• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

التربية القرآنية والمجتمع (مقاربة فلسفية)

د. طراد حمادة

التربية القرآنية والمجتمع (مقاربة فلسفية)

- في المنهج:
لماذا اخترنا لموضوعنا المقاربة الفلسفية. لا يبدو في الأمر إختياراً حيادياً، بل القصد منه يتعلق بالفعل الفلسفي وعلاقته بموضوع التربية من حيث قدرة الفلسفة على معرفة كل ما يمكن معرفته لأنّ التربية فرع من فروع الفلسفة، والفيلسوف ليس لمّاس، بل لا يفلت حقلٌ في الوجود الإنساني من السؤال الفلسفي الذي من خاصيّته الجذريّة والوصول بالأسئلة إلى نهاياتها.
إنّ رجل العامّة يسأل كم الساعة؟ لكن الفيلسوف يتساءل عن الزمان كوجود حقيقي وكتاريخ إجتماعي. إنّه سؤال حيوي أيضاً لأنّ المقصود فيه حياتنا بالذات وكيف نعيشها بكل بآمالها وآلامها. والتربية جزء من الوجود الإنساني تماماً كالفن والعلم واللغة فينجم إذن أن يكون هنالك فلسفة للتربية، ترتبط في أحيانٍ عديدة بالأخلاق الجزء الرئيسي المرتبط بما ندعوه عندنا بالحكمة العملية مقابل الحكمة النظرية أو الميتافيزيقا والإنسان كما يقول كانت لا يصبح إنساناً إلا بالتربية، بل نسأل عن معناها وعن المصير الذي تعده للإنسان في هذا الكون وهي لذلك وثيقة الصلة بالدين من وجوه عديدة، ألم يثبت كانت عن طريق الأخلاق وجود الله سبحانه وتعالى فيما وجّه نقداً عنيداً لكافة البراهين الكلاسيكية التي أقامها الفلاسفة من قبل.
إنّ الفلسفة لا تكتفي بتحليل الأسئلة التربوية الكبرى التي يدرسها علم التربية، بل تفكِّر في غاياتها. عندما يصرِّح أب لإبنه "إعمل هذا من أجل صالحك"، فإنّ تحليل معنى "الصالح" هو مسبق إختيار فلسفي يصعب على أيّ علم أن يبنيه. إنّ مشكلات من هذا النوع تفضي ضرورة إلى الفلسفة ولذلك عرض كبار الفلاسفة لموضوع التربية، كجزء رئيسي من تفكيرهم.
هل يصح طرح الأسئلة الفلسفية في موضوع التربية على القرآن الكريم. إنّ ذلك يبدو في بعض النواحي أمراً ملحاً وذلك لإعتبارين:
1- الإعتبار الأول يقوم على طبيعة النص القرآني واستيعابه لكافة الأسئلة التي تطرحها الفلسفة، بل إنّ الفعل الفلسفي يجد خاصية معتبرة عند الجماعة التي يخصها القرآن الكريم بإسم "أهل الكتاب" شعب له كتاب مقدس وديانته مبنيّة على كتاب منزل من السماء كتاب أوصى إلى نبيّ وشعبٌ تعلمه من هذا النبي. إنّ ظاهرة الكتاب المقدس هي ضابطة الحياة في عالمنا هذا والهادي فيها وراء هذا العالم. إنّ الحقيقة متحصلة في القرآن الكريم "في الكتاب" والمهمة الأولى والأخيرة هي الفهم الحقيقي لهذا الكتاب. إنّ الموقف الفلسفي في هذا الوقع هو موقف تفسيري، يتم فيه فهم الكتاب وتحصيل الحقيقة المتحصلة فيه. الموقف المعاش هو في الواقع موقف تفسيري.
