية التحريم المطلق بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة/ 90). وكان هذا التّحريم على ما جاء في أسباب النّزول في السنة الثالثة من الهجرة، أي بعد ستّة عشر عاماً من البعثة النّبويّة. وشرّع القرآن تحرير العبيد لإنقاذ إنسانيّتهم وتحقيق حرِّيتهم بشكل تدريجي من خلال جعله تحرير العبيد أحد الكفّارات الواجبة مثل كفّارة القتل الخطأ وكفّارة اليمين وكفّارة الظِّهار، كما شرّع لذلك نظام المكاتبة والتدبير[6]، وفرض جزءاً من أموال الزكاة لتحرير العبيد، قال تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ[7] وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة/ 60). وأوّل دعوة لتحرير العبيد كانت في بداية نزول القرآن في مكّة المكرّمة في سورة البلد، في قوله تعالى: (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ[8] * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) (البلد/ 11-14). وسُمِّي هذا التحرير "فكّ الرّقبة" لأنّها تفكّ العبد من قيود العبوديّة. وفُرِضَ الحجّ في السنة السادسة من الهجرة.. وحين توجّه الرسول (ص) لأداء هذه الفريضة، صدّه المشركون عن دخول مكّة.. فدخل مكّة في السّنة السّابعة من الهجرة، بعد صُلح الحديبيّة الذي جرى بين النبي (ص) وبين المشركين، فقضى عمرته (ص) في تلك السّنة.. وفي السّنة التّاسعة من الهجرة، حجّ هو (ص) ومعه عشرات الآلاف من المسلمين. وفُرِضَت عقوبة الزِّنا والقذف كما تذكر الرّوايات في السّنة السّادسة من الهجرة، وشُرِّعت هذه العقوبة بقوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا[9] كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (النور/ 2). وفُرِضَ الحجاب كما تذكر بعض الرّوايات في ذي القعدة، في السّنة الخامسة من الهجرة. جاء ذلك في التّشريع في قوله تعالى: (.. وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا[10] فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ...) (الأحزاب/ 53). وحُرِّم الرِّبا في السّنة الثامنة من الهجرة، بعد غزوة الطّائف وإسلام ثقيف. جاء هذا التّحريم في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) (البقرة/ 278-279).   - العبرة من منهج التدرّج في التّغيير: إنّ هذه المنهجيّة، منهجيّة التدرّج والمرحليّة في التغيير تضع أسساً علميّة وشرعيّة بين أيدي الدّعاة والعاملين على تغيير المجتمع، من أوضاعه غير الإسلامية إلى أوضاع تقوم على أساس الإسلام، في الفكر والثّقافة والتّشريع والقِيَم والأعراف والعادات.. فإنّ مجتمعات المسلمين الحاضرة تحمل في أبعادها المختلفة أوضاعاً غير إسلامية.. ولكي يتمّ استئصال تلك الظواهر وتغييرها واستبدالها بأوضاع إسلاميّة، فهم في حاجة إلى أن يتبعوا منهج القرآن في سنّة التدرّج، رغم إنّ المسلمين جميعاً يؤمنون بالإسلام.. غير أنّ الغالبية منهم يعوزها فهم الإسلام ووعي مناهجه. والمشكلة الأخرى هي عدم العمل بالإسلام وتطبيقه شريعةً ونظاماً ومنهج حياة للفرد والمجتمع والدولة، لذا فإنّ عمل الدعاة إلى الإسلام يتركّز في التوعية والتثقيف وتعميق الوعي الإسلامي.. وتبصير المسلمين بدينهم، متّخذين من الرسول الكريم محمّد (ص)، أسوة وقدوة.. ومن القرآن دليلاً وهادياً. إنّ التّغيير كما في ثقافة القرآن ومنهجه، يبدأ من أعماق الذات الإنسانية، فما لم تتغيّر الأفكار والثقافة والعواطف والأخلاق، لا يتغيّر الوضع الإجتماعي: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/ 11). جدير ذكره، أنّ الأوضاع الإجتماعية الخارجية لها آثارها وبصماتها في سلوك الأفراد وثقافتهم، لذا فإنّ إصلاح البيئة الإجتماعية وحلّ مشاكل الإنسان الماديّة والمعاشيّة هي إحدى أهم الوسائل في إصلاح المجتمع إذا قام الإصلاح المادي على أساس قويم من الإصلاح الفكري والسّلوكي.
الهامش: [1]- الجاهلية: لا يقصد بالجاهلية الفترة التي سبقت الإسلام فقط.. بل ينطبق الوصف الجاهلي على كلِّ مجتمع لا يؤمن بالله ويعمل أعمال الجاهلية ذاتها، بغضّ النظر عن مستواه العلمي والمدني. [2]- رتّلناهُ ترتيلاً: الترتيل: إتِّساق الشيء وانتظامه على استقامة، مفردات القرآن، الراغب الأصفهاني. رتّل رتلاً: استوى وانتظم وحسن تأليفه... رتّل الشّيء: نسّقه ونظّمه، المعجم الوسيط. [3]- المُكْث: هو التوقّف والانتظار من غير عجلة. [4]- صلِّ عليهم: ادع لهم بقبول زكاتهم والمغفرة لهم. [5]- الواحدي، أسباب النّزول. [6]- المكاتبة والتدبير: شرّع الإسلام نظام المكاتبة لتحرير العبيد، والمكاتبة تعني أن يتّفق السيد والعبد على تحرير نفسه، مقابل مبلغ من المال.. ومعنى التدبير: أن يقول السيد لعبده أنتَ حرٌّ دُبُر وفاتي: أي أنتَ حرٌّ بعد وفاتي. [7]- وفي الرِّقاب: يعني العبيد تُصرف لهم الزكاة لتحرير أنفسهم. [8]- فكّ رقبة: تحرير رقبة العبد من العبوديّة. [9]- الجّلد: عقوبة الزاني غير المُحْصَن. أمّا فحكمه الرّجم.. وهناك شرائط وتفصيلات ترتبط باستحقاق العقاب. [10]- وإذا سألتموهنّ متاعاً: إذا طلبتم منهنّ شيئاً تنتفعون به؛ كالطعام أو الآنية.. "وكلّ ما ينتفع به في البيت فهو متاع"، تراجع مفردات الراغب الأصفهاني.

ارسال التعليق

Top