• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الحياة الديمقراطية

نل نودينجز/ ترجمة: د. فاطمة نصر

الحياة الديمقراطية
◄يعتقد كثيرون اليوم أنّ أشكال الحياة الاجتماعية الديموقراطية هي الأفضل، ويمكننا أن نستخلص من هذا التقدير لها أنها تُسهم في السعادة. لكن من غير الواضح أنّ من يعيشون في ظل ديموقراطيات ليبرالية أكثر سعادة ممن يعيشون في ظل مَلَكيات مستنيرة أو في ظل أشكال أخرى من الحكومات الخيّرة. لا يبدو أن حياة الفرد الخاصة، طالما أنها غيرمهددة، أو متحكم فيها أو مقموعة، تعتمد على نوع الحكم الذي يعيش في ظله، كما أنّ الرضا الداخلي الذي ينتج عن الانتساب إلى جماعة دينية غير ديموقراطية نوعاً من السعادة. ما هو، إذن، إسهام الديموقراطية في السعادة؟ كثيراً ما ينسب المدافعون عن الديموقراطية إليها فضائل كثيرة: 1- تتيح الديموقراطيات حريات كبيرة للفعل الفردي والجماعي. 2- تدعم الديموقراطيات المساواة. 3- تُميّز الديموقراطيات الاحتياجات البشرية وتُرضيها بأفضل السبل. بيد أنّ هذه الفضيلة الأخيرة محل جدل، بخاصة. بل إنّه حتى يقال إنّ بعض الديموقراطيات ديموقراطيات السوق – لا ترضي احتياجات عدد كبير من سكانها. كما أنها تميل إلى تصنيع الاحتياجات ثمّ تعمل على أن يشعر المواطنون بعدم الرضا إذا لم تُرض تلك الاحتياجات المُخلَّقة اصطناعياً. ومع هذا، فإنني أوافق على أنّ الديموقراطيات، وبمعنى ما، تتميز بمهمة إرضاء الاحتياجات. فلنتأمل، أوّلاً، الزعم بأنّ الديموقراطيات تعزز الحرية الفردية والجمعية. لا يبدو هذا محل جدل، لكن، ما علاقة الحرية بالسعادة؟ من الواضح أنّ الحرية بدون حدود يمكنها أن تولد الخوف، القلق، وحتى الكرب. غالباً ما يعاني الأطفال الذين يمنحون الحرية بدون إرشاد من الاضطراب، كما يصاب الكبار الذين لا يستطيعون القيام بالخيارات التي تعترضهم بالقلق. من ثمّ، فليست مجرد الحرية – غياب الكبح في حضور إمكانيات عديدة – هي التي تُسهم في السعادة. وحقاً، يمكن للمرء القول إنّ الحياة الديموقراطية تضم عوامل كثيرة تعمل ضد السعادة، وخاصة أنّ حرية أن تصبح في مكانة أفضل، وأن تمتلك المزيد وتفعل المزيد قد تجعل أناساً كثيرين تعساء. من الضروري إذن، أن نبحث عن تعريفات الحرية ونرى أيها تؤدي إلى السعادة. مثلاً، ثمة مجتمعات إسلامية اليوم، وأيضاً من ديانات أخرى، تُقابِل بين السعادة والفضيلة. يقولون: أن تكون فاضلاً أفضل من أن تكون حراً بإطلاقه. يجيب أنصار الحرية بأن يصروا على أنّ السلوك الجبري – أياً كان تناغمه مع أحكام المجتمع – ليس فاضلاً، إذ إنّه ينبغي أن يكون للفرد حرية اختيار هذا السلوك. وهذا محل جدل. فإنّ المجتمعات الليبرالية ذاتها كثيراً ما تفرض (بدون ضغط ملموس) السلوك الخيّر على النشء وتآمَل أنّ الفضائل التي يمارسونها تحت تأثير هذا الفرض ستُستَبطن، حتى يُقرها التفحص العقلاني الحُر في نهاية المطاف. هذا الجدل الذي جعلته الصدامات الثقافية شديد الحيوية على مستوى العالم، مألوف أيضاً في النقاش بين الليبراليين والكوميوناتليين (الجماعاتيين) في الفلسفة الغربية الحديثة. النقطة الجوهرية في الجدل هي النقطة التي يبدأ منها المرء تفكيره السياسي/ الاجتماعي – عما هو صواب أو ما هو خيّر. وفيما يؤكد الليبراليون على الصواب – أحكام مُنصِفة يتوافق الجميع على العيش وفقاً لها – يمضون ليبحثوا عن القواعد التي تمكن كلّ فرد من الوصول إلى الحد الأقصى من الحرية. أما الكوميوناليتيون فيصرون على أنّه لابدّ أن تسبق أيّة مناقشة للحرية رؤية لما هو خيّر. يُحتمل للعاديين من الأفراد الذين يسعون إلى السعادة اختيار حل وسط (حل يُحابي الخير على المستوى النظري) ثمّ يبحثون عن مستوى من الحرية يُيسر الأمور في إطار نظرة إلى العالم تمدهم ببعض الإرشاد على سبل العيش الفاضل. ليس من الواضح (وكما يجادل الليبراليون) أنّ تلك النظرة إلى العالم هي من اختيار الأفراد الذين قد يُقنعون أنفسهم أنهم قد اتخذوا خيارات هي في الحقيقة قد فُرِضت عليهم من خلال قوى التنشئة الاجتماعية اللاشخصية. الزعم الثاني هو أنّ الحياة الديموقراطية تدعم المساواة، أي أنّ الديموقراطية تعترف بقيمة متساوية للأفراد جميعهم وتتيح الحياة الطيبة لأعداد كبيرة من الناس. إذا تركنا جانباً، مؤقتاً. إرضاء الاحتياجات الاقتصادية، نواجه جدلاً بخصوص ما يشكل الحياة الطيبة. وكما رأينا خلال نقاش السعادة، فثمة خلاف حول ما يجعلنا سعداء. يمكننا الاتفاق، بمستوى من التجرد، على أنّ تطوير الشخصية الخيِّرة يلعب دوراً كبيراً في السعادة الشخصية. لكننا حينما نبدأ في نقاش الفضائل المتطلبة للشخصية خيّرة، نختلف بشدة حول قائمة الفضائل وأوصافها. الجدل المتواصل حول المساواة كان من سمات القرن العشرين. ولنتذكر ما قاله تشارلس إليوت. من الثابت أنّ الأفراد لا يتساوون فما ورثوه من ميول ومواهب واهتمامات، وإذا افترضنا أنهم متساوون فإنّ في هذا الافتراض تهديد لديموقراطيتنا. المطلوب هو الاحترام المخلص ذو المعنى لجميع القدرات الإنسانية الإيجابية. وفي هذه النقطة يبدو الليبراليون صائبين بتأكيدهم على حرية الأفراد في النمو وفقاً لميولهم الخاصة المشروعة، كما يبدو المحافظون صائبين في إصرارهم على أنّ معايير السلوك المتقبّلة بعامة، لابدّ أن تُرشد هذا النمو. السعداء في الديموقراطيات الليبرالية يستخدمون حريتهم من أجل العثور على مكانٍ مُرضٍ لأنفسهم دون أن يفقدوا ودَّ مواطنيهم واستحسانهم. والمساواة التي تُفهم على أنها الفرصة المتساوية للنمو، وتطوير مواهبنا، صفاتنا الأخلاقية، شخصيتنا، وأسلوب حياتنا هو المفهوم المحتمل له أن يكون ذا فائدة كبيرة في التعليم من أجل السعادة. بيد أنّ مُثُل المساواة والحرية يحتمل لها أن تتصادم. قد تتدخل حريتك في فرص نموي ومن ثمّ تُصبح تلك الفرص غير متساوية. كما أنّ نموي تحدٍ يقتضي كبحاً لحريتك. كثيراً ما يوصف هذا الجدل بصفته جدلاً ليبرالياً/ محافظاً. تقليدياً، ظلّ الليبراليون يؤكدون على الحرية ويسمحون للأفراد بتعريف معناهم الخاص للنمو. أما المحافظون، فيصرون، عادةً، على أنّ النمو لابدّ أن يُعرَّف في ضوء أسلوب فاضل للحياة يتقبله الجميع. وأوجد هذا الخلاف توتراً هاماً في نظريات التعليم الديموقراطي. يبدو من الصواب القول إنّ تقييم الأفراد لنموهم ذو صلة وثيقة بسعادتهم. يميل الناس لأن يكونوا سعداء حينما يشعرون أنّ مواهبهم قد نمت بشكل جيِّد وأنّ احتياجاتهم قد أُرضيت. وتسهم الديموقراطية في السعادة بالدرجة التي تدعم بها هذا النمو. ورغم أننا لم ننته بعد من مناقشة المساواة أو الحرية أو النمو، فلنبحث بإيجاز في موضوع إرضاء الاحتياجات. حققت الديموقراطيات الناضجة اليوم مستويات عالية من الازدهار لأناس عديدين. لكن بعض اللاديموقراطيات قد حققت أيضاً ثروات عظيمة. السؤال المتصل بالسعادة هو عن كيفية توزيع هذه الثروة، وما إن كان شكلُ آخر للحكم، ومن خلال توزيع أكثر عدالة يمكنه أن يسهم، بدرجة أكبر من الكمال، في إرضاء الاحتياجات، ومن ثمّ في تحقيق السعادة. قد لا يكون ثمة طريقة الآن للإجابة عن هذا السؤال، لكن يبدو من المنطقي أن نقترح أنّ على الديموقراطيات ممارسة رقابة يقظة مستمرة على أساليب توزيع الثروة وإرضاء الاحتياجات. وإذا وصفنا الديموقراطية، من منطلق تعريف دِوي، على أنها أسلوب للعيش المشترك، فثمة محاجة قوية تدعمها. يجعل حوار الأخذ والعطاء المنتظم من الممكن التوفيق بين الاحتياجات المعبَّر عنها والاحتياجات المستنبطة. باستطاعة أفراد المجتمع الديموقراطي أن يُسمِعوا الآخرين احتياجاتهم المعبَّر عنها وأن يتوقعوا استجابة إيجابية – وإن لم تكن المساعدة، فعلى الأقل عدم التدخل في المسعى لإرضائها. أما المجتمع، فيُرسي من خلال مؤسساته احتياجات مُستنبطة متنوعة – مثلاً، التنشئة الاجتماعية، الوقاية من الأمراض، لوائح الأمان – ويحاول إقناع المواطنين بقبول تلك الاحتياجات بصفتها احتياجاتهم. ثمة توتر دائم بين الرغبة في فرض تلك الاحتياجات ورغبة الشعوب الحرة في قبولها أو رفضها. وأساس التعليم والتربية الديموقراطية هو حاجة المجتمع الديموقراطي لأن يحافظ على نفسه بقبوله هذا التوتر، بأن يجد أساليب مخففة للإجبار، وبأن يشجع التقييم المستدام، ومحاولة التوفيق بين شكليْ الاحتياج. قالت آمي جوتمان، بإقناع، إنّه لا يمكن استخدام الحرية، أو الفضيلة لتبرير التعليم الديموقراطي. تُضيف قائلة: "إنّ تبديل أسس التبرير من الحرية المستقبلة وتحويلها إلى أحد الأهداف الأساسية الأخرى – مثل، الاستقلال الذاتي، التميز الفكري، الخلاص، الرفاه الاجتماعي – هو فقط إعادة خلق المشكلة ذاتها. ليس بين تلك المعايير معيار شامل بدرجة كافية ليحل مشكلة التبرير في وجه معارضة المواطنين الذين يتهدد التقويض مدركاتهم عن الحياة الطيبة، وذلك من خلال مدرك التعليم الجيد الذي تؤسس له إحدى السلطات التعليمية". ومن هذا المنطلق تتحاجج جوتمان أنّ التبرير الأساسي للتعليم الديموقراطي اللاحيادي ينبغي أن يكون صيانة المجتمع الديموقراطي ذاته وتعزيزه. لكن، لا يعني هذا عدم إمكان تضمين أهداف أخرى، بل يعني فقط أنّه بغير الاستطاعة توظيف هدف واحد آخر كتبرير نهائي للتعليم في المجتمع الديموقراطي. ظللتُ أقول إنّه يجب الاعتراف بالسعادة غاية للتعليم، لأنّ كلّ إنسان تقريباً يؤمن أنّها غاية للحياة نفسها. من ثم، فهي غاية شمولية شاملة. ولا يجوز أن نحاول إقناع نفسنا أو غيرنا أنّ الجميع يعتنقون نفس الفكرة عن السعادة. يعني إرساء السعادة غاية للتعليم في المجتمع الديموقراطي التعددي شيئين على الأقل. أوّلاً: يعني مساعدة التلاميذ على فهم آراء متنوعة عن السعادة، ثمّ يبدأون، من خلال التحليل والممارسة في تكوين موقف يمكنهم منه الدفاع عن سعادتهم. ثانياً، فهو يعني تقييم كلّ شيء في ضوء الآراء الأساسية عن السعادة. وإذا كان ما نقترح فعله يمكن أن يسبب تعاسة واضحة (بالحكم على ذلك من موقع مسؤول) علينا، إما أن نُغيِّر ما نفعله، أو نقترح بقوة شيئاً آخر يمكنه خدمة غاية السعادة. هذا الشكل الحيوي للحوار العقلاني أساسي للتعليم والديموقراطية معاً. لكن، تظل ثمة ثغرات في تحليل جوتمان الذي أوردناه. تنشأ عن الآراء المتعارضة عن الديموقراطية فلسفات مختلفة للتعليم، ثمّ تُفنَّد تلك الفلسفات بقوة، باسم الديموقراطية أيضاً. وقد يكون من المفيد هنا أن نعود سريعاً إلى جدل دِوى – هتشنس. أتى كلّ من الرجلين بتوصياته التعليمية باسم الديموقراطية. اعتقد هتشنس أنّ التعليم الموحد لكلّ النشء سيمدهم بالمعرفة، وبالالتزام بصيانة الديموقراطية. لكننا نعلم أنّ المنهج الموحَّد يثبط تلاميذ كثيرين ويؤدي إلى أن يفقد من لهم مواهب أخرى تقديرهم لذواتهم. يؤكد هتشنس بقوة على الاحتياجات المستنبطة أكثر كثيراً من تأكيده على الاحتياجات المعبَّر عنها. يبدو وأنّه يفسر الديموقراطية بصفتها شكلاً ثابتاً، بالإمكان، بل من الواجب، أن تُمرّر تقاليدها كاملة إلى الأجيال الجديدة. وأنّ المواطنين، يستطيعون بهذه الذخيرة فقط ممارسة حقوقهم وواجباتهم بفعالية. لم يُنكر دِوى الحاجة إلى نقل الثقافة والقيم المشتركة، لكنه رأى أنّ كليهما يعتمد على الرغبة والاتصال والالتزام بالبحث المستدام. ومن منظر دوى، فإنّ ما تقتضيه المشاركة الديموقراطية ليس هو ذخيرة من المعرفة المشتركة الواقعية، بل فهم شامل للعمليات، وكريس متفتح الذهن للبحث المستدام والتواصل. بالنسبة لدوى، فالديموقراطية هي أسلوب للعيش المشترك، أسلوب أخلاقي أو اجتماعي) يظل قيد التشكيل المستمر. حينما نسترشد بدِوى في تخطيط البرامج التعليمية، يقتضي منا هذا التزود من ذخيرة المعرفة الثقافية كي تمدنا بالإرشاد في حل المشاكل الحاضرة وإرضاء الأوضاع الراهنة. لا يجوز أن نكتفي بمجرد تمرير أو نقل مخزون هائل من معلومات تشكلت واستُخدِمت في الماضي. وإذا أخذنا في الاعتبار السعادة كغاية تعليمية تبدو مقاربة دِوى وأنّ لها اليد العليا. وبالإمكان تشجيع كلّ المواهب المشروعة في المدارس. لا ينبغي لنا إرساء تراتبية للمسارات التعليمية، كما أنّه ليس من المفروض علينا أن ندفع بالجميع إلى المسار الأكاديمي "الأفضل" باسم الديموقراطية. لابدّ أن يظل المدرسون وواضعو البرامج على وعي بالتوتر القائم بين الرغبات المعبَّر عنها والمستنبطة وتصبح محاولة التوفيق بينها جزءاً نظامياً من العملية التعليمية. أودّ أن أتخطى آراء دِوى بأن أوصي بمراجعات للمقررات المدرسية. فعلى حين اقترح دِوى أسساً منطقية جديدة وأساليب جديدة لتدريس المواد التقليدية، فإنني أميل إلى مساءلة التنظيم الكامل للمناهج وأساليب تدريسها. هل نعالج الأسئلة الوجودية الكبيرة: كيف ينبغي أن أعيش؟ هل ثمة معنى للحياة؟ ماذا يعني أن تكون خيّرا؟ أن تكون سعيداً؟ هل نعالج القضايا التي ارتبطت تقليدياً بالنساء؟ مثلاً: ماذا يعني أن ننشئ بيتاً؟ ما الذي يشكّل الأبوة والأمومة الصالحة؟ ماذا ندين به للوالدين المسنين؟ لأطفال غيرنا؟ وهل نعالج القضايا الملحة بخاصة في ظروفنا الراهنة؟ مثلاً: كيف يمكننا تحقيق السلام وصيانته؟ ما هو مدى نزوعنا لممارسة القوة والعنف؟ كيف لنا أن نصلح ما أفسدناه من بيئتنا الطبيعية ونحافظ عليها؟ ماذا ندين به للحيوانات؟ هل بإمكاننا تطوير روحانية مُرضية لدى التلاميذ بدون الوعظ والتخويف والخزعبلات؟ ما هي السعادة، وكيف نستطيع أن نجدها؟ لا أقصد بهذا أن أقول إنّ التقليديين من أمثال هتشنس، آدلر، وهيرش مخطئون بالكامل. هناك الكثير من الجمال والحكمة في المناهج التقليدية التي يتمسكون بها. السؤال الذي يعنينا – ويعني أي مجتمع ديموقراطي – هو كيف نجعل مثل تلك المادة متاحة دونما إكراه غير ضروري، وبدون تجاهل لمواهب التلاميذ وأهدافهم الخاصة. ينبغي أن تفُسَّر الديموقراطية بأسلوب يدعم صيانتها واستمرارها، ويدعم أيضاً نمو كلّ فرد. لابدّ أن نظل منفتحين حتى على احتمال العثور على أسلوب أفضل من الديموقراطية للعيش المشترك. وبهذا التفسير، يكون إسهامنا وإسهام الديموقراطية في إيجاد الظروف التي تزدهر فيها الحياة البشرية.   تعلم المشاركة والخدمة: أنّ العلاقات الشخصية، و/ أو الحياة المهنية هي مصدر أكبر جزء من سعادة معظم البشر. بيد أنّ حياة الجماعة، وبخاصة أسلوب الحياة الديموقراطية، تمدنا بأساس تُؤسس عليه تلك الطيبات ومن ثم تسهم إسهاماً كبيراً، وإن كان غير مباشر، في السعادة. يمكن للمشاركة النشطة في حياة الجماعة أن تكون مصدراً مباشراً للسعادة. كثيراً ما نسمع، مثلاً، عن متقاعدين يجدون هدفاً جديداً للحياة من خلال العمل التطوعي. كما يدعم كثير من الشباب الجامعي، بفاعلية، التنظيمات التطوعية. يعمل بعضهم مع الجمعيات الخيرية الدينية أو الإثنية، ويُكرس آخرون جزءاً كبيراً من وقتهم للتخفيف من مشاكل معينة مثل الجوع، التشرد، الإدمان، والإعاقة. كانت النساء، في الأجيال السابقة، تقوم بالجزء الأكبر من العمل التطوعي، ومازال هذا قائماً في الأحياء التقليدية. واليوم، يمنح الكثير من المهنيين، رجالاً ونساءً، الكثير من وقتهم لأعمال المصلحة العامة، ويمارسون تخصصاتهم ومهاراتهم لصالح من لا يستطيعون دفع مقابل خدماتهم. تُسهِم خدمة الآخرين في سعادة المتطوعين بأساليب ثلاثة على الأقل: أوّلاً: قد يجد المتطوعون رفقة محببة ويستمدون السعادة من دفء العلاقات مع من يخدمونهم ومع المتطوعين الآخرين. ثانياً: يشعر المتطوعون عادة باحتياجات الآخرين ويستجيبون لها. وكما رأينا من قبل، فإنّ القابلية للشعور بالتعاسة والالتزام بالتخفيف منها لدى الآخرين هاميْن لتحقيق السعادة الشخصية، ويشعر من لديهم تلك القدرة بذلك الالتزام، وتعتمد سعادتهم، جزئياً على الأقل، على التخفيف من تعاسة الآخرين. ثالثاً: كثيراً ما يعي المتطوعون أن عملهم يحافظ على روح الجماعة وعلى الأسلوب الديموقراطي للعيش المشترك. واشتراكهم في حياة الجماعة وتعزيزهم للديموقراطية، فهم يُسهمون في صيانة أسس السعادة الشخصية. باستطاعة المدارس تعزيز حب المشاركة في الجماعة والإسهام في الخدمات بأساليب عدة. تجعل بعض المدارس من خدمة المجتمع مُتطلباً للتخرج من المدرسة. لكن بنية المدارس في مجتمعات الأسواق الليبرالية تعيق تلك الجهود. حينما تكون الخدمة المجتمعية متطلباً دراسياً (تمنح عليها الدرجات أحيانا)، يؤدي هذا إلى استياء الوالدين والتلاميذ من الوقت الذي يُقتطع من دراسة المواد "الحقيقية": فالتنافس على الدرجات في المواد "الحقيقية" هو هدف مدارسنا، ولابدّ للتلميذ من التفوق كي يضمن له مستقبلاً بالجامعة. قد يبدو من التشاؤم القول بأنّ المدارس، ببنيتها الأساسية الحالية، لا تُسهم في السعادة التي تُستمد من العيش التعاوني. ونرى كيف يعاني التلاميذ حينما يُقال لهم إنّ عليهم "بذل قصارى جهدهم في جميع المواد دونما تفرقة"، ثمّ ينتهي بهم الأمر بالحصول على درجات متدنية. ثمة خطأ في النظام. كما أنّ المدرسين يلجأون إلى إيجاد سبل للتلاميذ كي يحصلوا على مجاميع عالية، لدرجة أن أصبح لدينا تضخم في المجاميع الكلية المرتفعة. أحد سبل جعل تعليم الخدمة المجتمعية والمشاركة في الجماعة جذاباً هو إعطاء تلك المواد نفس مكانة الجبر والعلوم والمواد "الحقيقية" الأخرى ماذا سيعني هذا؟ طبعاً، سيعني أن تُصبح المادة تنافسية وسيلجأ التلاميذ إلى مختلف السبل للحصول على الدرجات العليا. سيصبح العمل شاقاً، وقد يؤدي ذلك إلى كراهيته والخوف منه. هناك شكوك حول جدوى هذا الأسلوب. البديل هو تحفيز التلاميذ على المشاركة في تلك النشاطات. من المفضل، في البداية، ألا يكون ثمة إجبار. نطلب من التلاميذ اختيار النشاط الذي يروق لهم، لكن ينبغي أن يُسمح لهم بتغييره إذا أرادوا. كما أنّه لا يجوز منحهم درجات عليه، رغم أنّ هذا لن يجعل الخدمة المجتمعية تحتل مكانة المواد الأخرى. على أيّة حال، وإلى أن تتغير بُنى التعليم المدرسي، لابدّ من إيجاد وسائل لتشجيع التلاميذ على تعلم هذا النشاط وحبه. وبحثنا في الأساليب التي قد تسهم بها الجماعة في السعادة أو التعاسة. تُخضِع الجماعات أفرادها للتنشئة الاجتماعية وليس ثمة مفر من هذه العملية. بيد أنّ النظام التعليمي الجيِّد يساعد التلاميذ على التفكير في هذه العملية وفهمها. ما هي المعايير التي ينبغي أن أتقبلها بصفتها مفيدة للنمو الفردي والتنظيم الاجتماعي؟ أيها ينبغي أن أرفضه لصالح نموي وبدون إلحاق الأذى بالآخرين؟ أيها ينبغي أن أرفضه كلية على أُسس أخلاقية؟ من أين أستمد القوة لمقاومة الضغوط المشكوك فيها من أجل التماثل؟ ثمّ  انّ إسهامات الديموقراطية الممكنة في السعادة. إذا نظرنا إلى الديموقراطية على أنّها ترتيب دينامي قيد التشكيل المستدام، إذن فهي تتميز بالالتزام بالبحث والتواصل اللذين يُنتجان قيماً مشتركة دونما إجبار عليها. وإنّ هي دعمت النمو الفردي لأعضائها، ستسهم في سعادتهم. وفي ظل مثل هذا النظام، يُنظر إلى الحرية بصفتها القدرة على عمل الاختيارات القائمة على معلومات سليمة في بيئة تدعم اتخاذ القرارات، وتفهم المساواة على أنها الدعم المجتمعي لنمو الفرد الذي يُحدِّد عبر مدى كامل من المواهب والاهتمامات. بيّنا أيضاً أنّ الديموقراطية تضيف إلى السعادة نوعاً من التوتر لأنّها تتطلب القيام بخيارات كثيرة. وأخيراً، نظرنا بإيجاز إلى السبل التي بها قد تُسهم المشاركة والخدمة إسهاماً مباشراً في سعادة الفرد، وانتهينا إلى أنّه إن لم تتغير البنية الأساسية للتنشئة المدرسية، سيظل هذا الإسهام، إلى حد كبير، مثالاً وليس واقعاً.

المصدر: كتاب السعادة والتربية.. تعليم بلا دموع

ارسال التعليق

Top