◄إنّ أُمّة كأُمّة الإسلام لا تحتاج في الأصل إلى مَن يبرهن لها على ضرورة التمسّك بالخلق القويم، ولا إلى مَن يبرهن لها على أهمية الحيوية الروحية، لكن تهمش الأنشطة الروحية، والضغوط الرهيبة التي تتعرّض لها المبادئ الأخلاقية، والصعوبات الحياتية التي تواجه كل مَن يرفض المساومة على أخلاقه واستقامته، كل ذلك جعل لفت الأنظار إلى (مركزية) الأخلاق في أيّة تنمية متكاملة، أمراً بالغ الأهمية.
ولعلنا نسلط الضوء على ما يوضح ما نعتقده من إعطاء التنمية الروحية والأخلاقية العناية والإهتمام في الحروف الصغيرة التالية: 1- بما أنّ النبي (ص) هو النموذج الأسمى لإجتماع المبدأ والسلوك، فإنّ أعظم المسلمين شبهاً به هم أولئك الذين ضاقت الهوة بين سلوكهم وبين مبادئ الإسلام وآدابه وتوجيهاته السامية. وقد عبَّر عن هذه الحقيقة بشكل جلي قوله (ص): "إنّ من خياركم أحسنكم أخلاقاً"[1] ، وقوله: "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم"[2]. فالنبي (ص) هو المقياس التام للخيرية والكمال، وحسن الخلق هو الذي يدني المسلم من كمال الإيمان وتمام الخير. إنّ ظاهرة النفاق التي تحدّث عنها القرآن الكريم والسنّة النبويّة بشكل مطول، تعني خللاً في مطابقة الأقوال للمعتقدات، وهذا هو النفاق الإعتقادي الذي يُخرج صاحبه من الملة. أمّا التباين بين الأقوال والأفعال، فإنّه يُعبَّر عنه بـ(النفاق العملي) وهذا يقع في سلوك المسلم. وكلا النوعين مذموم، وفيه خروج ومخالفة للمبدأ أو المعتَقَد. ومهمة التنمية الأخلاقية تطهير حياة المسلمين من رجس النفاق، وانحطاط الهمجية والإنحراف. 2- إنّ أهم مصدر للسعادة والهناء انسجام واقع المرء مع ما يعتقد، حيث يشعر المرء بتيار يجتاحه من البهجة والإرتياح والأمن كلما تخطى عقبة من العقبات التي تحول بين وبين (التماهي) مع مُثُله وقيمه العليا. إنّ الملذات لا تخترق غشاء القلب، بل ولا تحوم حوله، لكن الذي يسربل كيان المرء كله بالسرور والطمأنينة هو نشوة الإنتصار على الأهواء والمغريات وضغوطات الشهوات والمصالح. إنّ السعادة لا تُجلب أبداً من الخارج، وإنّما هي شعاع من نور، يولد ويكبر في داخل الإنسان، ويضيء جوانب الحياة كلها، ويجعلها أكثر اتساقاً ومنطقية، وأكثر تهيؤاً للنمو والتقدم والإستمرار، وكل ذلك مرهون بأوضاع تسود فيها الأحكام الأخلاقية، ويعلو فيها صوت الإلتزام والإستقامة، وترفرف في أرجائها إشراقات الروح! 3- إنّ القاعدة الروحية الأخلاقية في أي مجتمع هي التي تتحمّل الأثقال التي تنتج عن طبيعة الحياة المادية والإجتماعية، وعن الإنتكاسات التي تصاب بها الأُمّة في ميادين الحياة المختلفة. إنّ هذه القاعدة هي التي تمكن الناس من تحمل لأواء الظروف الصعبة دون أن يتحللوا أو ينحرفوا؛ فحين يُصاب الناس بضائقة إقتصادية شديدة، فإنّ القاعدة الأخلاقية تدفعهم إلى إغاثة الملهوف وإطعام الجائع، والصبر على المدين المعسر، إلى جانب التماسك الشخصي، وعدم الرضوخ لمقتضيات الظروف الصعبة؛ فنجد المسلم يمتنع عن الرشوة والسرقة والغش وكل أنواع الكسب المحرم مع ما فاقته الشديدة، وذلك اتكاءً على ما لديه من قيم ومقاومة روحية لدواعي التحلل! إنّ هذه القاعدة هي الرصيد الإحتياطي الضخم الذي تعتمد عليه الأُمم في ترميم العديد من جوانب شخصيتها وحياتها. ومن هنا ندرك حجم الجريمة التي ارتكبت في حق هذه الأُمّة حين دُفعت دفعاً على مستوى التنظير، وعلى مستوى العمل إلى أن تجعل القيم الأخلاقية والروحية في المرتبة الدنيا من إهتماماتها؛ فلمّا واجه الناس ما واجهوه من ضائقات في العيش، ومن شح في متطلبات الحياة الكريمة، لم يجدوا لديهم سنداً خلقياً قوياً يعتمدون عليه في الصمود أمام المغريات ومحفزات الإنحدار المختلفة! 4- إنّ الذين نكنَّ لهم عظيم الإحترام ليسوا أولئك الذين يملكون الكثير من المال أو الدهاء والمكر أو القوة الجسدية الخارقة، وإنّما أولئك الذين يملكون خلق (التسامي) والترفُّع عن سفاسف الأمور، وأولئك الذين انتصروا على التحديات داخل نفوسهم، وأولئك الذين يملكون قوة الإنتظار والتضحية بالعاجل في سبيل الآجل، والإيثار مع مسيس الحاجة... إنّ بالإمكان القول: إنّ طابع الرقي الحقيقي هو طابع روحي أخلاقي، أكثر من أن يكون طابعاً عمرانياً تنظيمياً، والجاذبية التي تتمتع بها القرون الأولى من تاريخ الإسلام تنبع بشكل أساسي من طابع الإستقامة والنبل والتضحية، وليس من التفوق في الحروب أو العلوم أو العمران. ولعل الطريق الوحيد إلى كسر أغلال التبعية يكون عن طريق إحداث (إنتفاضة) روحية أخلاقية يستعلي بها المسلم على المعطيات المادية للوضع الحضاري الراهن، ويلتفت إلى إثراء حياته بوسائل، لا تحتاج إلى المال. 5- إنّ دراسة الحضارات توقفنا على حقيقة كبرى، وهي أنّ مصير الإنسان كان يتوقف دائماً على أمرين: علاقته بربّه، وعلاقته بأخيه الإنسان[3]. والبُعد الروحي الأخلاقي هو المركز والمحور في هاتين العلاقتين. وحين ينحطّ الإنسان يتحوّل عن عبادته لربّه إلى عبادته لذاته وشهواته، وتسود علاقتَه بالآخرين القوةُ بدل الرحمة، والتعانف بدل التفاهم، وينصرف عن العناية بالروح إلى العناية بالجسد، وعن الإهتمام بالمبدأ إلى الإهتمام بالمصلحة، ويتحوّل المجتمع كله إلى غابة يحسّ كل واحد فيها أنّ من حقّه إفتراس الآخرين، كما أنّه من الممكن أن يكون فريسة لأي واحد منهم "آكلٌ اليومَ ومأكول غداً"! والطريق الوحيد للحيلولة دون هذه الحالة يكمن في تدعيم الرقابة الذاتية وتعزيز علاقة العبد بربّه – جلّ وعلا – وتحفيز الإرادة الخيرة في الناس. وهذا الحل وإن كان مكلفاً على المدى القريب، فإنّه سفينة نوح على المدى البعيد! لن يكون بإمكان أفضل النظم الإجتماعية، ولا في إمكان أقسى العقوبات الصارمة أن تُقوِّم الإعوجاج، ولا أن تملأ الفراغ الناشئ من ذبول الروح، وإنحطاط القيم؛ فالعقوبات لا تنشئ مجتمعاً لكنها تحميه. والنظم مهما كانت مُحكَمة ومتقَنة، لن تحول دون تجاوز الإنسان لها، وتأويلها بما يجهضها، وكل الحضارات المندثرة تركت تنظيماتها وأدوات ضبطها خلفها شاهدةً على نفسها بالعقم والعجز! 6- لابدّ أن نكون على يقين من أنّ تيار الشهوات والنزوات الجارف لا يمكن أن يقابل إلا بتيار روحي متدفق من المشاعر والأحاسيس الإيمانية؛ فوظيفة الفكر الدلالة على الطريق، وعلى الأساليب والأدوات المناسبة للعمل؛ لكن الذي نستمد منه الطاقة على الإندفاع في طريق الخير، والطاقة على كبح جماح الشهوات هو الروح والإيمان العميق ورصيدنا من المشاعر الحميمة! وإنّ كثيراً من الشباب الذين جرفهم تيار الجنس والمجون والخلاعة لم يكونوا بحاجة إلى أدلة على فضل العفّة والإستقامة، وإنّما كانوا بحاجة إلى شيء من المعاني التي تفيض على القلب بسبب تذوق طعم العبودية الحقّة والإحساس الصادق بمعية الله – تعالى – لهم وإطلاعه عليهم! 7- حين يبلغ التقدُّم التقني أقصى مداه، ويشعر المرء بالتخمة من أدوات (التحكُّم عن بُعد) وكل ما يجعل الحياة خالية من التحديات، آنذاك تنبعث أشواق قديمة جديدة، هي أشواق الروح وماوراء المادة، عالم العودة إلى الترحُّم والتعاطف والتضحية ببعض المكاسب من أجل إستمرار حياة الجميع. إنّ الأخلاقيين اليوم هم المستقبليون غداً، وهل يُعرف فضل الماء إلا عند اشتداد الظمأ؟! إنّ الإسلام يعلمنا أنّ بالإمكان تصحيح المسار قبل أن نرتطم بقاع الهاوية، كما يُعلِّمنا أنّه بإمكاننا أن نتحوّل من الخسارة إلى الربح قبل أن يصبح رصيدنا صفراً؛ وذلك إذا أصغينا إلى نداء الفطرة في أعماقنا، وضغطنا على بعض حاجات الجسد من أجل إنعاش الروح، وفكَّرنا ملياً بما هو آت!. الهوامش:[3] انظر مختصر دراسة التاريخ: 128:4.
المصدر: كتاب (مدخل إلى التنمية المتكاملة.. رؤية إسلامية)
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق