يعتبر الإنعزال الإجتماعي من أخطر العوامل التي تؤدِّي إلى الإضطرابات العقلية التي تصيب الفرد المحروم من المشاركة في النشاطات الإجتماعية. والنقطة الرئيسية هنا هي أنّ الحقيقة الخارجية التي يتم تصورها في ذهن الإنسان لا يمكن بناؤها إجتماعياً إلا بمساعدة الآخرين، فنحن لا نستطيع أن نفهم عقيدتنا في الخلق والتكوين والحياة الإجتماعية إلا عن طريق رسائل رمزية يحملها الآخرون إلينا. ولذلك فإنّ للفرد طاقة نفسية لإستيعاب مفردات وشروط الحياة الإجتماعية. وتلك الطاقة والقابلية النفسية لابدّ من إشباعها حتى يتحقق الإجتماع الإنساني الذي هو أصل بقاء الحياة الإنسانية على وجه الأرض.
ويعتبر العزل القسري والسجن الإنفرادي من أكثر العقوبات قسوة ووحشية على الإنسان، لأنّ الفرد بحاجة دائمية إلى الإتصال بالآخرين حتى يستطيع أن يحافظ على إحساسه المستمر بالحقائق الخارجية ويحافظ على الشعور بهويته الذاتية. ولذلك فإنّ الأفراد الذين يعاقَبون بالسجن الإنفرادي لفترة طويلة يفقدون إحساسهم بالوقت مع انّهم يحسبون الأيام عن طريق خطوط يرسمونها على جدران السجون. وعندما يفقدون إحساسهم بالوقت، فإنّ الشك يبدأ بالسريان إلى كل شيء في حياتهم، فلا يستطيعون – لاحقاً – الإطمئنان إلى الحقائق الخارجية التي إختبروها في حياتهم العامة سابقاً.
ولكن الإنعزال والإغتراب الإجتماعية لا يكون دائماً نتيجة سجن إنفرادي أو عزل قسري، بل قد يتولد من ضعف الفرد أمام المشاكل الإجتماعية، أو فقدان الفرد إحساسه بمعنى واضح للحياة الإجتماعية، أو قد يتولد من إنهيار الجانب الأخلاقي الإجتماعي للفرد أيضاً. وذلك الضعف أمام المشاكل الإجتماعية نلمس تأثيراته النفسية في المجتمع الصناعي اليوم.
فالضعف الإنساني تجاه المشاكل الإجتماعية التي جلبها التصنيع الحديث في الدول الصناعية، وإنعدام العدالة الإجتماعية، وإنحلال الأواصر العائلية والعشائرية أدى إلى إحساس الفرد بغربته وإنفصاله عن المجتمع الكبير الذي يعيش فيه؛ لأنّ المشاكل الإجتماعية التي يعاني منها الفرد دون حلول واضحة تدفع الإنسان الغربي نحو الإدمان على المخدرات والكحول، وتجعله يسبح في بحر من الإضطرابات النفسية والعقلية.
أمّا فقدان الفرد لشعوره لمعنى الحياة الإنسانية وأهداف الخلق والوجود، فإنّه يساعد أيضاً على الإغتراب الإجتماعي، بإعتبار أنّ قلق الفرد وعدم إستقراره على عقيدة معينة يطمئن إليها لتفسير معاني الخلق والحياة والإنسان تعطي ذلك الفرد صورة مرعبة قاتمة عن الحياة ودور الإنسان فيها.
وكذلك الحال إذا واجه الفرد غياباً للأعراف والقيم الأخلاقية التي آمن بها، فإنّه سيشعر بأنّ سلوكه الأخلاقي غير مقبول إجتماعياً من قبل الفئة المسيطرة على النظام السياسي والأخلاقي والإقتصادي. وهي خطوة أولية نحو الإغتراب الإجتماعي.
ولكن الإنعزال والغربة الإجتماعية إنّما هي تعبير عن شعور الفرد المنعزل عن إنسلاخه عن بقية الأفراد الذين يتعامل معهم. فالإغتراب الإجتماعي هو محاولة داخلية لرفض المجرى العام للمجتمع من قبل المغترب، والإحساس العميق بأنّه خُلق في زمان ومكان لا يلائم بيئته الإنسانية ومحيطه الإجتماعي. بمعنى أنّ الفرد المنعزل إجتماعياً يعلم في قرارة نفسه بأنّ المجتمع لا يكافئه مكافَأة نفسية أو فكرية منصفة تساعده على الإندماج مع الآخرين، وتسهلّ له السير مع السفينة الإجتماعية في عباب الزمن.
وبطبيعة الحال فإنّ الإنعزال الإجتماعي يعكس الحالة العقلية للفرد في تفسير أحداث الحياة الإنسانية. فهذا الإنعزال الإجتماعي ينشأ على صعيدين: الأوّل: الصعيد الذاتي، والثاني: الصعيد الموضوعي. فالإنعزال الذاتي يعكس الشعور الداخلي الذي يصيب الفرد بالغربة والإنسلاخ عن الحالة الإجتماعية، بل هو ثمرة من ثمرات إختلاف نظرة الفرد ورأيه وسلوكه المنعزل عن بقية الأفراد في المجتمع. أمّا الإنعزال الموضوعي فهو يعكس الإنعزال الذي يحصل نتيجة الظروف الإجتماعية الجديدة التي يولّدها التطور الصناعي. ومن أوائل من ناقش آثار هذا الإنعزال الإجتماعي "كارل ماركس" في نقده للنظام الرأسمالي ودور رأس المال ومستثمريه في سلب إنسانية الإنسان في الحياة الصناعية والحقوقية والإجتماعية.
ولابدّ لنا من ملاحظة الفرق – بدقة – بين الإنعزال الإجتماعي الذاتي والإنعزال الإجتماعي الموضوعي. فالإنعزال الإجتماعي الذاتي ما هو إلا إنسلاخ يولّده الفرد في نفسه بسبب عدم تطابق عقيدته الأساسية مع عقيدة المجتمع. ولهذا الإنعزال الإجتماعي مصاديق عديدة في التاريخ الإنساني، منها إنسلاخ الأنبياء (ع) قبل البعثة عن مجتمعاتهم الوثنية وتعبيدهم في أماكن نائية عن عيون المجتمع ونظامه الكافر حتى مجيء الوحي، كما هو واقع خاتم الأنبياء محمّد (ص) الذي كان يتعبد في غار حراء حتى نزول جبرئيل (ع) عليه. أمّا الإنعزال الإجتماعي الموضوعي فهو الإنغزال الذي يفرضه المجتمع على الأفراد عبر وسائله الحضارية، كالتصنيع الحديث مثلاً. فالأحداث التي رافقت الثورة الصناعية في أوروبا في القرن الثامن عشر وما صاحبها من إنتهاك لحرمة العمل والعمال، وإنكسار للأواصر العائلية والعشائرية، وإزدحام المدن، وثبات الأنظمة السياسية على الإيمان بالمذهب الفردي، كلها أدت إلى إحداث حالة عظيمة من الإغتراب الثقافي والإجتماعي بين مختلف فئات المجتمع خصوصاً فئة الشيوخ والعاجزين عن العمل والشباب الباحثين عن عقيدة تفسر لهم معاني الحياة الإنسانية.
ولاشكّ انّ الإسلام – بإعتباره ديناً ورسالة عالمية غير مقيدة بزمان معيّن – أهتم بقضية الإغتراب الإنساني. وعالج تلك المشكلة عبر حثّه الأفراد على ضرورة الإنتماء الإجتماعي التي لاحظنا أهميتها الفائقة في كسر طوق الإضطرابات العقلية والنفسية. وكان الحج أحد مصاديق محاربة الإغتراب الإنسان على مرّ التاريخ. ونظرة خاطفة لطبيعة الحد في مكافحة الإنعزال الإجتماعي، تبين لنا النقاط التالية:
1- إنّ التهيؤ الإجتماعي للسفر يجمع الأفراد لفترة زمنية معيّنة، مما يساعدهم على كسر طوق العزلة الإجتماعية.
2- إنّ فكرة الإستطاعة تشجّع الأفراد على العمل الجاد من أجل التحصيل المالي والإكتفاء، وهذا يبعد الأفراد عن الكسل ويبعدهم عن الإنعزال أيضاً، لأنّ التكسب غالباً ما يكون جماعياً.
3- إنّ مناسك الحج تعكس طبيعة التجمع الإنساني. فالمسلك الجماعي في العبادة يمنح الفرد شعوراً بالإندماج مع الأُمّة الكبيرة المنتشرة في كل بقاع الأرض.
4- إنّ الإسلام يكافح الإنعزال الذاتي عب حثّ الفرد على الإتصال بالله سبحانه وتعالى. ويكافح الإنعزال الموضوعي عبر تطبيق الأحكام الشرعية على المجتمع. وبذلك تسد الشريعة الطريق على الإنعزال والإغتراب الإجتماعي بشكل مُحكَم. ولاشكّ أنّ الإجتهاد في الشريعة يعطي الفقيه فرصة واسعة لمعالجة المشاكل الإجتماعية التي تولّدها الإكتشافات والإختراعات الحديثة وما يلحقها من تصنيع، بما يتناسب مع حاجات الفرد والنظام الإجتماعي، آخذاً بنظر الإعتبار الضرورات الإجتماعية التي تدعو إلى التقدم التقني والتصنيع الحديث.
5- العدالة الإجتماعية في الإسلام والمساعدات المتبادلة بين الأفراد أنفسهم، وبين الأفراد والدولة، وصلة الرحم، كلها تقلّل من فرص الإنعزال الإجتماع. والحج يعكس جانباً من جوانب العدالة الإجتماعية الكلية في الإسلام.
6- إنّ من أهم أسباب الإنعزال الإجتماعي بين أفراد الأقليات في الدول الصناعية في أوروبا وأمريكا هو إنتماء هؤلاء الأفراد إلى أقليات عرقية مختلفة عن العرق العام المسيطِر على المجتمع. وبسبب الحرمان الإقتصادي والإجتماعي لهؤلاء وعدم توفر فرص متساوية لأبنائهم، فإن ذلك يجعلهم يعيشون في غربة شديدة. بينما تساهم أعمال الحج في شدّ وتماسك الأفراد على إختلاف أعراقهم البشرية وألوانهم ولغاتهم.
7- يعتبر التقدم في السن أحد أسباب الإنعزال الإجتماعي في المجتمعات الصناعية الغربية بسبب عدم قدرة المسنّ على الإنتاج مما تسبب له مشاكل إقتصادية جمّة. وإذا أضفنا إلى ذلك مشاكل إنحلال الروابط الأسرية بسبب التصنيع وتغيير الخارطة السكانية، يتضح لنا أن من أكثر الأمراض النفسية ظلاماً وتأثيراً على الفرد هو الإنعزال الإجتماعي للمسنّين. إلا انّ الإستطاعة الشرعية لأداء الحج غالباً ما تحصل عندما يتوسط عمر الإنسان ويجمع مالاً من عرق جبينه ليحقق شروط الإستطاعة الشرعية. وليس هناك تمييز شرعي من أي لون تجاه المسنين؛ لأنّ الدين ضمن منهجه الأخلاقي حثّ على إحترام الكبير وضمنَ معيشته على الصعيد العائلي على الأقل، أو على صعيد الدولة. ولما كانت العلاقات العائلية في الإسلام متماسكة كان المسنّ أكثر الأفراد ثراءً في الخبرة والتعبد والعلاقات الإجتماعية، وأكثرهم بعداً عن الإنعزال الإجتماعي.
وبكلمة، فإنّ الإطار الإجتماعي لأعمال ومناسك الحج، تدفع الأفراد نحو التماسك والتعاون الذي يتحول لاحقاً إلى لبنة من لبنات بناء الدولة الإسلامية العالمية. ولاشكّ انّ النشاطات الشرعية للحج الإسلامي إنّما تساعد جميع الأفراد على كسر طوق الإنعزال الإجتماعي والغربة الإنسانية التي نلاحظ مساوئها النفسية في عالم اليوم.
المصدر: كتاب مباني النظرية الإجتماعية في الإسلام
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق