• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

التفكر في عجائب مخلوقات الله

التفكر في عجائب مخلوقات الله
◄هذه نبذة من عجائب صنع الله تعالى في أصغر الحيوانات، وفيها من العجائب ما لو اجتمع الأولون والآخرون على الاحاطة بكنهه عجزوا. وانظر إلى النحل وعجائبها. وكيف أوحى الله إليها حتى اتخذت من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون، وكيف استخرج من لعابها الشمع والعسل وجعل أحدهما ضياءاً والآخر شفاءاً، لو تأملت عجائب أمرها في تناولها الأزهار والأنوار واحترازها عن النجاسات والأقذار، واطاعتها لواحد من جملتها هو أكبر شخصاً وهو أميرها. ثمّ ما سخر الله لها أميرها من العدل والانصاف بينهم، حتى انّه ليقتل على باب المنفذ كل من وقع منها على نجاسة. ثمّ انظر إلى بنائها بيوتها من الشمع واختيارها من جملة الأشكال الشكل المسدس، فلا تبني بيتها مستديراً ولا مربعا ولا مخمسا الا مسدسا، لخاصية في الشكل المسدس، نقص فهم المهندسين عن دركها، وهو ان أوسع الأشكال وأحواها المسدس وما يقرب منه، فإنّ المربع يخرج منه زوايا ضايعة، وشكل النحل مستدير مستطيل، فترك المربع حتى لا تضيع الزوايا فتبقى فارغة، ثمّ لو بناها مستديرة لبقيت خارجة البيوت فرج ضايعة، فانظر كيف الهم الله تعالى النحل على صغر جرمه ما هو محتاج إليه. وانظر إلى النطفة وهي قطرة من الماء، لو تركت ساعة فضربها الهواء لفسدت واثبتت كيف أخرجها الله تعالى من بين الصلب والترائب؟ وكيف قاد الذكر والأنثى بسلسلة الشهوة إلى الاجتماع؟ وكيف استخرج النطفة من الرجل بحركة الوقاع؟ وكيف استحلت دم الحيض من أعماق العروق وجمعه في الرحم؟ وكيف خلق المولود من النطفة وسقاء بماء الحيض حتى نما وكبر؟ وكيف جعل النطفة وهي بيضاء مشرقة علقة حمراء؟ وكيف قسم النطفة وهي متشابهة متساوية إلى: العظام، والأعصاب، والعروق، والأوتار، واللحم؟. ثمّ انظر كيف ركب الأعضاء، فدور الرأس، وشق السمع والبصر والأنف والفم وساير المنافذ، ثمّ مد اليد والرجل وقسم رؤوسهما بالأصابع والأنامل؟ وكيف ركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطحال والرحم والمثانة والأمعاء، وكل واحد على شكل مخصوص وقدر مخصوص؟ وكيف ركب العين من سبع طبقات لكل طبقة وصف مخصوص وهيئة مخصوصة، لو فقدت طبقة منها لعطلت العين عن الابصار؟. وكيف قدر عظام الرأس من خمسة وخمسين عظماً مختلفة الأشكال، فمنها ستة يختص بالقحف، وأربعة عشر للحى الأعلى، واثنان للأسفل، والبقية هي الأسنان بعضها عريضة تصلح للطحن، وبعضها حادة تصلح للقطع وهي الانياب والأضراس والثنايا. وكيف جعل الرقبة مركبا للرأس وركبها من سبع حوزات مجوفات مستديرات فيها تحريفات وزيادات ونقصانات لتطبق بعضها على بعض يطول ذكر الحكمة فيها؟ وكيف ركب الرقبة على الظهر من أسفل الرقبة إلى منتهى عظم العجز من ثلاثة أجزاء مختلفة، ويتصل به من أسفله عظم العصعص وهو أيضاً مؤلف من ثلاثة أجزاء، ثمّ وصل عظام الظهر بعظام الصدر، وعظام الكتف، وعظام البدن، وعظام العانة، وعظام العجز، ثمّ عظام الفخذين والساقين وأصابع الرجلين، ومجموع عدد العظام في بدن الإنسان مائتا عظم وثمانية وأربعون عظماً، سوى العظام الصغيرة التي حشي بها خلل المفاصل. ثمّ انظر كيف خلق الله آلات لتحريك العظام، وهي العضلات، فخلق في بدن الإنسان خمسمائة عضلة، وتسعة وعشرون عضلة، والعضلة هي مركبة من لحم وعظم وربط وأغشية، وهي مختلفة الأشكال والمفاد، بحسب اختلاف مواضعها، فأربع وعشرون عضلة منها لتحريك حدقة العين وأجفانها، لو نقصت واحدة من جملتها اختلت العين، وهكذا لكل عضو عضلات مخصوصة؟ وكيف جانف بالاجفان، لتحفظها وتصقلها، وأظهر في مقدار عدسة منها صورة السموات مع اتساع أكنافها. وكيف أودع الأذنين ماء مرا يحفظ سمعها، ويدفع الهوام عنها، وحوطها بصدقة الأذن لتجمع الصوت، فتردها إلى صاحبها، وتحس بدبيب الهوام إليها وجعل فيها تحريفات واعوجاجات ليكثر حركة ما يدب فيها ويطول طريقه، فينتبه من النوم صاحبها؟ وكيف يرفع الأنف من وسط الوجه، وأحسن شكله، وفتح منخريه، وأودعهما حاسة الشم وفتح الفم، وأودعه اللسان، وزين الفم بالأسنان والشفتين، لتنطبق على الفم ويتم بها الكلام، وخلق الحنجرة وهيأها لخروج الصوت. وخلق اللسان للحركات والتقطيعات، ليقطع الصوت في مخارج مختلفة؟. وكيف خلق الحناجر مختلفة الأشكال في الضيق والسعة والخشونة والملامسة وصلابة الجوهر ورخاوته والطول والقصر، حتى اختلفت بسببها الأصوات، فلا يتشابه صوتان حتى يخبر السامع بعض الناس عن بعض بمجرد الصوت في الظلمة؟ وكيف سخر الأعضاء الباطنة كل واحد لفعل مخصوص، فالمعدة لتنضج الغذاء، والكبد لاحالة الغذاء في الدم، والطحال والمرارة والكلية لخدمة الكبد، فالطحال تخدمه بجذب السوداء عنه، والمرارة تجذب الصفراء عنه، والكلية تخدمه بجذب المائية، والمثانة تخدم الكلية بقبول الماء عنها، ثمّ يخرجه بطريق الاحليل، والعروق تخدم الكبد في إيصال الدم إلى ساير أطراف البدن. فانظر كيف خلق اليدين وطولها، لتمتد إلى المقاصد، وعرض الكف وقسم الأصابع الخمس، وقسم كل اصبع بثلاث أنامل، ووضع الأربع في جانب والابهام في جانب، لتدور الابهام على الجميع، ولو اجتمع الأولون والآخرون على أن يستنبطوا بدقيق الفكر وجها آخر في وضع الأصابع والابهام لم يقدروا، إذ بهذا الترتيب صلحت اليد للبسط والقبض والأخذ والاعطاء، فإن بسطها كانت له طبقا يضع عليها ما يريد، وان جمعها كانت آلة الضرب، وان ضمها ضما غير تام كانت مغرقة له، وان بسطها وضم أصابعها كانت محرفة له. ثمّ خلق الاظفار على رؤوسها زينة للأنامل، وعمادا لها من ورائها، حتى لا تنقطع وليلتقط بها الأشياء الدقيقة التي لا تناولها الأنامل، وليحك بها بدنه عند الحاجة، فالظفر الذي هو أخس الأعضاء لو عدمها الإنسان وظهر به حكة، لعجز عن حك بدنه، ثمّ هدى اليد إلى موضع الحك حتى تمتد إليه ولو في النوم من غير حاجة إلى أحد، ولو استعان بغيره لم يعثر على موضع الحك الا بعد تعب طويل. ولو كشف الغطاء عن النطفة في الرحم لكان يرى التخطيط والتصوير يظهر لنا شيئاً فشيئاً، ولا يرى المصور، فهل رأيت مصورا وفاعلا لا يمس مصنوعه وهو يتصرف فيه؟ فسبحانه ما أعظم شأنه، وأظهر برهانه. ثمّ انظر لما ضاق الرحم على المولود لما كبر كيف هداه السبيل حتى ينكس ويحرك ويطلب المنفذ، كأنّه عاقل بصير، ولما خرج كيف هداه الله تعالى إلى التقام الثدي، ثمّ لما كان بدنه سخيفاً لا يحتمل الأغذية، كيف دبر له اللبن اللطيف واستخرجه من بين الفرث والدم؟ وكيف خلق الثديين وجعل فيهما اللبن وأنبت لهما حلمتين على قدر ما ينطبق عليه فم المولود، ثمّ فتح في حلمة الثدي ثقباً ضيقاً حتى لا يخرج اللبن منه إلا بعد المص والتجرع تدريجا، فإنّ الطفل لا يطيق منه إلا القليل؟. وكيف هدى المولود إلى الامتصاص، حتى يستخرج من ذلك المضيق اللبن الكثير، هكذا إلى تمام الحولين، فكبر ولم يوافقه اللبن السخيف واحتاج إلى الطعام الغليظ، ويحتاج الطعام إلى المضغ والطحن، فأنبت له الأسنان عند الحاجة لا قبلها ولا بعدها؟ وكيف رزقه العقل والتمييز والهداية تدريجا، حتى بلغ وتكامل وصار مراهقاً، ثمّ شابا، ثمّ كهلا، ثمّ شيخا، فالعجب كل العجب ممن يرى خطا حسنا، أو نقشا على حائط، يستحسنه ويتفكر فيه ويقول: ما أحذقه وما أكمل صنعته وأكمل قدرته، ولا يتفكر في هذه العجائب في نفسه وفي غيره، ويغفل عن صانعها ومصورها، ولا يدهشه عظمته وكبرياؤه، ومن فاته عجائب السماوات فقد فاته الكل تحقيقاً. فالأرض والبحار والهواء، وكل جسم سوى السماوات بالإضافة إليها كقطرة في بحر، فانّ الله تعالى قد عظم أمر السماوات والنجوم في كتابه في عدة مواضع، فقال: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ) (البروج/ 1)، (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ) (الطارق/ 1)، (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ) (الذاريات/ 7)، (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا) (الشمس/ 5)، (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا) (الشمس/ 1-2)، (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ) (التكوير/ 15)، (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى) (النجم/ 1)، (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) (الواقعة/ 75-76)، فقد علمت ان عجائب النطفة القذرة يعجز عنها الأوّلون والآخرون، وما أقسم الله تعالى بها، فما ظنك بما اقسم الله تعالى به. ثمّ انظر إلى الأرض والجبال وما فجر من العيون وأخرج من النبات والأشجار والراييح وكثرة منافعها. والجواهر المودعة تحت الجبال من الذهب والفضة واللعل، ومعادن الأرض من النفط والكبريت والقير وغيرها، وما جماد ولا نبات ولا حيوان الا وفيه حكمة لله تعالى، وقد مدح الله تعالى المتفكرين، وقال: (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) (آل عمران/ 191). المصدر: مجلة الإيمان/ العددان 19 و20 لسنة 1414هـ

ارسال التعليق

Top