• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الحوار الخلّاق في سورة سبأ

عمادالدين خليل

الحوار الخلّاق في سورة سبأ

◄في سورة "سبأ" نقرأ هذه الآيات:

(وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ * فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) (سبأ/ 10-14). نقرأها فتثير فينا حشداً من الصور والتأملات والأفكار... إنها تبين لنا قمة الاندماج الحضاري الفاعل بين الإنسان الكامل، والطبيعة، وقوى ما وراء الطبيعة، في حوارها الخلاق مع الله سبحانه أخذاً وعطاء.. إن طاقات الكون كله تنسجم ههنا وتتناغم وتعمل بتوافق رائع في خدمة الإنسان الذي يتوجه إلى الله في أصغر فاعلياته وأكبرها حامداً شاكراً عابداً للمنعم الذي منحه هذا كله، لكي يقف في موقفه الصحيح الذي أنشئت الحياة على الأرض من أجله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) (الذاريات/ 56-57). والعبادة التي تطرحها هذه الآية العريضة ليست علاقة ثنائية سالبة بين الإنسان والله، كما أنّها ليست مجرد عطاء يشكر الإنسان به ما وهبه الله إياه في نفسه وفي العالم. إنّه حوار إيجابي، وجدل فعّال، وممارسة حضارية تسودها علائق الأخذ والعطاء.. إنّ هذه الآيات التي هي أشبه بالسيمفونية التي تتناغم ألحانها وخفقاتها في وحدة صوتية باهرة، تجيء، لكي تعطينا صورة، من عشرات الصور التي يطرحها القرآن، على طبيعة العلاقة بين الله والإنسان، وعمّا تؤول إليه على نطاق النفس البشرية والعالم كله، حيث لا انفصال – في الإسلام – بين الإنسان والعالم، ولا انقطاع بين عالمي الحضور والغياب، وحيث الارتباط الكلي الذي يضم الإنسان إلى الطبيعة إلى ما ورائها، لكي تتحقق مشيئة الله في إعمار الأرض والتوجه المسؤول صوب خالق الكون والحياة والإنسان، وتنفيذ مسؤولية الخلافة بوعي وأمانة.. إننا هنا نلتقي باثنين من عباد الله، المصطفين داوود وسليمان (ع) وقد سُخِّرت لهما قوى الطبيعة الهائلة والطاقات الغيبية التي لا يحدّها جدار زماني أو حاجز مكاني، سُخِّرت جميعاً لكي تعمل تحت إمرة الإنسان المؤمن المسؤول: الجبال، الطير، الحديد، الريح، القطِر (النفط)،الجن... في عدد مشار إليه من مساحات العمل الحضاري: صناعة وعمراناً وبناء وفنوناً.. وتثير عجبنا في ميدان هذا النشاط، تلك الإشارات الواضحة إلى الحديد والوقود – اللذين قد تبين لنا كم هما ضروريان وأساسيان للحضارة المعاصرة، ولكل حضارة تريد أن تعمر وتصنع وتبني وتتفنن وتطبّق.. ويثير عجبنا كذلك أنّ الله سبحانه لم يمنح الحديد لداوود فحسب، ولكنه يعلمه كيف يليّنه، فبدون هذا لن يكون ثمّة فائدة لهذا الخام الخطير... ولن ننسى ههنا الإشارة إلى "الريح" التي تروح في شهر وتغدو بمثله، وقد تبين لنا من خلال الدراسات الجغرافية والطبيعية كم هي عظيمة خطيرة طاقة الريح هذه في إعمار الأرض والحياة وازدهارهما أو في دمارهما وفنائهما على السواء!! وقبل هذا أو ذاك تبدأ كلمات الله بتلك اللمسات الوجدانية المؤثرة التي علمنا القرآن إياها، متمثلة بهذا النداء الذي يضع الإنسان في قلب الكون ويقيم بين الطرفين علاقة حياة وعطف ومحبة، تتجاوب وتتناغم على عين الله: (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ)!! إنّ هذه الآيات – وغيرها كثير – تقدم لنا الرد الإلهي الحاسم على القائلين بأنّ الأديان السماوية ما جاءت إلا لكي تقود المؤمنين إلى مواقع الانعزال والسلب والفرار، وتنفخ في وعيهم أنّ الدنيا "قنطرة" وأنّ عليهم أن يعبروها ولا يعمروها. ومن ثمّ يغدو "الدين" نقيضاً "للتحضر"، ويقف الإيمان بمواجهة الخلق والابتكار والإبداع، وتتحول العلاقة بين الإنسان وخالقه إلى مسألة سكونية "ستاتيكية"... تاركة للمذاهب الوضعية أن تأخذ زمام الحركة "الدايناميك" من أجل تطوير الحياة وترقيتها. إنّ هذه التصور الخاطئ مرفوض بالكلية، ومستبعد من أساسه، وأمامنا شاهد واحد من مئات الشواهد القرآنية على هذا الرفض والاستبعاد لمواقف اتكالية مهزومة تسعى إلى أن تجعل الدين والتطوّر عدوين لدودين.. إننا هنا نلتقي بالإنسان المؤمن.. بل بالنبي، الذي يبلغ من فهمه لله وشكره لنعمائه أن يمنحه خالقه هذا القدر الكبير من قوى الكون المذخورة، ويكشف له عن هذه الطاقات الطبيعية الهائلة، ويحشر لخدمته الريح والوقود والحديد والنار والماء... من أجل ماذا؟... من أجل أن يبني ويعمر ويتفنّن ويبدع ويبتكر ويتقدم بالحياة صعداً على طريق الخلافة المسؤولة المؤمنة الواعية، التي له ينحرف بها هذا النعيم الكبير، والقدرات المتاحة، عن التوجّه بالشكر للخلاق العظيم مصدر القوة والطاقة والفاعلية، وعن التزام الموقع الصحيح في العلاقة المطلوبة بين الله والإنسان.. وقليل هم أولئك الذين يظلون في مواقعهم هذه بأمانة كاملة. ولكن الآيات القرآنية ما تلبث في ختام الصورة أن تقدّم – بأسلوبها التصويري الأخّاذ – حقيقة أخرى لا تقل أهمية لأنها تفعل فعلها الإيجابي في موازنة الوضع البشري كيلا ينحرف صوب المروق والكفر والعصيان... إنّ الموت بانتظار الجميع، أنبياء كانوا أم أناساً عاديين، عمالقة كانوا أم أقزاماً، ملوكاً أو فقراء.. إنّه نهاية المطاف لبني آدم جميعاً والسقطة التي لابدّ منها للمرور إلى يوم الحساب.. وإن عليهم أن يتذكروا هذا، لأنّ الرجل النبي الذي سُخِّرت له طاقات الكون، ووضع النفط والحديد السائل بين يديه، وحشرت تحت قدميه النار والماء والرياح.. ينتهي به الأمر إلى الموت، لكي ما تلبث الديدان، أصغر الحشرات وأقذرها، أن تأكل منه... ليس هذا فحسب، بل إن على الجان أيضاً، أولئك الذين يملكون قدرة أكبر بكثير من قدرات بني آدم، بعد إذ تحرروا من شدّ المادة وعوائق التراب، هؤلاء أيضاً عليهم أن يلزموا حدودهم ومواقعهم، والا تطغيهم القدرات التي منحهم الله إياها، فهنالك الحد الذي يعجزون عن تجاوزه، والتحدي الذي لا يقدرون على التصدي له.. وغيب الله واسع شامل بعيد لا يحصى مجرياته ومقاديره إلا الله.. وسرعان ما يتبين للجنّ في ختام المشهد العظيم (أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ)!!   المصدر: كتاب آفاق قرآنية

ارسال التعليق

Top