السيد حسين نصر/ تعريف: داخل الحمداني
فلسفة الفقه، تشكّل بُعداً من أبعاد الإسلام، عسيرَ الفهم على الغربيين، وهي تشكّل الأساس العقلي للشريعة (بمعنى الطريق لغة)، وبما أنّ المسيح لم يأتِ بشريعة مثل الشرائع التي جاء بها أنبياء العهد القديم ونبيُّ الإسلام (ص)، فإنّ القوانين الدينية الغربية تميزت بالاختلاف قياساً بقوانين الإسلام، وحتى في القرون الوسطى، فإنّ المجتمع الغربي وإن كان مسيحياً بشكل كامل، فإنّ قوانينهم المتداولة كانت تؤخذ من المصادر الرومانية والقوانين العرفية التي تختلف عن القوانين السماوية والنواميس الإلهية.
وعلى هذا، فإنّ النصوص الدينية المسيحية كانت تتناول المسائل الروحية، فقط، إذ لم تكن تشتمل على القوانين المرتبطة بالمجتمع والحياة المدنية بشكل كامل، بالإضافة إلى ذلك، فإنّ علماء المسيحية جاؤوا بنظرية الحقوق والقوانين الطبيعية المعقّدة التي ليس لها مثيلٌ دقيق في الإسلام، وإن كانت هناك نقاطُ اشتراك كثيرة بين الإسلام والمسيحية يمكن أن يكون محلّاً للمقارنة.
والقوانين الطبيعية تعني في الأصل مجموعة من القوانين تتكفل ضمان العدالة والمساواة لكلِّ أفراد البشر، وتُرجع نشأة تلك القوانين إلى الطبيعة.
وقد جاء "توماس الأكويني" بأفضل صياغة وتفسير لهذا المفهوم حينما قال: (إنّ القوانين الأزلية في علم الله تعالى، ونحن نتعرف عليها تارةً عن طريق الوحي، وأخرى عن طريق العقل).
إنّ القوانين الطبيعية في نظر القدّيس "توماس" هي انتفاع العاقل من القوانين الأزلية، والقوانين البشرية لابدّ أن تستفاد من الحقوق والقوانين الأزلية على أساس أحكام يمكن أن يدركها عقل الإنسان.
أما المتكلمون المسلمون، فإنّهم مع وجود كلّ الجدالات في إمكانية إدراك العقل حسنَ الأشياء وقبحَها من دون الاكتفاء على الوحي، إلّا أنهم لم يبسطوا القول في نظرية القوانين والحقوق الطبيعية كما بسطتها مدرسة "توماس".
وتقترب رؤيةُ هؤلاء من رؤية "دانز اسكوتس" و"فرانشسكو سوارز" اللذين يريان أنّ الإرادة الإلهية هي منبع القوانين دون العقل، على أي حال، فإنّ الاختلافات موجودة بين المدارس الكلامية الإسلامية وبعض المدارس الكلامية الكاثوليكية في فلسفة الفقه في القرون الوسطى.
ومنذ أن بدأ عصر النهضة الأوروبية وما تلاه من أدوار، بدأ الغرب بإقصاء الدين وفصله عن القوانين والتشريعات، واعتبر أنّ القوانين في حالة تغيُّر مستمرة؛ والمجتمع وبحسب الظروف والملابسات له كلمة الفصل في إمضائها أو إبطالها.
وبظهور النظام الديمقراطي وحكومة الشعب، أصبح هذا الأمر بيدِ النواب، فهم يشرّعون وينسخون القوانين.
وفي خضمّ ذلك يصبح من اليسير استيعاب لماذا وقع الغرب في مشكلة فهم الرؤية الإسلامية، بل الأعمّ من ذلك رؤية الأديان السماوية للقوانين والحريات، وأنها نابعة من الإرادة الإلهية وليس للمجتمع دخلٌ في إيجادها. وأنّ المجتمع متلقٍّ وليس له الحقّ في تعيين القوانين.
أمّا إدراك هذه الرؤية (الإسلامية)، فليس بعسير إذا رجع الغربيون فقط إلى قانون وشريعة اليهود وإلى العهد القديم – وهو قسم من كتاب المسيحين المقدّس – إذ إنّه في العهد القديم توجد تعاليمُ واضحة تشير إلى مفهوم القانون في المجتمع الإنساني، وعلى أساس تلك التعاليم فإنّ الله القادر والمهيمن على الناس هو المرجع الوحيد في تشريع القوانين، وإنّ قوانين المجتمع البشري مظاهرُ لإرادته.
لقد أطَلق الكتاب المقدّس على القانون، عادةً، اصطلاحاتٍ، منها: الأوامر الإلهية، التعاليم، الخطاب، القاعدة واعتبر أنّ نقض القانون والخروج على المقررات الإلهية ليس تعدياً على المجتمع فحسب، وإنما اعتبره جرماً أخلاقياً وتمرّداً على الأوامر الإلهية، وعلى أساس تلك الأوامر يكون الإنسان مسؤولاً من أعماله أمام الله.
ولا يفرّق الكتاب المقدس بين الخروقات والمخالفات الدينية والدنيوية في مقابل القانون، فالقانون معيار وميزان لابدّ من اتّباعه وإطاعته من جميع المخلوقات وليس الإنسان فقط.
وعلماء اليهود (الأخبار) أيضاً كانوا يرَون أنّه لا يوجد اختلاف بين القانون الإلهي والقوانين الإنسانية كما يدّعي الرومان، ويرون أنّ القوانين كلها هي من تجلّيات وآثار الإرادة الإلهية، ويقترب هذا الفهم الكلي لمعنى القانون في الإنجيل (الكتاب المقدّس من معناه في القرآن، ولو عرف الغربيون اليوم ماذا يقول العهد القديم في ما يخصّ القانون، وأدركوا ماذا يفهم اليهود الأصوليون المعاصرون من شريعة (التلمود) وعملوا بها لأصبح من السهل عليهم إدراك فلسفة الفقه في الإسلام.
إنّ المسلمين يعتبرون أنّ الله حاكم مطلق ومتعالٍ، أنزل قوانينه وشرائعه عن طريق الأنبياء، فالشريعة تمثّل مظهراً للإرادة الإلهية تشمل بمفهومها الكلي صفحة الخلق، وما نسميه بقانون الطبيعة فالشريعة حاكمةٌ على المراتب المتنوعة في الواقع المادي، وإن كان هناك قوانين غير دينية على مستوى العمل في الدين الإسلامي، إلّا أنّه لا يوجد فرق بينها وبين القوانين الدينية، وحسب الرؤية الإسلامية، فإنّ هذه الشريعة جاءت لتنظيم المجتمع وعقلَنة أعمال أفراده لا أنّ المجتمع يعين القوانين وينظم الدساتير.
إنّ أحكام الشريعة، خالدة ويمكن تطبيقُ أصولها على ما يسمى بالمسائل الجديدة، لكنّ المهم هنا هو مدى انطباق النظام الإنساني مع القواعد الإلهية والأصول الشرعية وليس بالعكس، ثمّ إننا لو افترضنا أنّ الشريعة والقوانين الإلهية محصورة ومقتصرة على القرن الأوّل الهجري، فإننا بهذا كالذي يقول لمسيحيٍّ ما، إنّ حب الجار واجتنابَ الزّنا أحكام خاصة بالفلسطينيين قبل ألفَي سنة ولا ربط لها بزماننا، أو كالذي يقول لليهودي: إنّ حرمة الصيد في يوم السبت منسوخة، وهي وخاصة بفترة كانت قبل ثلاثة آلاف سنة.
نعم، يمكن للعلمانية الجديدة أن تقيم مثل هذه الأدلة على اختصاص الشريعة بفترة زمنية معينة إلّا أنها لا تستطيع أن تفسر كيف أنّ المسيحيين واليهودَ أوفياء لشريعتهم وتراثهم إلى الآن.
فإذا عرفت العلمانية أنّ المسيحيين يعتقدون أنّ تعاليم المسيح خالدة ومستمرّة فسوف يتيسر لها فهم نظرة المسلمين إلى شريعتهم ويزداد الأمر يسراً بالنسبة لليهود؛ لأنّ رؤية الإسلام إلى الشريعة شبيهة جدّاً برؤية اليهود في هذا الإطار وشريعة الإسلامية قريبة جدّاً من (Halakhah) (الشريعة اليهودية).
إنّ دين الإسلام كما هو الحال في اليهودية، يمنح الشريعة قيمة أكبر مما يمنح المفاهيم الكلامية والاعتقادية، فيمكن لأي مسلم على هذا الأساس أن لا يكون له أدنى اهتمام بعلم الكلام والإلهيات، ومع ذلك فهو مسلم حقيقي بينما لا مناص من الخوض في الإلهيات حتى يكون الفرد مسيحياً حقيقياً، على نحو يمكن القول: إنّ الإلهيات عند المسيحية تحظى بالدرجة نفسها من الأهمية للشريعة في الإسلام.
فشرط الإسلام هو الإيمان بالشريعة، وإن لم يتمكن الفرد المسلم من أداء أحكامها تفصيلاً. وفهم الشريعة يعني معرفة شكل وبناء الشريعة الظاهري للدِّين الإسلامي، وحتى أولئك الذين اتخذوا الظاهر (الطريقة) معبَراً للوصول إلى الحقِّ المطلق (ما وراء كل الظواهر) لم يتعدّوا على حرمة الشريعة ولم يستهينوا بها؛ ولذلك نرى أنّ أكابر الفلاسفة المسلمين ملتزمون بالشريعة كابن سينا، وابن رشد وغيرهما.
وكذلك كان العارفون والأولياء الإسلاميون على هذا المنوال، والذين من جملتهم ابن عربي الذي يقول: (إنّ قلبَه معبدٌ للأصنام وبيتٌ للتوراة والإنجيل والقرآن). لكنّه مع هذا لم يرغب عن الشريعة حِوَلاً، ولم يتركها، والتزم بها إلى آخر لحظات عمره.
إنّ السموَّ الروحي والمعنوي في الإسلام لا يعني أبداً عصيان الأحكام والتمرد على الشريعة ونبذ المستوى الظاهري لها، بل إنّه ينطلق من قلب الشريعة وباطنها، فإذا وُجد من فقدَ هذا الشعور نتيجةَ اشتغاله بالعشق الإلهي، فهو من الموارد الاستثنائية، وهو أيضاً مؤيّد لما ذكرناه من القاعدة الكلية.
والكلام هو في الإسلام على المستوى الظاهري في الأعمال الفردية والموازين الاجتماعية، والشريعة التي كانت على طول القرون دليل أولئك الذين أردوا ويريدون أن تكون حياتهم طبقَ منهج الإرادة الإلهية بشكلها الإسلامي، كما قال المسيح: (إلهي حكمَت إرادتُك الأرضَ كما حكمَتِ السماء).
والإرادة الإلهية في نظر المسلمين تجلّت في الشريعة المقدّسة، وحتى نكون على مستوى إرادة الله (في نظرهم) لابدّ أوّلاً من العمل بأحكام الله وشريعته، وعلى أساس العمل بتلك الشريعة تكون إرادة الأولياء في طول الإرادة الإلهية، فالله هو المشرّع والمقنّن وشرائعه ونواميسه التي تعتبر الناس سواسية بالنسبة إليه تعطي الحياة قداسة ورونقاً.
إنّ الشريعة الإلهية المقدسة تملأ جميع جوانب الحياة، لا فرق في ذلك بين الأمور المقدسة وغير المقدسة أو الدينية وغير الدينية، وحيث إنّ الله خالق كلّ شيء من غير المنطقي أن نجعل أيّاً من قوانين الحياة خارجَ دائرة شرائعه ونواميسه، حتى أقلّ الأشياء تطبيقاً في الشريعة، فإنّها أيضاً مقدسة؛ والمؤمنون الذين يرسمون حياتهم طبقاً لأحكام الشريعة، تكون حياتهم مَظهراً للبركة والعطاء ويقضون لحظاتٍ سعيدةً مع الشريعة المقدّسة المرسومة لهم من الله، وفي النهاية ترشدهم (الشريعة) إلى السعادة الأبدية ولقاء الله.
إنّ الحياة المبنية على أساس الشريعة ببعُدَيها الظاهري والباطني، هي حياة أخلاقية بكلِّ ما تعنيه الكلمة من معنى.
المصدر: قلب الإسلام (قيم خالدة من أجل الإنسانية)
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق