• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

حاجتنا إلى ما يملأ عقولنا بالنور

العلامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله

حاجتنا إلى ما يملأ عقولنا بالنور

◄بين الفكر النظري والإيمان العمليّ:

في القرآن الكريم حديثٌ عن نماذج من الناس، يوجدون في كلِّ زمانٍ ومكان.. وهذه النماذج عندما تدرس حاضرها أو ماضيها، فإنَّك تجد أنّها تملك العلمَ الذي قد لا يرقى إليه علم، والمعرفة الدينية الواسعة في حلال الله وحرامه. وإذا ما انفتح الإنسان على آفاق علمهم، فإنّه قد يرتفع إلى الله ويقترب منه سبحانه، ولكنّ مثل هؤلاء قد تأتيهم في مستقبلهم حالاتٌ ضاغطةٌ صادرةٌ من غرائزهم وأطماعهم ومن الناس الذين يوسوسون، فنراهم يتركون كلَّ علمهم وراء ظهورهم، ويلتفتون إلى الشيطان، فيستمعوا إلى وسوسته، ويتحرّكون خلف خطواته، وينقادون إليه في نداءاته، فتتحول أفكارهم من أفكار رحمانية إلى أفكار شيطانية، وتتبدّل خطواتهم من خطوات في الطريق المستقيم إلى خطوات في الطريق المنحرف، وتُصبح أمانيّهم التي كانت تبحث عن رضى الله للحصول على الجنّة، إلى أماني تبحث عن رضى المستكبرين طمعاً في عَرَضٍ زائل يستمتعون به في الدنيا.

هؤلاء، لم يصبح العلم عندهم حالةً إيمانية في كيانهم، وإنما كان مجرّد حالة عاشت في الفكر وقتاً ما، ولكن لم تثبت وتستقر في مشاعرهم وأحاسيسهم ووجدانهم وحياتهم. حيث هناك فرقٌ بين أن يعرف الإنسان الشيء وبين أن يعيشه، وهناك فرقٌ بين أن يعرف ربَّه وبين أن يحبَّ ربَّه، وبين أن يعرف الخير، ويعيش في مشاعره معاني الخير.. وهكذا، هناك فرقٌ بين الفكر النظري وبين الإيمان العمليّ.

ولذا، فإننا نحتاج إلى علم يملأ عقولنا وينير الطريق أمامنا، وإلى إيمان ينطلق من إرادتنا ووجداننا ليملأ كلّ كياننا، فيكون كلُّ واحدٍ منا، مسلماً بكلِّ وجوده وحياته وكيانه، بحيث إذا رآه الناس، رأوا الإسلام، تماماً  كما نعرف عن رسول الله (ص) بأنّه كان الكتاب الناطق، والقرآن هو الكتاب الصامت، وكذلك ما نعرفه عن عليٍّ (ع) والأئمة – عليهم السلام – من بعده، بأنّهم الكتاب الناطق والقرآن، الكتاب الصامت. لأنّ سيرتهم وحياتهم مثّلت القرآن بكلِّ معانيه، ولذلك، فإن نطقوا (ع)، فكأنَّ القرآن نطق من خلالهم، وإذا تحرّكوا، فكأنَ القرآن تحرّك من خلالهم.

 

نموذجٌ ضالّ:

ونعود إلى القرآن الكريم، لنستعرض واقع النموذج الذي تحدّث الله تعالى عنه، والذي لم يحوِّل العلم إلى حالة إيمانية وجدانية، فخسر الدنيا والآخرة. يقول سبحانه: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الأعراف/ 175-176).

