• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الديكتاتورية.. من وجهة نظر أخرى

ماهر أبو شقرا

الديكتاتورية.. من وجهة نظر أخرى
◄بمجرّد ذكر كلمة "دكتاتورية"، فإن أوّل ما يتبادر إلى أذهاننا هو الشكل البدائي التقليدي للدكتاتورية، الذي يتّسم بسلطة ذات رأس واحد يسيطر على جميع السلطات. غير أنّ هذا هو أحد أشكال الديكتاتوريات وليس الشكل الوحيد بطبيعة الحال. فجميع أشكال الحكم ديكتاتوريات مهما اختلفت أنواعها وأساليبها وثقافتها والمنهجية التي تستخدمها للإستغلال وتأبيد نظام حكمها. وفي الواقع، إنّ أي نظام حكم يبقي ويعمّق ويعمل على تأبيد الانقسام العمودي على مستوى العقل لهو ديكتاتورية تماماً. والديمقراطية لا يمكن أن تكون إلا في عالم لا وجود لسيطرة فئات فيه على فئات تسوده العدالة الاجتماعية والتكافؤ والمساواة والسلام، وسط وحدة تامة للعقل بحيث يختفي التناقض العمودي تماماً، ويصبح التنوّع الثقافي والتناقضات الثقافية الأفقية مصدر غنى، وقيمة تحكم تطوّر العقل لا مبعثاً للعصبوية والقتل والحروب. وبطبيعة الحال، فإنّ هذه الديمقراطية الحقيقية لا يمكن أن تحصل في بقعة معينة من الأرض بمعزل عن أخرى وإلا أصبحت ديكتاتورية، ولا يمكن أن تكون إلا في نمط اقتصادي أممي يسود العالم بأسره... والديكتاتوريات سواء أكانت مباشرة كالأنظمة الشمولية في الدول العربية، والتي في طريقها إلى الزوال، ودول ما كان يسمّى بالمعسكر الاشتراكي كالاتحاد السوفييتي ودل أوروبا الشرقية، أو ديكتاتوريات دينية، أو ديكتاتوريات غير مباشرة كالولايات المتحدة ودول العالم الغربي، هي في جميع الأحوال أنظمة تعبّر عن مصالح الفئة المسيطرة في المجتمع. وهي في جميع الأحوال أيضاً ديكتاتوريات تفعل المستحيل حتى تهيمن منظومتها الفكرية والثقافية على المجتمع الذي تسيطر عليه بما يخدم متطلّبات سيطرتها. وفي وقت قد يبدو هذا الأمر واضحاً في الدكتاتوريات الدينية والديكتاتوريات المباشرة، فإنّ الديكتاتوريات غير المباشرة، كالديكتاتوريات الرأسمالية، دائماً ما تتغنّى باحترامها للتنوّع والاختلاف الثقافي. غير أنّ الواقع هو عكس ذلك تماماً. فالرأسمالية تُنشئ وستستمرّ بتعميم مجتمعات يغيب عنها البعد الحضاري التاريخي والثقافي والنقاش الفكري والتنوّع. مجتمعات رمادية تلبّي حاجة السوق ومتطلّبات الاقتصاد الرّاهن... أمّا أساليب الحكم وإن اختلفت، فإنّ السمة العامة لجميع الديكتاتوريات هي الحاجة إلى صراعات ونزاعات وتناقضات أفقية تخدم تأبيد التناقض العمودي الذي عماده الاستغلال. فالحاجة إلى عدوّ هي سمة عامة لجميع الديكتاتوريت، عدو يبلور التناقض الأفقي الذي يموّه التناقض البنيوي الذي تستغلّه الفئات المسيطرة. وبالتالي فإنّه من السهولة بمكان أن نتبيّن كيفية التناقض من خلال تحليلنا للأطراف المتناقضة وعلاقتها بعضها ببعض. فمن الواضح أنّ طرف التناقض الأفقي غير البنيوي يقوى كلّما قوي الطرف النقيض، بمعنى أنّ طرف التناقض الأفقي بحاجة إلى أن يكون خصمه قويّاً حتى يجيّش الناس على هذا الأساس. بالمقابل، فإنّ أطراف التناقض البنيوي العمودي تضعف طرفاً كلّما قوي الطرف الآخر. ومن البديهي إذن أنّ الشعوب المقهورة كلّما قويت وتحرّرت وتطوّر مستواها المعرفي، ضعفت قبضة السلطة... وفي وقت تعتمد الديكتاتوريات المباشرة مسمّيات تغذي العصبوية بشكل كبير كالقضيّة المركزية والمعركة المصيرية والمؤامرات وحتى العدالة الاجتماعية والاشتراكية وما إلى هنالك، تقوم الديكتاتوريات الدينية بتغذية بارانويا الاستهداف الثقافي والقيم والدين والعائلة والأخلاق وما إلى هنالك. بالمقابل، فإنّ الديكتاتوريات غير المباشرة تعتمد مستويات مختلفة من التناقضات الأفقية مما يتيح لها بيكاراً أوسع للإستغلال. فهي من جهة تتيح العمل السياسي "الديمقراطي" بحيث ينشغل الشعب بالتنافس السياسي الداخلي الأفقي عوض الاشتباك العمودي مع الفئات المسيطرة المتنفّذة من كبار المتمولين الذين يحمي النظام السياسي نفوذهم وأموالهم وسلطتهم ويعبّر عنها. فما السلطة السياسية في هذه الدول سوى تعبير عن مصالح تكتّلات اقتصادية كبرى. والساسة والقادة العالميّون هم باعة ومسوّقون يمثّلون كارتيلات اقتصادية كبيرة جلّ عملهم يكون لمصلحتها. هم يصلون إلى مناصبهم بالانتخاب، غير أن عملهم يتمحور حول عقد صفقات تجارية عالمية بين الدول كعقود النفط مثلاً أو الطاقة أو السلاح... وفيما تظهر هذه الأنظمة أنظمة ديمقراطية حقيقية، غير أنّ جميع من هم في السلطة يمثّلون الأغنياء فقط، بينما الغالبية الساحقة من الشعوب غير قادرة على الوصول إلى من يمثّلها اقتصادياً في السلطة لعوامل اقتصادية وسياسية يكرّسها النمط الاقتصادي الرأسمالي. ومن جهة أخرى، تبرز الحاجة إلى العدوّ الذي يخلق للسلطة قضية أفقية إضافية تبرّر التدخّل الخارجي فتتّسع مساحة الاستغلال ومداه تحت مسمّى حماية الديمقراطية وحماية المصالح والأمن القومي وما إلى هنالك. وفيما تتسيّد العقول العملية المتطرّفة الحكيمة الديكتاتوريات المباشرة والدينية حتى، فإنّ الديكتاتوريات غير المباشرة هي مساحة عقول أدهى وأخبث، العقول العملية الحكيمة. وما الانتقال السياسي من ديكتاتورية إلى أخرى سوى نزاع أفقي يسعى إلى استبدال فئة مسيطرة بأخرى، غير أنّ ذلك يبقى جزءاً من سيرورة تطوّر الشعوب ونضوجها ونضوج إيمانها بقدرتها على التغيير، جزءاً من حركة التاريخ...   المصدر: كتاب العقل.. سفر في عالم مجرّد

ارسال التعليق

Top