للفن كما للعلم أثر كبير في التربية. بل إنّ الفن والعلم لهما في التربية أثران متتامان لا مندوجة عنهما في تنشئة الأحداث وتثقيف عقولهم وقلوبهم معاً. ولا غرو في ذلك، فإنّ الفن والعلم من أعلى نتاج المواهب الفكرية الإنسانية وأسناه. فإذا تعهَّد المربي مواهب التلميذ العقلية بالعلم، لزمه أن يتعهَّد بالفن عاطفته وقلبه، مادامت النفس الإنسانية كلّاً مشتبك المواهب والملكات، ومادام شأن التربية تعهُّدَ هذا الكلّ المشتبك، ولاسيما في مرحلة التعليم الثانوي.
من أجل ذلك كانت برامج التعليم الثانوي تشتمل، بجانب الدروس العلمية، على بعض الدروس في مبادئ بسيطة لطائفة من الفنون. فإذا دعمت الرياضيات والفيزياء والكيمياء محاكمة التلميذ، ووسَّعت ملاحظته للظواهر، وجعلته يعتاد إدراك ارتباط هذه الظواهر وتسلسل عناصرها، وتماسك العلل والمعلومات فيها فوق تزويدها إياه بالمعلومات الضرورية، جاء الفن من أدب وشعر وموسيقا وتصوير، فهذّب إحساسه وسما بعاطفته وخياله، وعوَّده حب الكمال والإتقان في الأداء، وقلّل فيه الأثرة، وجعله يتذوق الجمال الرفيع في الكون، ويلتمس المصدر الذي يفيض منه الخير مع ذلك الجمال.
هذا ولايزال تدريس الفنون في مدارسنا بعيداً عن الشأن الذي تستحقه، لاعتياد الناس عدم النظر إلى الفنون نظرة جدية هي قيمة بها. وإذا كان تدريس الفنون في بلاد الغرب بالمكانة التي تتصورها، فإنّ الأسرة هنالك تزوّد الطفل بثقافة كافية فيها؛ وهي تكاد تلقِّنه مبادئ الفن، كالموسيقا مثلاً، قبل تلقينه مبادئ الكتابة والقراءة. أمّا في بلادنا العربية فالأمل يكاد يكون معقوداً على المدرسة وحدها، فهي عندنا اليَنبوع الأوّل الأصيل الذي يفيض منه التقدم في هذه المرحلة التاريخية الناهضة التي نعيشها.
ولا يكفينا في هذه السطور أن نردد الألفاظ التي توحي بقيمة الفن التربوية وأن نُلحّ عليها، بل يجب أن نبيّن نمط تأثير الفن في الناشئة بل في الناس جميعاً، وأن نوضِّح آلية هذا التأثير.
إنّ الفن يؤثر في الأفراد من وجهات متعددة. ولكن هذه الوجهت تبقى متساندة ومتضامنة ومتصلاً بعضُها ببعض.
يأتي في البداية تأثيره بالأشكال الجميلة المتقنة التي يعرضها، وبالصيغ الكاملة الممتعة التي هو متصف بها. وتأثيره هذا مشتبك مركب. إنّه حين يعرب عن العواطف والأفكار ويصوغها في أشكال فنية بديعة، يبذل تلك العواطف والأفكار بعض التبديل ويغيرها بعض التغيير. إنّه ينتزعها من واقع الحياة، ولكنها يسكبها في قوالب جديدة، أو هو يصفِّيها على حد تعبير أرسطو. فهو لا يعرض الأفكار والعواطف في أيّة طريقة كانت، لأنّ الطرائق ليست عنده سواء. ينبغي له أن ينتهي إلى تأليف متناسق وتركيب مستحسن متناسب، ويعرضها على النظارة أو على القرّاء في نماذج مقبولة وأشكال جيِّدة ذات جمال صميم ضمني فتبدو تلك العواطف والأفكار عندئذ خالصة من أوشابها الواقعية مجردة من صفتها الخام الأولى. ومن تأمل تلك الآثار الفنية خيِّل إليه كأنّه في عالم جديد مثالي وواقعي معاً. تتلامح منه كائنات كأنّها طبيعية، انتزعت من واقع الحياة، ولكنها ليست لدى الحقيقة إلّا بنات الخيال الإنساني، وخُيِّل إليه أيضاً كأنّما يشارك في إنشاء ضرب من الحرّية الخلّاقة المبدعة. ومن هنا يحصل شعور بالارتياح والصفاء الباطني، بل شعور بسعادة خفيفة هي الجنى الشهي الذي يجنيه من يطوف في خمائل القيم الفنية.
ويشترك الأفراد في تذوق هذه الآثار الجميلة والأشكال البديعة. فهي في هذا التذوق توحدهم وتجمع بينهم، حين تهز بما تتضمنه من إيقاع نفوسهم جميعاً. ومن هنا نتعرّف مكانة الآثار الفنية في حياة الشعب وفي جمع أذواق أفراده وتربيتهم وفي ابتعاث وحدته.
ولكن الفن مدعاة إلى الرفعة والتهذيب فوق كونه وسيلة جمع وتوحيد، فهو بما يلوِّح به من كمال في الصنعة، وبما يعرضه من إتقان في الأداء يستميل إليه النفوس ويُعوِّدها حب الكمال والإتقان. وما أحوجنا نحن في الوقت الحاضر إلى أن نربي النشء عندنا على حب الكمال والإتقان. لهذا كان الفن بهذه الطريقة غير المباشرة يدعم مكارم الأخلاق.
ثمّ إنّ الفن يصرف عن وجهة النظر النفعية، ويُقلل الأثرة، ويعلم التجرد عن المآرب الشخصية، فالمرء الذي يتأمل صورة تمثِّل ثمراً شهيّاً مثلاً، إنّما يتأمل صنعة الصورة والنهج الذي سلكه المصور للإعراب عن فكرته، ويُفضل في تأمله هذا، الأداءَ المتقن على ذلك الثمر الشهي. ألم يبحث الفيلسوف الألماني «كانت» الذوق الفني ويَجد من خصائصه التنزُّهَ عن الآراب والتجرد عن اللبانات؟! فلا عجب إذا ألفينا الثقافة الفنية الصحيحة تُضعف في الأفراد الأنانية وترفع مشاعرهم عن الأمور الدنية.
والتربية الفنية عدا ذلك كلّه، حين تجعل الناشئ يُدرك القيم الفنية ويتذوقها، تحبب إليه الطبيعة وتجعله يتذوق مجاليها وينعم بمشاهدها، من شعاع متألق، وسماء صافية عميقة، وكواكب متلامحة، وجداول متسلسلة، ... إلخ إلخ. ولا يخفى ما في ذلك من غبطة نفسية عميقة تُبهج القلب وتفرح الخيال، وتساعد المرء على محبة الكون والاستبشار بالحياة، والشعور بأنّ في الطبيعة كنوزاً من الغبطة لا تَنفَدُ مهما تجهم العيش واحتدم النضال فيه.
ثمّ إنّ الفن بعد ذلك يستطيع أن يؤثر، بالأفكار التي يوحي بها وبالعواطف التي يصوّرها أو يعرب عنها، زيادة عن تأثيره بصيغه المتقنة ونماذجه الكاملة، ولاسيما حين يكون الفن أدباً شعراً أو نثراً، إذ كان البيان سبيلاً خاصاً وقوياً من سُبل التأثير لا يقل نجوعه عن السبل العملية الأخرى.
ولسبب هذا التأثير الأخير اشتدّ اعتماد الدول الحديثة للفن ووسائله ولاسيما الأدب في الدعاية والسياسة وتوجيه الأنظار إلى القضايا القومية الراهنة وتجميع القلوب حول الغايات الإنسانية المنشودة. ومن المعلوم أنّ كثيراً من الحركات الفكرية العالمية في الوقت الحاضر تسبغ على الفن عامة وعلى الأدب خاصة ما تدعوه بصفة الالتزام. ومعناها أنّ الإنسانية لما كانت ذات تطور وكان الفن من أسى نتاجها الروحي، لزم أن يشترك في هذا التطور وأن يوجه باشتراكه هذا مصير الإنسانية لإنشاء إنسان القرن الواحد والعشرين، المتحرر من القيود والمتخلص من الاستغلال. ولهذا أصبح الفن ولاسيما الأدب يهتم بالحياة الاجتماعية والقضايا القومية، وغدا الأديب رجلاً جدّياً من رجال الفكر له رسالة يؤديها لا متسكعاً في الحانات، ولا متشرداً في الدروب والملاهي.
والأدب العربي أهم أنواع الفنون المدرَّسة عندنا قاطبة. وهو إن اشترك مع باقي الفنون في المكانة التي حللنا عناصرها، فإنّه زيادة على ذلك ذُخرنا القومي وتراثنا الفكري وديوان لغتنا الجميلة الرائعة ورباط تاريخنا العبقري، كما أنّه وسيلة لتعليم النشء أصول البيان وتمرينهم على أساليب التعبير القوي.
ومن الجدير عند تدريسنا للشعر العربي ألا نغفل عن الدور الاجتماعي الكبير الذي لعبه، ولاسيما في زمن الجاهلية وفجر الإسلام. فقد كان الشعراء العرب القدماء يُعنون بأمور قومهم ويجهونها توجيهاً وينافحون عنها منافحة. وفي كتب الأدب العربي ألوف الأبيات من الشعر في الحماية والفخر القومي ومعالجة القضايا الاجتماعية المهمة في ذلك الوقت. وأعظم القصائد المطلولة القديمة، وهي المعلقات، قيل أكثرها في مناسبات اجتماعية وسياسية مهمة. ولا يكاد يجهل أحد السبب الذي من أجله نظم عمرو بن كلثوم معلقته وأشاد فيها بمآثر قومه، كما لا يجهل أحد أنّ زهير بن أبي سلمى أراد في معلقته التنويه بعقد الصلح بين عبس وذبيان وتصوير شناعة الحروب وأهوالها. ومثلهما الحارث بن حلزة والأعشى بن قيس في معلقتيهما من وجه اهتمامهما بالقضايا العربية. هذا كلّه بصرف النظر عن القصائد الصغيرة. وليس في الدنيا شعر أكثر إلحاحاً على الحماسة والفخر والذود عن الحفاظ من الشعر العربي خاصة. قد يقول قائل: إنّ في الشعر العربي قصائد مديح كثيرة أيضاً، ربّما لا يستسيغ الذوق المبالغات التي تتضمنها. ولكن تلك القصائد إنّما كانت تمثِّل عند العرب شمائل الإنسان الراقي وشيم الرجولة والمروءة، فهي تصوّر نماذج إنسانية كاملة جميلة لتكون قدوة للناس. كان الشاعر العربي المجيد يركب هذه الصفات، ببيانه، كما ينحت النحَّات في العصر الحاضر التماثل بإزميله ليُجسِّم فكرة الفضيلة أو الشجاعة أو الحكمة أو الخير أو ما شابه ذلك.
نحن إذن من الذين يدعون إلى تعهد التربية الفنية عند النشيء، وإلى تقوية دعائمها في مراحل التعليم، ومن الذين يدعون إلى إعادة النظر في تدريس الأدب العربي إعادة تلقي عليه نوراً جديداً من النقد، يعرِّفنا أسمى ما أنتجته القرائح الإنسانية.
بل نحن نذهب إلى أبعد من هذا، فنرى أنّ البيان العالي يستطيع أن يدعم تدريس طائفة من المواد ذات الطابع الاجتماعي كالمعلومات المدنية والأخلاق. هذه الدروس حقيقةٌ أن تستنير بسنا الأدب والشعر ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، لا أن تقتصر على هذه العبارات الملتوية المبهمة التافهة التي تغص بها الكتب. إنّ مباحث الأخلاق كالفن في الاعتماد على الإيحاء وعلى الأمثلة العالية المضروبة. ولأن يعتمد مدرّس الأخلاق على شعر جميل، يوحي إلى التلميذ ما يجب عليه سلوكه ويقول بصدق وإيجاز ما ينبغي التحلي به من السجايا المحمودة، أو يخاطب الخيال ويسمو به إلى أجواء المثل العليا، ذلك كلّه أنجع في كثير من الأحيان من هذه العبارات المترجمة الركيكة التي لا ينشط لها القلب ولا يسيغها الذوق.
بل إنّ الفن لأوسع رحاباً من جميع ما ذكرنا بكثير. أو ليست التربية بجميع أنواعها ضرباً من الفن يحتاج إلى صدق وأمانة وإخلاص، وإلى إعطاء المربي الشيء الكثير من نفسه وقلبه؟ وعندئذ ألا يجوز لنا ههنا أن نتذكر قصة ذلك الطير الذي صوره الشاعر «موسه» في إحدى قصائده حين يرى فراخه الزغب مشرئبة الأعناق تمد بمناقيرها الصغيرة نحوه، فلا يسعه إلّا أن يغمس مخالبه في أحشائه ويقدمها لها غذاء سائغاً وهو منتش من لذة التضحية التي لن تضيع؟ ألا يصح أن يكون هذا رمزاً إلى المربي الحقيقي حين يسهر على رسالته السمية ويتكفل إنجازها على حساب قلبه وحشاشته، شأنّه في ذلك شأنُ كلّ صاحب رسالة؟!
· الكاتب عضو في مجمع اللغة العربية بدمشق
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق