• ٨ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٣٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الصلاة عبادة عظيمة

أ. محسن قرائتي

الصلاة عبادة عظيمة

 

إنّ حبّ الإله وعبادته والتّصاغر أمامه والتواضع لعظمته هو ثمرة معرفته، والمعرفة هي أساس العبادة والعبودية، معرفة الله والإقرار بأنّه خالق الكون والإنسان تُشعِر الإنسان بالعبودية لله والطاعة لأوامره، ويتجلى هذا الأمر بأروع صورة في الصلاة، وما فيها من سجود في الحضرة الإلهية ومناجاة ودعاء وحمد وشكر وثناء عليه سبحانه.

  - لماذا نعبدُ الله؟

إنّ سرّ خَلق الإنسان والغاية من إيجاده هي عبادة الله وطاعته، هذا ما تقوله الآية المباركة: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات/ 56)، وهذه الحكمة الإلهية هي نفسها أساس بعث الأنبياء (ع): (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (النحل/ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (النحل/ 36).

إنّ سعادة الإنسان وعزّته كافية في العبادة، والعبادة هي التجارة التي لا يربح أحد منها غير الإنسان، فالله تعالى هو الغني المطلق، الذي لا تنفعه عبادة العابدين، ولا تضرّه معصية المذنبين، ألا ترى إلى المعلم، حين يُوصي تلاميذه بالدرس والمطالعة، إنّما يقصد في ذلك فائدتهم وصلاحهم، ولا يعود عليه من نشاط المُجدّين وفشل الكسالى نفعاً ولا ضرراً؟

  - علل ودوافع العبادة:

1- عظمة الله: حينما يتعامل المرء مع شخصية معروفة محترمة، أو عالم من العلماء، تراه يظهر لهما الاحترام والتكريم ويقف أمامهما بتواضع، لأنّه يحسُ بالصغر أمامهما، هذا مع أناس أمثاله فكيف الموقف والحال مع خالق الكون، وكل ما في الكون من عظمة وجلال؟!

إنّ إدراك الإنسان لعظمة الله وكبريائه أساس مهم في حصول حالة التعظيم والعبادة والطاعة.

2- الإحساس بضرورة الإرتباط بالمطلق: العجز والضعف والحاجة هي حال الإنسان وحقيقته، أما الغنى المُطلق وملكية كل شيء فهي حقيقة الله عزّ وجلّ وحده. وفي هذا أثر كبير في دفع الإنسان إلى الطاعة والعبادة.

3- شكر النعمة: إنّ نِعَمَ الله على الإنسان لا تُعدّ ولا تُحصى، وهي تحيطهُ وهو جنين في بطن أمّه، وتصاحبه طيلة حياته الدنيا، وترحل معه إلى الآخرة (إن كان من أهل النعيم)، يقول تبارك وتعالى: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (قريش/ 3-4). فمن كان ذا بصيرة لفضل ربّه وخيراته، فلابدّ أن يكون شاكراً حامداً له، وخير طريق وأفضل تعبير عن العرفان والشكر هي الطاعة والعبادة لله سبحانه.

4- الفطرة: العبادة هي طبع الإنسان وفطرته، وهو مجبول عليها في طينته، العبادة حاجة أصيلة في الإنسان لابدّ من إشباعها، لذلك فقد يهتدي إلى الطريق الصحيح والسبيل المستقيم، وهو صراط العبودية لله تعالى، وفي هذا يكون الكمال والمنال وقد ينحرف عن الجادّة، ويتّجه إلى آلهة باطلة كالأصنام والقمر والشمس والعجل والبقرة والمال والمقام والازواج والطاغوت وغيرها، فيكون الهلاك والخسران. ومن هنا جاءت بعثة الأنبياء (ع) لتحمل معها معالم الهدى إلى الصراط الحق. يقول الإمام علي (ع) في الخطبة 147 من نهج البلاغة: "فبعث الله محمداً بالحق ليخرج عباده من عبادة الأوثان عبادته".

إنّ العبادة لدى الإنسان أمر فطري كميل الأطفال إلى الطعام، فأنت ترى الطفل يلتهم التراب ويشعُر في ذلك بالإلتذاذ، لأنّه محتاج إلى غذاء، ولأنّه لم يُوجه الوجهة الصحيحة. ونفس الشيء يصدق على العبادة، فإنّ الفطرة الإنسانية المجبولة على العبادة لا تتوانى عن الاتجاه إلى أي شكل من أشكال العبادات، حتى وإن كانت عبادة منحرفة باطلة، إذا لم تُرشد إلى السبيل السويّ، ولم تُهد إلى الصراط المستقيم.

  - كيف نعبد الله؟

العبادة التي هي حضور أمام خالق الكون ومالكه، وجلوس على الموائد المعنوية التي جعلها الله تعالى لعباده، لا تُؤخذ إلا منه سبحانه، فكما أن عنوان البيت يُؤخذ من صاحبه، وكما أنّ الضيافة الصحيحة، هي التي يُراعى فيها رغبة الضيف وذوقه، كذلك العبادة – سواء في شكلها وكيفية أدائها، أم في مضمونها ومحتواها – يجب أن تكون وفقاً لما أراده الله وأمر به، والطريق إلى معرفة ذلك هو علماء الدين، والكتب الدينية.

إنّ أفضل العبادات، هي تلك التي تتوفر فيها المواصفات التالية:

1- أن تكون عبادة واعية: في هذا لإطار نقرأ الأحاديث الشريفة الآتية: "ركعتان من عالم خير من سبعين ركعة من جاهل"[1]، "المُتعبّد على غير فقه كحمار الطاحونة يدور ولا يبرح"[2]، "من صَلى ركعتين يعلم ما يقول فيهما انصرف وليس بينه وبين الله ذنب"[3].

وكذا تكون الصلاة معراج الروح، ووسيلة قُربٍ إلى الله.

2- أن تكون عبادة حُبّ: عندما تكون العبادة قائمة على حبّ الله، والشوق لمناجاته، فإنّ هناك أنس وذوق واندفاع ونشاط ورغبة وحماس يحصل في النفس، وعلى العكس، فإن أداء العبادة بكسل وفتور هو مؤشر على عدم الاشتياق للدعاء والنجوى، لذلك نقرأ في الدعاء "... واجعل نشاطي في عبادتك"[4].

إنّ مثلَ الذين لا يشعرون بحلاوة طعم العبادة، كمثل المريض الذي لا يتذوق طعم الغذاء مهما لذّ وطاب. وفي حال وجدان الحبّ والشوق، فلا حاجة بعدها إلى الحثّ والترغيب، لأنّ هناك اندفاع ذاتي، وميل باطني، وحالة تَرقّب وانتظار وَعَدّ للوقت لحظةً لحظةً شوقاً للقاء المحبوب.

إنّ سماع صوت (الأذان) عند أهل الحب، هو إعلان لقرب ساعة اللقاء، وقد كان رسول الله (ص) يُنادي بلالاً حين وقت الصلاة قائلاً: "أرحِنا يا بلال".

3- أن تكون عبادة خالصة: آفة العبادة الرّياء، أمّا الإخلاص فهو أثمن شيء للعبادة والصلاة. والإخلاص ليس أمراً سهلاً، فمن أجل طرد الشيطان ووساوسه عن النفس، لابدّ من بذل جهد كبير، وتحمل ألم شديد، ولابدّ من التسلّح بإرادة قوية، وهمة عالية، إذ لا قيمة للعبادة عند الله، ما لم تكن نقيّة خالصة، ولا وزن عند الله للسجود والقراءة والركوع والوقوف في جميع صلاة الجماعة، إلّا بالإخلاص، ولابدّ من تطهير الصلاة والعبادة من صبغ الرّياء، وتزيينها بالصبغة الإلهية "صبغة الله" للقبول والوصول إلى الله، (وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (البينة/ 5).

4- أن تكون عبادة خاشعة: الخشوع حالة قلبية، وهو ثمرة التوجه والمعرفة الكاملة لمقام وأهمية العبودية في المحضر الربوبي، فحينما يتعرف الإنسان على نقاط ضعفه ومواطن عجزه ويعرف عظمة ربّه وكماله المطلق، يقف أنئذٍ بين يدي الله بقلب خاشع متضرع متجه إلى معبوده وربّه يناجيه ويدعوه بتلك الصورة التي يصفها القرآن: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (المؤمنون/ 2). وجاء في الحديث الشريف: "اعبد الله كانك تراه"[5]، ونقرأ في حديث آخر: "فصلّها لوقتها صلاة مودّع"[6]، بمعنى أن يستشعر المُصلّي، وهو يؤدي صلاته، وكأنّها آخر فرصة من عمره. وفي ذلك حثّ على الأداء لها بأحسن وجه ممكن.

5- العبادة الخفيّة: قال رسول الله (ص): "أعظم العبادة أجراً أخفاها"[7].

لماذا هذا التأكيد على إخفاء العبادة، وعدم المجاهرة بها؟

الجواب: لأنّ العبادات، وخاصة المستحبة منها، والتي تؤدى على مرأى الناس ومسامعهم تكون الأرضية فيها مهيأة لحصول حالة الرّياء، ومتى حصل الرياء تضاءل الأجر والثواب، هذا في الموارد التي ليس فيها أمر وإلزام أو تأكيد على الأداء عَلانية، كما هي صلاة الجماعة في المسجد التي تفوق بثوابها وفضيلتها الصلاة في البيت فرادى.

إنّ الشيطان – وهو العدو الأوّل للإنسان – قد أقسم على إغواء الإنسان، وإفساد عبادته، وإبطال أعماله العبادية، من خلال طرق كثيرة، منها طريق الرياء وإفساد النيّة، ومنها العجب واستكثار العبادة، ومنها إيقاع الإنسان بمستنقع الذنب، فيحبط العمل العبادي، وتذهب الجهود هدراً، كمن يزرع زرعاً، فيأتي وقت حصاده بعد عناء وتعب كثير، ولكنه بدلاً من الحصاد، يوقدُ فيه شرارة نارٍ تحرقه وتجعله رماداً، وكمثل ماء زلال في كأس نظيف، لوثته قطعة تراب سقطت، أو حشرة هوت فيه. وهكذا يعمل الرياء والذنب حينما يصيب العبادة، إذ تحترق الصلاة بالرياء، والعبادة بالعجب، والصدقة بالمنّة، والحسنات بالغيبة، ولا يبقى منها أثر.

  - شروط التكليف:

(التكليف) هو الفارق المهم بين الإنسان وسائر الكائنات الحية، وهذا من مفاخر الإنسان أن يتشرف بنزول أوامر الله عليه، وأن يتعهد بأدائها وإنجازها، كما شاء ربّه عزّ وجلّ.

كان أحدُ العلماء يقيم في الذكرى السنوية لبلوغه سنّ التكليف احتفالاً خاصّاً، وكان يقول بأنني قد حظيت في مثل هذا اليوم بأن أكون أهلاً لقبول المسؤولية، وأداء الواجبات الإلهية.

وحقيقةً إن يوم البلوغ، هو يوم مبارك، وحرّي أن يقام له حفل تكريم.

والآن مع شرح مختصر لشروط التكليف:   1- البلوغ:

إكمال خمسة عشر سنة، والدخول في السادسة عشرة، هو سن البلوغ عند الذكور، أما عند الإناث فهو إكمال تسعة سنين، والدخول في العاشرة. هذا بشكل عام. وهناك مَن يبلغ التكليف قبل هذا العمر.

ومع البلوغ التكليفي تترتب على الإنسان مسؤوليات شرعية، بعضها واجبات، وبعضها مُحرّمات، يجب معرفتها ومراعاتها.

وهناك أنواع أخرى من البلوغ هي:

البلوغ السياسي: وهو عبارة عن إدراك ووعي المسائل الاجتماعية والسياسية، ومعرفة المجتمع والعلاقات الدولية، وأمثال ذلك.

البلوغ الاقتصادي: وهو بلوغ مُستوىً من النضج والرشد، بحيث تكون له المقدرة على التصرّف في أمواله بشكل عقلاني.

بلوغ الزواج: وهو المرحلة التي يكون فيها الذكر والأنثى – بغض النظر عن السنّ – قادَرين على إيجاز وأداء مسؤولية الزواج، وإنشاء الأسرة، وإدارة أمور حياتهما الزوجية.

ورغم أنّ البلوغ هو شرط التكليف، إلّا أنّ الفتية والفتيات مكلّفون أيضاً – وقبل البلوغ – بمزاولة الأعمال العبادية، وترك المُجرمات والذنوب، وذلك استعداداً واستقبالاً لمرحلة التكليف، وكذلك الأولياء مسؤولون عن تربية أبنائهم، وتعويدهم على الصلاة والعبادة واجتناب المعاصي.

  2- الاستطاعة:

الاستطاعة من شروط التكليف، ومن عدالة الله أن لا يأمر الإنسان بأكثر من طاقته وقدرته، إذ يسقط التكليف عند عجز المكلّف عن أداء العمل، (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) (البقرة/ 286).

  3- الاختيار:

في ظروف الإضطرار لا يجب على الإنسان أداء التكليف، ولو ترك في مثل هذا الحال عملاً عبادياً مُعيّناً، فلا يعتبر ذلك ذنباً ولا إثماً. مثال ذلك عدم الذهاب إلى الحج بسبب قيام الحاكم الطاغوتي بوضع العراقيل أمام الحجاج، وكإجبار الإنسان بواسطة القوة على ارتكاب الذنب، على شرط أن لا يكون ذنباً بمستوى القتل وأمثاله.

  4- العقل:

العقل هو أداة تفوّق الإنسان على الحيوان، والعقل هو شرط التكليف، ووعاء المعرفة والعمل، وبواسطته تحصل عملية العقاب والثواب للإنسان، إذا لا يوجد تكليف، في ذمة المجنون والسّفيه، ولأهمية هذه الجوهرة الثمينة في وجود الإنسان وفي حياته، فقد حرّم الله كل ما يضرّ بالعقل ونشاطه، كالشراب المُسكِر، وأمَرَ بما يُوجب كماله وازدهاره كطلب العِلم، والشورى، والسفر، والاستفادة من التجارب، وغيرها.

  الهوامش:  

[1] سفينة البحار.

[2] المصدر نفسه.

[3] الوافي 10:2.

[4] الدعاء السابع من المناجاة الخمسة عشر.

[5] مصباح الشريعة: 8.

[6] بحار الأنوار 233:8.

[7] بحار الأنوار 251:70.

المصدر: كتاب أسرار الصلاة (خاص بالشباب)

 

 

 

ارسال التعليق

Top