جاء في التفاسير أنّ شخصاً في التاريخ يدعى (بلعم بن باعوراء) أعطاه الله تعالى الاسم الأعظم، ولكنّه ترك هذا الاسم الأعظم، واتبع شهواته وأطماعه. وأيّاً كان هذا الشخص، فإنّه نموذجٌ موجودٌ في كلِّ زمانٍ ومكان، وعلينا عندما نواجه هذا النموذج الذي يملك علم الدين والمعرفة بالله، ألا نستسلم له ونكتفي بذلك، لكي نُقبل عليه ونسير وراءه، بل ينبغي أن نرصد موقع علمه من حياته، وموقع معرفته بالله من وجدانه وروحه، لنتساءل، هل يجسّد علمَه في عمله، وهل تتجسّد معرفته بالله في علاقته مع النّاس، فيعيش على أساس محبة الله والخوف منه، أم يعيش على أساس الخوف من الشيطان والمحبة له؟ وذلك لنحمي أنفسنا من الذين يعلمون ولا يعملون، ومن الذين يقولون ولا يفعلون، وهؤلاء الذين يقولون ما لا يفعلون، يملكون علم ما يقولون، ولكنّهم لا يحوّلونه إلى عمل، وقد قال الله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف/ 2-3)، فالله تعالى يمقت الإنسان الذي تعارض قولُه مع عمله، مقتاً يمثّل أكبر المقت.

ونأتي الآن إلى هذا النموذج الذي حدّثنا عن القرآن الكريم، لنتعرف من خلاله على كثير من الناس، ولنعرف ميزان الحقّ والباطل حتى نستطيع أن نحكم على الناس. (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا) (الأعراف/ 175)، أعطيناه آياتنا التي تدلُّ على الله وتشير إلى الرسالة التي تتحرّك في ساحات التقوى، وتقود الإنسان إلى الخطِّ المستقيم.. آتيناه هذه الآيات، (فَانْسَلَخَ مِنْهَا) كما ينسلخ الإنسان من ثوبه، أو كما تُسلخ الشاة من جلدها، ومعنى انسلخ منها، أنّه لم يحتضنها ولم يعشها في حياته (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ) إنّ الشيطان كالعدوِّ تماماً، فالعدوّ عندما يرى الإنسان الآخر مُسلَّحاً وحَذِراً وتكون عيونه راصدةً لكلِّ ما يتحرّك حوله، فإنّه لا يقترب منه، ولكن إذا غفل الإنسان عن سلاحه، واسترخى، واضعاً الحذرَ والانتباه والترصّد جانباً، فإنّ العدوّ يدخل إليه من هذه الثغرة فيتبعه لينال منه.. ومن هنا، فإنّ التعبير القرآني لم يقل، فاتّبع الشيطان، بل قال: (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ) فهذا الإنسان عندما انسلخ عن آيات الله، تَبِعه الشيطان ليأخذه في النهاية، تماماً كما يتبع الإنسان إنساناً آخر فيأخذه في طريق يغويه ويضلّه (فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) وقع في حضن الشيطان وشِراكه، وسار في طريق الغيّ والضلال.

 

ويخلد إلى الأرض:

وعن هذا النموذج يقول سبحانه: (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا) فلو أراد الله تعالى أن يجعل هذا الإنسان رفيع المستوى بآياته سبحانه لرفعه، ولكنه أبى ذلك، وهذه الآيات، هي التي تدفعه لأن يرتفع بأخلاقه، لتكون له الأخلاق العليا، ولأن ترتفع بروحه، لتكون روحه في مواقع السموّ، ولأن يرتفع بدرجته، لتكون درجته قريبة من الله، فآيات الله تعالى تفعل ذلك بالإنسان لو أراد استخدامها (وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ) استراح للأرض واستغرق في شهواتها ونزواتها وأطماعها. والإنسان عندما يستغرق في أجواء المادة والأرض، فإنّ من الصعب أن يرتفع إلى السماء، لأنّ السماء تبارك للعقل الذي يفكّر في الأعالي، وللروح التي تفكِّر بالله والجنّة. وعلى هذا، فالإنسان الذي تكون جنّته بستاناً يملكه في الدنيا، وتكون طموحاته محصورة في رضى الناس عنه، كيف يمكن له أن يرتفع إلى السماء؟

وهكذا نلاحظ عمق التعبير القرآني (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ) اعتبر أنّ الأرض كلُّ شيء ولم يرفع عينيه إلى السماء ليرى الآفاق الواسعة، بقي في الحضيض (وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) انحصر حلمه وهدفه في الحياة في أن يحقّق لنفسه هواها ومشتهياتها، خاضعاً لانفعالاته من دون قاعدةٍ ثابتة راسخة يقف عليها، يميل مع الريح كيفما مالت، ويظلُّ مهتزّاً في كُلِّ جوانب حياته، بعيداً عن قاعدة الإيمان بالله تعالى، هذه القاعدة التي إذا ارتكز عليها الإنسان، فإنّ الأحوال وإن تغيّرت، والرياح وإن اشتدتّ، فإنّه يبقى ثابتاً عند مواقفه من دون اهتزاز.

وهذا الذي اتّبع هواه (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) عندما استحوذ عليه الشيطان ومشى في طريقه، وترك علمه ودينه، صار مثل الكلب الذي إن تحمل عليه ينبح أو تتركه ينبح، لأنّ النباح جزءٌ من طبيعته، وهكذا بعض الناس الذي يتطبّعون بالنباح، بنباح أهوائهم وشهواتهم وأحقادهم وضغائنهم هؤلاء (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) (البقرة/ 7)، وإنما صاروا على هذه الحال لأنّهم (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (يس/ 10)، فحال هذا الذي يلهث كحال هؤلاء الذين أغلقوا قلوبهم أبَوْا أن ينفتحوا على الهداية.

 

الحالات المشابهة:

ثمّ تتحدّث الآيات المباركة عن حالة الجماعة المشابهة لحالة هذا الفرد (مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) لم يكذّبوا انطلاقاً من واقع جهلٍ يعيشونه، ولكنّهم كذّبوا بآيات الله بعد العلم بها ومعرفتها، فأخلدوا من بعد ذلك إلى الأرض واتّبعوا أهواءهم وشهواتهم (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) قصَّ عليهم – يا محمد – أخبار الذين مضوا، إن كانوا في الدائرة الفردية أو في دائرة الجماعة، لا ليقضوا وقتاً من اللّهو في استعراض القصة، ولكن ليأخذوا من القصّة الفكرة والعبرة. (سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) (الأعراف/ 177)، فأيُّ مَثَلٍ سيِّئ هو مَثَلُهم عندما كذّبوا بآيات الله، وظلموا أنفسهم عندما أساؤوا إليها (وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ) (الأعراف/ 177).

ويعطينا القرآن الخطَ الواضح في مقابل خطوط الضلال (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) (الأعراف/ 178). عندما يرى الله تعالى صدق النية عند الإنسان في الرغبة للهداية، فإنّه سبحانه يمدّه بهدايته. وهداية الله للإنسان تتمّ بتوفير سُبُل الهداية له، فتثمر في نفسه الرغبة في الهدى من خلال ما يقدّمه له من رغبات في هذا الهدى الذي يهتدي به (وَمَنْ يُضْلِلْ) الله تعالى لا يُضِلُّ الإنسان جبراً وقهراً، بل يفتح للإنسان باب الهدى، ولكنَّ هذا الإنسان يغلق هذا الباب ليتّبع هواه، وعندما يتركه تعالى لنفسه، فلا يتدخّل ليمنعه بالقوة (وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (البقرة/ 178)، وما هي النتائج التي تنتظر هؤلاء (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الزمر/ 15).

علينا أن نعيش هذه الفكرة في عقولنا وأنفسنا فيما نعيشه من علمٍ عن الله والإسلام، فنلبسه ونعيشه ولا ننسلخ منه لنسير مع الشيطان كي يحتضننا ويغوينا. فنلحاول أن نأخذ هذا المثل حتى نعمل بما عملنا، ونوجّه أنفسنا في خطِّ ما عملنا، مع مراقبة الناس من حولنا، فلا نتّبع أحداً ولا نثق به لمجرّد أنّه يعلم، بل لابدّ أن ندرك ونتيقّن بأنّه ممن يعمل بعلمه ويتحرّك في خطِّ الهدى من خلال علمه.


المصدر: كتاب من عرفان القرآن

ارسال التعليق

Top