• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العنف واللاعنف من وجهة نظر إسلامية

زكي الميلاد

العنف واللاعنف من وجهة نظر إسلامية

◄طيلة عقود طويلة من القرن المنصرم، لم يكن الحديث عن اللاعنف قوياً وصارخاً وضاجاً بالحياة والأصوات مثلما هو حاصل الآن، ولم يشكّل حملة هذا السلاح قوّة ضاغطة سياسياً أو فكرياً طيلة تلك العقود، والتي شهدت أكبر حربين كونيتين في التاريخ الحديث.

نعم، ظهرت عدّة نتائج لهذا التطوّر الحاصل في ميدان العنف البشري، والتي مثّلته الحروب الماضية خير تمثيل. فقد شهدت أوروبا الكثير من التحوّلات السياسية في طرائق معالجاتها لأزماتها السياسية والاقتصادية والحدودية، وترسّخت قيم الديمقراطية الليبرالية في بلدانها ومؤسساتها، وظهرت حركات اجتماعية عديدة دعت إلى الحب والسلام، ولعلّ أشهرها حركة الهيبيز التي ظهرت في ستينات القرن المنصرم، رداً على الحروب والدمار الذي شهدته القارة الأوروبية وأميركا.

وحتى الهيئات الدولية كانت تطرح مبدأ اللاعنف على استحياء، وكانت في حديثها إذا فطنت إلى فضيلة الكلام دعت إلى نبذ العنف والاعتماد على العقل في حلّ النزاعات والأزمات السياسية، التي تنشب بين البلدان المنضوية تحت ظل هذه الهيئات. وبقيت تجربة غاندي في مطلع القرن العشرين هي التجربة اليتيمة والوحيدة، التي يعود إليها الجميع كمرجعية نظرية وعملية في آنٍ واحد لمبدأ اللاعنف.

ومع اشتداد التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي حدثت في بلدان عديدة من العالم، وما أفرزته هذه التغيرات من نتائج وإيقاعات سريعة، لم تستطع أغلب المجتمعات وخصوصاً النامية منها مواكبتها، تفجّرت حركة العنف من خلال الحركات الفكرية المتطرفة والأحزاب السياسية، التي كانت تعيش أزمة مزدوجة، الأولى محاولة تمسكها بجذورها وهُويّتها ورفض الحداثة الوافدة إليها، والثانية ممارستها لدوري القامع والمقموع في الوقت نفسه.

هذه الازدواجية حكمت مجمل تحركات هذه الحركات والأحزاب، وزادتها حالة الإحباط التي كانت تعيشها مجتمعاتها حين فشلت في الحفاظ على هُويّتها إلّا النزر اليسير، وفشلت أيضاً في التصدي لهذه الحداثة الوافدة، أو على الأقل الاستفادة من إيجابياتها. حتى إذا انتبه الجميع الآن إلى لوحة الدماء التي تصبغ وجوه حياتنا المعاصرة، وانتبه الجميع على وقع ما أحدثته القسوة والقسوة المتبادلة في حياتنا، وثبت فشل العنف كحل وحيد للتغيير، أصبح اللاعنف ضرورة من أجل رسم صورة أكثر إشراقاً لواقعنا المعاصر، ومن أجل تغيير تلك الفسيفساء الدامية. وأصبح لهذا المبدأ النبيل دعاته ومنظروه في كلّ مكان، وأخذت تتناوله وسائل الإعلام المختلفة، وتنادت للتبشير به الهيئات والمؤسسات الدولية، حتى أصبح يفرض حضوره في كافة الميادين.

من هذا المنطلق، ارتأت مجلة الفكر الإسلامي أن تفتح صفحاتها للباحثين والمفكرين الإسلاميين للمشاركة في هذا السجال الدائر في الأوساط الثقافية والفكرية، لتغتني من خلال هذه الأوراق المفتوحة بآرائهم وأفكارهم ورؤاهم في تشخيص هذا الوباء، وتلمس السُّبل الكفيلة للحدّ منه إن لم يكن القضاء عليه.

* ما هو تصوّركم لكلّ من المفاهيم التالية: العنف، اللاعنف، الإرهاب؟

العنف هو نمط من السلوك، يتصف باستعمال وسائل القوّة أو الإكراه أو الضغط أو الخشونة في سبيل الوصول إلى غايات وأهداف معيّنة. وهذا النمط من السلوك قد يمارسه الفرد أو الجماعة أو الدولة، ويمكن أن يصنّف إلى تقسيمات عديدة كالعنف السياسي، والعنف الفكري، والعنف الاجتماعي، إلى غير ذلك.

واللاعنف هو أيضاً نمط من السلوك يتصف باستعمال الوسائل السلمية واللاعنفية. أمّا الإرهاب، فهو استعمال القوّة المادّية بصورة رئيسية، ولإظهار هذه القوّة، وخلق الرهبة والرهاب في نفسية الطرف الآخر، ووجه المقارنة بين الإرهاب والتطرّف، فإنّ الإرهاب مجاله العمل والواقع الخارجي. أمّا التطرّف، فمجاله الفكر والواقع الذهني.

* هل تفهم من العنف معنى سلبياً أو إيجابياً وكذلك الأمر بالنسبة إلى اللاعنف؟

العنف كلفظ وبهذه التركيبة اللغوية قد يكون من المعاني السلبية، من جهة مدلولاته اللغوية، وإيماءاته المعنوية، لأنّه يختزل معاني الغلظة والخشونة والحدية إلى غير ذلك. أمّا اللاعنف كسلوك سلمي، يلتزم ويتقيد بكلّ مظاهر وقواعد السلوك السلمي، فلا شك أنّه من المعاني الإيجابية.

* ما هي العلاقة بين كلّ من العنف والشرع، وهل يؤيد الشرع العنف؟

هذه العلاقة لها صفة مصدرية ومرجعية وتشريعية، بمعنى أنّ الشرع هو الذي يُحدِّد شرعية العنف على فرض القول به، وحدوده، وحتى أخلاقياته، لأنّ الحرب في الإسلام هي حرب بشريعة وأخلاق. ومن حيث الأصل والسلوك والقانون والإطلاق، فإنّ الشرع لا يؤيد العنف، ولا يدعو له.

* كيف تفهم الخطاب الإسلامي الديني وعلى ماذا يُحرِّض، هل يُحرِّض على العنف أم اللاعنف؟

إذا كان المقصود من الخطاب الإسلامي هو اجتهادات المسلمين، فإنّ هذا الخطاب ليس تركيباً كلّياً واحداً في مكوناته وعناصره، وإنّما هو خطابات متعدّدة، ومتنوّعة، ومتباينة أحياناً. فهناك مَن يفهم من الخطاب الإسلامي آيات السيف والقوّة، وهناك مَن يفهم منه آيات الحكمة والموعظة والمجادلة بالتي هي أحسن.

أمّا إذا كان المقصود من الخطاب الإسلامي الديني، الخطاب المراد من الشرع، فإنّه بلا شك يُحرِّض على اللاعنف كسلوك وقانون في العلاقات بين الناس، وفي حلّ النزاعات والخلافات.

* هل تعتبر العنف قاعدة وأصلاً أم أنّه استثناء للضرورات؟ وكذلك اللاعنف؟

العنف لا يمكن أن يكون قاعدة وأصلاً على الإطلاق، لأنّ الاجتماع البشري ليس اجتماع حرب وقتال، ولأنّ الإنسان مدني بطبعه، كما قال الفلاسفة القدماء، بمعنى أنّ الإنسان لا يستطيع العيش لوحده أو في عزلة عن الناس، وإنما له طبيعة الاشتراك مع الآخرين، الطبيعة التي تتولّد منها كلّ حوافز وبواعث تكوين الجماعات والمجتمعات، والجانب المدني هنا هو في الالتزام بقانون مشترك ينظّم الحياة العامّة على أساس نظام الحقوق والواجبات المشتركة، والالتزام بهذا القانون هو الذي يقطع طريق العنف بصوره وأشكاله كافة، وبالتالي فالعنف هو الاستثناء، والضرورات يُحدِّدها الشرع.

* ما هي علاقة الجهاد بالعنف؟ وهل الجهاد هو العنف والعنف هو الجهاد؟

الجهاد هو السلوك العملي الصالح المفترض من الإنسان، ومن الإنسان المسلم تحديداً، فحياة الإنسان ينبغي أن تتحوّل إلى جهاد في بناء النفس، وتنمية الطاقات، واكتساب المعارف والخبرات والمواهب، وفي اكتساب الرزق الحلال، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمشاركة في بناء المجتمع الإسلامي الفاضل، وتكوين المدنيّة، وعمارة الأرض.

والجهاد هو أن يتعامل الإنسان مع الحياة بمسؤولية وفاعلية وسعي وتزكية وتعليم، كما أنّ الجهاد ليس هو القتال، فالقتال هو صورة من صور الجهاد، وهذا الاقتران بينهما، منشؤه أنّ القتال يستدعي من الإنسان بذل الجهد والطاقة والوسع في أعلى درجاته.

* هل يؤدي مفهوم اللاعنف إلى معنى الاستسلام؟

من حيث القاعدة ليس هناك تلازم سببي أو منطقي بينهما، فاللاعنف قد يؤدي إلى الاستسلام، وقد لا يؤدي له، كما أنّ العنف قد ينتهي إلى الاستسلام أيضاً.

وهناك مَن يفهم أنّ العنف هو تمسك بالقوّة، واللاعنف هو تظاهر بالضعف، وهناك أيضاً مَن يفهم أنّ العنف هو سلوك لا يتصف بالحكمة والعقلانية، وإنما بالتسرع والانفعال وقصر النظر، بينما اللاعنف هو سلوك العُقلاء والحُكماء، وإنّ القوّة هي في الحقّ، وليس الحقّ في القوّة.

* هل هناك آثار نفسية واجتماعية وتربوية يمكن أن يخلِّفها العنف من خلال التراكمات السلوكية المتلاحقة؟

هذه الآثار ممكنة، لكنّنا لا نستطيع أن نُحدِّد كمّيتها ونوعيتها، فهي تختلف من فرد إلى آخر، ومن جماعة إلى أخرى، كما أنّها تختلف من جهة نوعية العمل وردّ الفعل عليه، ونجاحه أو فشله، وهكذا من جهة أسلوبه وغاياته. ولعلّ من أوضح هذه الآثار المحتملة ما يولّده العنف من القسوة، أو أن يتحوّل العنف إلى سلوك عدواني، أو ينتقل إلى داخل الجماعة نفسها وبين الأفراد أنفسهم.

وفي التشريع الإسلامي، هناك بعض الأعمال التي صُنفت على جانب الكراهة كعمل الجزار، وهو العمل الذي قد يولّد عند صاحبه القسوة وعدم اللين، أو ضعف جانب الإحساس، أو الشعور والعاطفة.

* ما هي الصلة بين القمع، الديكتاتورية، الكبت السياسي، والعنف؟

القمع هو استعمال القوّة في فرض السيطرة، والديكتاتورية هي الانفراد في الحكم أو الحكم الفردي، والكبت السياسي هو مصادرة حرّية التعبير عن الرأي الآخر المختلف، وحقّ الأفراد في تكوين الأنشطة والجماعات. وهذه الحالات هي الأرضيات الحيويّة والخصبة التي يتولّد منها العنف، لأنّ العنف المضاد إنّما يولّده العنف، أو يولّده انسداد الأفق.

* هل هناك ربط بين العنف والديمقراطية، بين حرّية الرأي والعنف، بين التعدّدية الفكرية والسياسية والعنف؟

بالتأكيد هناك ربط بين هذه العناصر، فالديمقراطية تسلب كلّ مبررات العنف، وتجعله من دون جدوى، وتزيل حوافزه وبواعثه، وحرّية الرأي تزيل الاحتقان والتوتر والتشنج. أمّا التعدّدية الفكرية والسياسية، فهي تمنع انسداد الأفق، وتفتح على الجميع خيارات المستقبل، وتوفّر أرضيات التواصل والتعارف والتقارب.

* ما هي صلة التنمية الإنسانية، الاقتصادية، السياسية والاجتماعية بكلّ من العنف واللاعنف؟

لا شك أنّ من مسبِّبات العنف: الفقر والبطالة، وسوء توزيع الثروة، والتفاوت الطبقي الحاد بين الناس، وعدم الإحساس بالكرامة، وفقدان العيش الكريم، وغياب الحرّيات، ومصادرة الحقوق، وانعدام المساواة والعدالة الاجتماعية، هذه هي الأرضيات والمناخات والوضعيات التي يتولّد منها العنف.

فإذا ساهمت التنمية الاقتصادية في تحسين حياة الناس، وفتحت للجميع فرص العمل وأبواب الرزق، وحققت عدالة توزيع الثروة، وإذا ساهمت التنمية السياسية في فتح فرص حرّية التعبير عن الرأي، وحقّ الجميع في المشاركة السياسية، وحفظت للجميع حقّ التنوّع والتعدّد والاختلاف، والتداول السلمي للسلطة، واحترام القانون ومرجعية الدستور، وضمنت حقوق المواطنة، وساهمت التنمية الاجتماعية في حفظ الكرامة، واحترام حقوق الإنسان، والتعامل على أساس المساواة والعدل والقانون، فلا شك أنّ هذه التنمية في هذه الأبعاد سوف تزيل جذور ومسبِّبات العنف.

* هل يمكن أن نطلق على بعض حالات استخدام القوّة، التاريخية والمعاصرة، بأنّها عنيفة أم أنّها دفاع مشروع، وكيف يمكن وضع إطاراً واضحاً لها يحدِّد الحقّ المشروع منها؟

الدفاع عن النفس حقّ مشروع تقرّه الشرائع والديانات السماوية، والقوانين والأعراف الدولية، وكلّ المواثيق والمعاهدات التي تسالم عليها الناس. والدفاع عن النفس يشمل الدفاع عن الدِّين والعرض والمال والأرض والوطن، كما أنّ الدفاع عن النفس لا يعني بالضرورة استعمال القوّة، وليست القوّة هي الطريق الأمثل دائماً في الحصول على الحقّ، والأُطر التي تحدِّد مصادر الحقّ إمّا الدِّين أو القانون أو العُرف.

* هل يمكن أن يعتمد العنف كوسيلة أساسية لحل الكثير من المشكلات التي تواجه الإنسان والمجتمعات؟

العنف أساساً لا ينبغي أن يكون وسيلة لحل المشكلات في المجتمعات، وهذا هو الأصل والقاعدة، وليس هو الوسيلة الحضارية والفاعلة والناجعة دائماً، والمجتمعات ينبغي أن تطوّر من نفسها، ومن قدراتها بالشكل الذي تمنع على الناس استعمال العنف كوسيلة في حل الخلافات والنزاعات والمشكلات، وأن يكون القانون دائماً هو مرجع الجميع وسيِّد الجميع.

* هل يمكن لمنهجية اللاعنف أن تكون بديلاً فعّالاً للكثير من الأزمات المعاصرة، مثل الانشقاقات، النزاعات، الصدامات المسلحة، التفكّك، باعتبار أنّ اللاعنف طريق نحو الحوار الموضوعي، أم لا؟

البديل الفعّال هو الالتزام بالقانون والرجوع إليه، وجعله مرجعاً فعّالاً يلتزم به الجميع، فالمفترض في القانون أن يضمن العدل والحقّ والمساواة. كما أنّ الحوار والتفاهم والعفو والصفح والتراضي والتسامح هي أيضاً من الطُّرق الفعّالة في حل الخلافات والنزاعات والمشكلات بين الناس.

* مشروع النهضة الإسلامية وحركة التغيير، هل يمكن أن تتحقّق من خلال منهجية العنف أم منهجية اللاعنف أم هناك طريق آخر؟

العنف كان فعّالاً في مواجهة الاستعمار ومقاومة الاحتلال، كالذي حصل في جنوب لبنان، ويحصل في الأراضي المحتلة بفلسطين، وإذا كان من حقّ الجميع أن يجتهدوا في اختيار الطريق والمنهج والأسلوب، فإنّ منهجية اللاعنف أو منهجية البناء هي أفضل من منهجية الهدم ►.

 

المصدر: كتاب الإسلام والمدنيّة

ارسال التعليق

Top