2- الإعتبار الثاني يتعلق بالتفسير الموضوعي (من موضوع) لنصوص الكتاب وهذا الأمر يقوم على علاقة خاصة بين العقل والقرآن، بحيث يستطيع العقل الإنساني أن يستنطق النص القرآني، بعد طرح الأسئلة التي جمعها العقل على مدى حركته في التاريخ يرى الفيلسوف الألماني هيجل في فينوميولوجيا الروح. أنّ الخطاب الفلسفي هو النتاج الأكثر تعبيراً عن حركة العقل في التاريخ، عن الروح المتيقن من ذاته، وقد جمع أسئلته ومشكلاته في نتاج الخطاب الفلسفي، ونحن وفق منهج التفسير الموضوعي، إنّما نقوم بإستجماع محصلة حركة العقل، وتحويلها إلى أسئلة كبرى، نطرحها على النص الإلهي، ونجعل الأجوبة عليها كحقائق مرتبطة أصلاً بقدرة هذا العقل على الكشف عن المعارف المتحصلة في الكتاب. إنّ جدلية العقل والكتاب والتي ترتبط أصلاً بجدلية مثلثة مصادر الفهم، هي في الواقع العقل والإمام والكتاب، تكمن في عملية مركبة، مرتبطة بدور الذي يفهم وكيفية إستخلاصه للمفاهيم القرآنية المستفادة من علاقة المفسِّر – وهنا الفيلسوف – مع النص القرآني وقدرته على استخراج المعاني والحقائق من بطون الكتاب.
هذه طريقتنا في معالجة الموضوع والتي اخترنا لها توصيف مقاربة فلسفية للتربية القرآنية والمجتمع وسنعمد إلى استخلاص الخطاب الفلسفي التربوي – من حركة العقل أو ظاهرية الروح – ومن ثمّ استخلاص الأجوبة القرآنية عليها. وإن كنّا نجد بسهولة معيّنة بخصوص استخلاص الخطاب – كعرض لتاريخ فلسفي – فإنّنا لا ندّعي القدرة على تحقيق الجواب إلا وفق وسعنا وطاقتنا المتواضعة، لأنّ الحقيقة القرآنية تقدِّم تجليها الإبستمولوجي – المعرفي – وفق قابلية المجلى ويصلح أن نقول أن هذه القابلية هي عندنا – وستبقى – خاضعة لعملية تربية وتعلم مستمرين ولا تتحقق غايتها القصوى إلا بظهور الإمام (عج) الذي هو في الوقت ذاته ظهور التجلي الكامل لمعاني القرآن الكريم.
يصعب تحديد التربية، فالكلمة تستعمل بغير أن يحصر معناها، وتلقن في الأسرة، وفي المدرسة وفي البيئة الثالثة التي يؤلفها الشارع والوسط والرياضة وحركات الشباب، وهي تتفق مع الأخلاق وتقسم إلى التربية كفعل، والتربية كتقنية، والتربية كعلم؛ وفعل التربية أقرب إلى الفلسفة. فقد نظر سقراط إليه "كصياغة للنفس الإنسانية وطبعها على الحق والخير والجمال وتحقيق مجتمع أفضل".
أمّا أفلاطون، فعنده "هي معرفة الخير وتنمية هذه المعرفة وطبع النفس الإنسانية على الحق والخير والجمال". وعند الرومان كما في الفلسفة المسيحية في العصور الوسطى كانت التربية فلسفة دينية أخلاقية، ولم تختلف النظرة إليها حتى عصر التنوير مع جان جاك روسو الذي ارتدّ إلى التربية الطبيعية كذلك مع لوك تحت تأثير بروز علم النفس وتطور العلوم الطبيعية؛ لقد تغيّر الكلام التربوي ليرسو على معاني متعددة تبرزها التعريفات التي احتوتها المعاجم الفلسفية واللغوية المعاصرة، فمعجم لالاند الفلسفي يعرِّفها: "بأنّها سياقاً يقوم في أن تتطور وظيفة أو عدّة وظائف تدريجاً بالتدريب وأن تتحسّن نتيجة ذلك السياق"، فيما يعرفها معجم روبير اللغوي.
"جميع الوسائل التي نوجه بمساعدتها تطور الكائن الإنساني وتنشئة. بأنّها النتائج التي نحصل عليها بفضل تلك الوسائل؛ فيما يركز وليم جيمس على مفهوم السلوك مخاطباً التربويين بأنّ مهمتكم التربوية تقوم أساساً وخاصة على تنشئة سلوك تلميذكم.. متخذين كلمة سلوك في معناها الأوسع، إذ تنطوي على جميع أنواع الإستجابات المطابقة للظروف التي قد تؤدي به إليها مصادفات الحياة. ورغم اكتساب هذا السلوك، فإننا لا نضطر للجمع بين التربية والتعلّم، بل إلى التمييز بينهما فالتعلّم يلقن والتربية تكتسب وهي تتعلق بالقلب والذهن معاً وتتفق مع المعارف التي نكسبها والإتجاهات الأخلاقية التي تمنحها المشاعر. وينظر الفلاسفة إلى الأسرة النواة الأوّلية، حيث التربية تتناول الفرد في عمق كيانه، وعاداته، وانفعالاته وعواطفه الأولى (القَبل – فكرية) أي أنّ التربية تسبق التعلم لذلك يقول أفلاطون أنها الفضيلة التي يكتسبها الولد أوّلاً وهي تقوم على تنشئة المشاعر الأكثر بداءة عن طريق عادات حسنة، كمشاعر اللذة والألم والعاطفة والحقد بحيث تنسجم تلقائياً مع العقل عندما يظهر فيما بعد لدى الولد.. ويرى أرسطو موافقاً معلمه، أننا نثقف مسبقاً نفس المستمع عن طريق عادات لكي نجعله يحب أو يكره مما عليه أن يكونه بشأن الأرض التي ندعوها إلى أن تستثمر البذار".
إنّ هذا التركيز بالتربية الأولى داخل الأسرة يؤدي إلى موقف من سلطة الوالدين، فإذا كان لا يملك الوالدان حق الحياة أو الموت بالنسبة للولد، فإنّما هو على الأقل يعيش وينجو من الموت بواسطتهم. لقد أثار سارتر سلطة الأسرة، فقال في الكلمات: "لا أنبل من أن نكوَّن أولاداً، ولكن كم تنطوي حيازتهم على ظلم"، ذلك أنّ هذه الحياة تمثل شكلاً مفرطاً لحق الملكية، وهو حق اعتباطي كلياً، لأنّ الأسرة لا تحمي إلا تخنق، ولا تربي إلا وهي تجمّد. وتستمد هذه المواقف من جمهورية أفلاطون ومن الإنجيل "إن كان أحدٌ يأتي إليَّ ولا يبغض أباه وأمّه..." (14 – 26). ومعروف حديث فرويد عن عقد أوديب التي تكشف كرهاً لأب والأنا الأعلى الذي يضغط باستمرار على الأنا (الإنسان).
وإذا كانت التربية تعتني إلى ذلك بالترويض والتمهير والتلقين والتعليم والتثقيف، فإنّها لا تفهم مطلقاً دون اللجوء إلى السلطة. سلطة الراشد على الولد، والعالم على الجاهل والمسؤول على غير المسؤول وتظهر باشكال عديدة منها الأمر والنهي أو أثر ذلك عند السلوكيين في تعيين مصير الولد. إعطوني دزينة أولاد في صحة جيدة وأجعل كل واحد منهم أي نوع من الإختصاصيين" يقولون وعلاقة النمو بالنماء في التربية فقد قال روسو أنّ التربية لا ترمي لنا إلى تعجيل النمو بل إلى وقايته. ونفسه روسو قال في "إميل": "أنّ المربي وزير الطبيعة ولكن مادام المجتمع شوّه الطبيعة في استمرار، فعليه أن يبذل قصارى الجهد لكي يحول دون أن يكون الإنسان الإجتماعي إصطناعياً".
لقد كان سقراط أستاذ أفلاطون وأفلاطون أستاذ أرسطو، لكن كل واحد منهما أقام نظاماً فلسفياً مستقلاً. والإكويني نفسه يقول إنّ المربي فنّان لكنه لا يشتغل على النحت في حجر. وكان رودجرز قد طرح ما طرحه الإكويني (القديس توما الإكويني) بأنّه "هل في إستطاعة الإنسان أن يعلم الإنسان"؟ وهل يعني الواجب أن أفرض على الغير خبرتي واعتقادي وعلمي وأن أحتكر حق الكلام؟ نحن أمام مسألة من نوع حق تعليم الذات، أو اللاتوجيه في التعليم، لكن السؤال الفلسفي أبعد من الغاية التقنية أو المناهجية. هل تربوية فوضوية، أو تربية تقلينية أو تسلطية، أو تربية تقوم على الحوار، هل تربية من أجل الفرد أو من أجل المجتمع، يقول لابرتونيير: إذا ما شئنا أن ننشئ أشخاصاً أحراراً، فإنّ "ما نفعله معهم يجب أن نفعله من أجلهم، ويصحّ في هذه المعادلة عكسها، بمعنى أن ما تفعله من أجلهم يجب أن نفعله معهم، بمعنى العمل على تربية النفس ذاتياً الشيء الذي أشير إليه في فلسفتنا بتزكيتها".
تبدو فلسفة كانت النقدية، كإنتاج لا ينازع في الروح الغربي بالنسبة إلى مسألة الأخلاق والتربية وعليه سنوليها أهميّة صريحة. وبالنسبة لغاية التربية عند كانت، فإنّ المهمة الكبرى للإنسان هي أن يعرف مكانته بين الخليقة على النحو اللائق، وأن يفهم جيداً ما يجب أن يكون عيه الإنسان حتى يكون إنساناً حقاً.. والإنسان لا يمكن أن يكون إنساناً حقاً إلا بالتربية، إنّه ما تصنع منه التربية وعلى النوع الإنساني أن يستخلص من ذاته وبمجهوداته الذاتية كل الصفات الطبيعية التي تكون الإنسانية في الإنسان. وكل جيل يقوم بتربية الجيل اللاحق. إنّ العناية الإلهية قد شاءَت أن يلتزم الإنسان بأن يستخلص الخير من ذاته وكأنها قالت له "إسع في الدنيا – بهذا يمكن أن يخاطب الخالق الإنسان – لقد وهبتك كل الإستعدادات للخير ومن شأنك أن تنميها وهكذا سعادتك أنت وشقاءَك أنت يتوقفان عليك".
ويجب على الإنسان أوّلاً أن ينمي إستعداداته للخير، والعناية الإلهية لم تودعها فيه تامة، بل مجرد استعدادات دون علامة مميزة للأخلاقية، "أن يثقف نفسه، وإذا كان شريراً أن ينمي في نفسه الأخلاقية، هذا ما ينبغي على الإنسان فعله".
إنّه يسعى لتحقيق مصيره وهذا لا يمكن أن يتم إذا لم يكن لديه تصور عن مصيره، بعدها يبحث كانت في صعوبة التربية وأنواع التربية ومعادها وأهدافها ومدتها التي يربطها بالوقت التي شاءَت فيه الطبيعة أن يقود الإنسان نفسه بنفسه، فيما يذهب أفلاطون إلى اعتبار التربية واجبة وصالحة حتى لسن الخمسين وأنواع التربية عند كانت فيزيائية (تربية الجسم) والتربية العقلية، وهو يؤكد على ضرورة العمل وتربية ملكات النفس الدنيا والعليا. كما يربط بين التربية الأخلاقية والدين، لكنه يحمل على فكرة الثواب والعقاب في التربية ويؤكد على واجبات الإنسان نحو نفسه، وواجباته نحو الآخرين وتعليم الحقوق بالسؤال والجواب، في عودة إلى مفهوم الرعادة السقراطي.
هذه الخلاصة الموجزة للموقف الكانتي من التربية، تفتح الباب للدخول إلى الفلسفة التربوية الإسلامية وكيف استندت إلى المفهوم القرآني للتربية في تعيين مبادئها العامّة.
يرتبط مفهوم التربية في الإسلام بمجموعة مصطلحات قرآنية كالأخلاق والعلم والآداب وكل واحدة منها تشد من أذر الأخرى، وترتبط ميتافيزيقاه بالتوحيد، بإعتبار أنّ الله سبحانه وتعالى قد استخلف الإنسان على هذه الأرض وجعله مناطاً للتكليف بحكم ما أكرمه الله به من عقل وقابلية للتعلُّم. جاء في سورة البقرة الآية 30 – 31: (وإذ قال ربُّك للملائكَة إنِّي جاعل فِي الأرضِ خليفَةً * قالوا أتجعلُ فيها مَن يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبِّح بحمدك ونقدس لك. قال إنِّي أعلم ما لا تعلمون. وعلَّم آدم الأسماء كلّها ثمّ عرضها على الملائكة فقال إنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا عِلمَ لنا إلا ما علّمتنا إنّك أنت العَليم الحكيم).
وأرسل الله الرُّسُل إلى البشرية لينقلها من حقبات الظلمات إلى النور، ومن الجهالة إلى المعرفة عن طريق الكتاب والحكمة والتربية (ربّنا وابعث لنا فيهم رسولاً يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة إنّك أنت العليم الحكيم) (البقرة/129)، وقال تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنّا به كلُّ من عند ربِّنا وما يذَّكَّر إلا أولوا الألباب) (آل عمران/7). ولأمر ما اقتضت حكمة الله تعالى أن تكون أوّل آياتٍ تنزل في القرآن الكريم (إقرأ باسم ربّك الذي خلق خلق الإنسان من علق إقرأ وربّك الأكرام الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم) (العلق/1-5)، ولذلك سُمِّيت الأمّة الإسلامية بأمّة إقرأ. أُمّة العلم والمعرفة والنور وطريق العبادة، طريق العلم والهداية وعمارة الأرض:
- (إنّما يخشى الله من عباده العلماء) (فاطر/28).
- (الرحمن علّم القرآن خلق الإنسان علّمه البيان) (الرحمن/1-4).
- (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلّمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً) (النساء/113).
- (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أُنزل إليك من ربِّك هو الحقَّ ويهدي إلى صراط العزيز الحميد) (سبأ/6).
- (قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومَن عنده علم الكتاب) (الرعد/43).
- (فسألوا أهل الذِّكر إن كنتم لا تعلمون) (النحل/43).
- (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) (العنكبوت/43).
التربية الإسلامية تقوم على العلم والمعرفة وهما مادتها الخام. وتؤكد على العمل الصالح حتى ليقرن الإيمان دائماً بالعمل ونؤكد التعلم عن طريق العمل، كما نؤكد على الخلق والسلوك.
فهي تربية خلقية تغيَّر السلوك نحو الأفضل، قال تعالى: (ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح مَن زكّاها * وقد خاب من دساها) (الشمس/7-10)، وقال تعالى: (إنّ الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم) (الرعد/11). هذه تربية ربّانية ليست طبيعية ولا مستفادة من أسئلة الرعّادة السقراطية وإن كانت وثيقة الصلة بالنفس الإنسانية ولذلك تختلف في وجوه معيّنة عن التربية عند فلاسفة الغرب، وتجيب على أسئلتها الكبرى من حيث الأهداف والطبيعة والمحتوى والسمات والأثر العملي ولأنّها تربية ربانية تسير في طريق القرآن وطريق الإسلام كدين للحياة الدنيا والآخرة، كدين شامل لكل مسائل الحياة، يتناول حاجات الفرد والمجتمع والإنسانية جمعاء وغاية الدين الإسلامي إسعاد الفرد في الدارين. وينبثق عن أهدافها الكبرى أهداف محددة تدور في إطار التقوى والفلاح، وهي:
1- تربية الفرد الصالح في ذاته، آخذة بعين الإعتبار جميع أبعاد النمو: الروحية، الإنفعالية، الإجتماعية، العقلية والجسمية.
2- تربية المواطن الصالح في الاسرة المسلمة، والمجتمع المسلم.

3- تربية الإنسان الصالح للمجتمع الإنساني الكبير.

وهذه النفس الزكيّة التقيّة التي توجدها التربية القرآنية في الفرد، تعيش في طمأنينة وسلام دائمين مع الله خالقها، ومع صاحبها ومع الأسرة، والمجتمع المحلي ومع الإنسانية في العالم الكبير، وهكذا تسهم في تحقيق الأهداف الفرعية من تكوين للفرد وللأسرة وللمجتمع وللإنسانية.
ويعيّن الباحثون في التربية الإسلامية أهداف مميزة بها عن غيرها، منها: الخلق الهادف وهو عبادة الله سبحانه في أوسع معانيها والوحدة والشمول من حيث النمو المتكامل للفرد في إطار المجتمع والعالم والتوازن الدقيق بين النظرية والتطبيق توازناً في تنظيم المعرفة الإنسانية المفيدة، وهي إلى ذلك تربية إيمانية وتربية عملية، وتربية علمية وتربية خلقية وتربية إجتماعية وتؤكد على إلزامية التعليم، واستمرارية التعليم وتكافؤ الفرص، وطريقة الحصول على المعرفة، وضوابط أخلاقية لإستعمال المعرفة وهي قادرة بهذه الميزات والسمات أن تواجه التحديات المعاصرة، وأن تقدم رؤية صالحة للمستقبل. إنّ التربية القرآنية جواب على أسئلة الوجود، لأنّ القرآن الكريم كتاب الوجود، ولأنّنا في تدبرنا للقرآن والعمل بما أمرنا الله به، إنّما نقيم فلسفة تربوية متحركة صالحة لكل زمان ومكان متفتحة على نتاج العقل الإنساني واجتهاده في استنطاق القرآن في عملية مثلثة تقوم على الحوار الدائم بين العقل والقرآن الكريم.
استفاد الفلاسفة في الإسلام من القرآن الكريم، وقدموا في إنتاجهم الفلسفي الأخلاقي والتربوي إجابات صريحة على الأسئلة والمشكلات التي طرحت في الفلسفة الغربية. والعلماء الذين كتبوا في مسائل التربية والأخلاق، هم كل من الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة والصوفية والعرباء، ونجد إنتاجاً متنوعاً في مقاربات متنوعة عند كل منهم، لقد بحثوا في الأخلاق والآداب والعلم والحقوق والتربية والسلوك وتزكية النفس وهي مسائل مترابطة متعلقة بجوهر إشكالية التربية من الناحية الفلسفية. لقد استخرج الفقهاء في مجال التربية الإجتماعية – على سبيل المثال – مبادئ خمساً أسموها بدهيات أو مسلمات رأوا أنها تركز ضبط عملية الفرد في قلب فئته الإجتماعية وضبط الفئة في قلب الجماعة وضبط الجماعة في قلب الأُمّة. إنّها الحقوق الخمس: حق النفس، وحق العقل، وحق الدين، وحق العَرض، وحق المال. والواضح أنّه وإن كانت حقوق فردية، لكن المجتمع هو مكان ممارستها.
في الآداب، تحدث العلماء عن اعتبار الآداب في الحلال، إذ لا أدب للحرام، فلا أدب للكذب ولا للزنى، ولكن يوجد أدب للصدق والصلاة، وتحدثوا في مجال العلم، عن فضيلة العلم وارتباطه بالأخلاق، وعن آداب المعلم والمتعلم وآداب العلوم المختلفة.
وفي مجال السلوك وتزكية النفس، كان للصوفية باع طويل. فسعى الإنسان بين مقامي أحسن تقويم وأسفل سافلين شاهد على الآية الكريمة (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين) (التين/ 4-10).
ويشرح كمال الدين كاشفي هذه الآية "إنّ الله خلق الإنسان جاعلاً منه أكمل شكل وأتم صورة لتجليه وأرحب مسرح وأعم مقام لولايته وذلك من أجل أن يصبح حامل لواء الأمانة الإلهية ومعينها الذي لا ينضب ثمّ إنه يقرن بين أسفل سافلين وعالم النوازع الطبيعية والإستهتار الخلقي لينحدر الإنسان بهذه (التربية السلبية) إلى الدرجة الدنيا بعد كماله الفطري".
لصدر الدين الشيرازي كتاب بالفارسية (الأصول الثلاثة) وفيه يقول أنّ النفس حقيقة الإنسان، كما يظهر عن جانب اجتماعي لحركة النفس يتضح من خلال تصرفات العارف في المجتمع، ويرتكز إلى القرآن الكريم فيقدم أهل القرآن على الفلاسفة بحيث العارفين ثلاثة أنواع:
1- أهل القرآن.
2- الفلاسفة.
3- العوام.
ويخاطب العارف في بداية رسالته بدعوة التمسُّك بالقرآن والرداء المحمدي، يقول شعراً:
منذ أن ولد ليلُ العدم يوم الوجود      لا يذكر شمساً كهذه الشمس
أيُّها الفارق ناحلاً ذليلاً خجلاً          في جحيم الجسم وجهنم القلب
تعالى من بعض الجسد                  إلى منبر الروح
تعالى لمشاهدة حدائق القرآن          ألا فقم وتعلق بالرداء المحمدي
ويكتب أيضاً: قلت مرّات وأقول مرّة أخرى بأنِّي بلا قلب لا أطوي الطريق بنفسي لكن جعلوني وراء المرآة كمثل الببغاء.
كل ما قال أستاذ الأزل (قله) أقول: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومَن اتبعني).
وقبله قال إمام الموحدين علي بن أبي طالب (ع) في وصايةٍ له عن الرسول (ص): "عليكم بكتاب الله، فيه نبأُ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكمُ ما بينكم، هو الفعل ليس بالهزل، ومَنْ اتّبع الهدى في غيره أخلّه الله، ومَنْ دعا إليه هُدى إلى صراطٍ مستقيم".
يتضح أنّ حوار العقل والقرآن، بلغ في الإسلام غاية حققت الإجابة على الأسئلة التي طرحتها فلسفة التربية في مصدرها، وموضوعها وسلطتها وغايتها وطرائقها من خلال البحث في الأخلاق والعلم والحقوق والآداب والسلوك وأحوال النفس، وهي أجوبة تثبت أنّ السؤال الفلسفي بلغ مراحله العالية والتي تفتح أمامه طريق الصيرورة، طريق الحفظ والقيام التي يرسمه حوار العقل والإمام والقرآن.


المصدر: كتاب مباحث في الفلسفة الإسلامية المعاصرة

ارسال التعليق

Top