◄إنّ من المرتكزات الأساسية في الفكر السياسي الإسلامي هي استقامة الحاكم السلوكية والتزامه بأحكام الشريعة والقانون الإسلامي في كلِّ مجال من مجالاته، سواء الشخصية، أو العبادية، أو السياسية والاقتصادية وغيرها.
فإنّ الحاكم الجائر الفاسق الذي لا يلتزم بقانون الشريعة وقيمها، ولا يمثل الإسلام في سلوكه، هو حاكم منحرف، لا يملك الشرعية، وليس له ولاية على المسلمين، ولا يصلح لقيادتهم، فالإسلام بُني على الحقِّ والعدل والاستقامة، وهي دعوة القرآن وسيرة الرسول (ص) ومنطق الشريعة.
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل/ 90).
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) (النساء/ 58).
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ...) (النور/55).
(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة/124).
(وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ...) (هود/113).
(وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) (الشعراء/151).
وروي عن الرسول (ص) قوله: (لا طاعة لمخلوق في معصية الله).
وروي عنه (ص): (أفضل الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائر).
وقوله (ص): (مَن أرضى سلطاناً بما يسخط ربه خرج من دين الله).
وقوله (ص): (سيد الشهداء حمزة بن عبدالمطلب، ورجل قام إلى إمام جائر، فأمره، فنهاه، فقتله).
وانطلاقاً من هذه المبادئ القرآنية وجب توفر صفة العدالة في الإمام، وحرمة طاعة الحاكم الفاسق والجائر، ووجوب خلعه واستبداله بمن تتوفر فيه صفة العدالة ويمثل الإسلام بسلوكه الشخصي وممارساته السياسية.
والالتزام بولاية الحاكم العادل ووجوب طاعته هي من شرائط الإيمان وواجبات الإنسان المسلم الأساسية، فهي الركيزة الأساسية التي تُبنى عليها وحدة المسلمين ويقام عليها كيانهم السياسي.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ...) (النساء/59).
وتأسيساً على مبادئ القرآن وسنة الهادي محمد (ص) حددنا الموقف الشرعي من الحاكم الجائر والمنحرف عن أحكام الشرعية وقيمها السلوكية، وتبنت التعامل معه وفق الآتي:
1 ـ المقاطعة وعدم التعاون مع الحاكم الظالم، أو التحاكم إليه، أو الاعتراف بولايته.
فإنّ من الأساليب والوسائل السياسية للمعارضة هو أسلوب المقاطعة وسحب الاعتراف من الحاكم الظالم.
وقد تبنى أئمة أهل البيت (ع) مقاطعة الحكام المنحرفين الذين عاشوا في عصرهم، ودعوا إلى عدم التعاون معهم؛ لردعهم عن الظلم والانحراف، ولتمكين الأمة من الضغط عليهم، والتمهيد للإطاحة بهم، واستبدالهم بسلطة سياسية تقوم على أساس الحقِّ والعدل.
فقد روي عن الإمام الصادق (ع) قوله: (العامل بالظلم والمعين له والراضي به، شركاء ثلاثتهم).
وروي عن رسول الله (ص): (مَن عذر ظالماً بظلمه، سلّط الله عليه مَن يظلمه، فإن دعا لم يُستجب له، ولم يؤجره الله على ظلامته).
وروي عن أئمة أهل البيت (ع): (مَن مشى مع ظالم لِيُعينَهُ، وهو يعلم أنّه ظالم، فقد خرج من الإسلام).
وروي عن الصادق (ع) قوله: (إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ أين الظلمة، وأعوانهم ومَن لاق لهم دواة، أو ربط كيساً، أو مَدَّ لهم مَدَّةَ قلم، فاحشروهم معهم).
وتناول الفقهاء بالدراسة والتحليل مسألة تولي الوظائف للحاكم الظالم، فأجمعوا على تحريمها إلا في حالات محددة ما لم ينتج عن تلك الحالات سفك الدماء، فإن بلغ الأمر سفك الدماء ظلماً، فلا عذر ولا إجازة لأحد أن يتولى تلك المهام والوظائف.
قال ابن إدريس الحلي (ره) وهو من الفقهاء في القرن السادس الهجري: (أما السلطان الجائر، فلا يجوز لأحد أن يتولى شيئاً من الأمور مختاراً، من قبله إلا مَن يعلم، أو يغلب على ظنه، أنّه إذا تولى ولاية من جهته، تمكن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقسمة الأخماس والصدقات إلى مستحقيها، وصلة الإخوان، ولا يكون في شيء من ذلك تاركاً لواجب، ولا مخلاً به، ولا فاعلاً لقبيح، فإنّه حينئذٍ مستحب له التعرض لتولي الأمر من جهته، فإن علم أو ظن أنّه لا يتمكن من ذلك، وأنّه لابد له من الإخلال بواجب، أو أن يفعل قبيحاً لم يجز له تولي ذلك...).
وكتب محمد بن جمال بن مكي العاملي عند حديثه عن المكاسب المحرمة قوله: (ومعونة الظالمين بالظلم، ثم أوضح الشهيد الثاني الشارح للمتن هذا الرأي بقوله: كالكتابة لهم، وإحضار المظلوم ونحوه).
وقد أعطت هذه التربية السياسية آثارها في المواقف السلوكية على امتداد التاريخ الماضي منه والمعاصر، وكونت تياراً يحمل روح الرفض والمقاطعة للحاكم الظالم، ويأبى التعاون معه، والخضوع لولايته، فصنعت مواقف سياسية معارضة للظلم والطغيان، تشكّل عمق الوعي السياسي والفهم السليم للحياة السياسية في ظل نظام الإسلام ودولته.
2 ـ الثورة على الحاكم الظالم والإطاحة به. وتبلغ المواجهة السياسية والعقيدية قمتها ضد الحاكم الظالم والسلطة المنحرفة بإعلان الثورة عليه، واستعمال القوة للإطاحة به، واستبداله بمن تتوفر فيه شروط الحاكم المسلم التي اشترطتها الشريعة وربطت شرعية الولاية والسلطة بتوفرها.
وإنّ قراءة تاريخ المواجهة الفكرية والسياسية في حياة أئمة أهل البيت (ع) وأتباعهم للحكام المنحرفين عن تطبيق الشريعة.
فإنّ أول رائد لأسلوب تغيير السلطة بالعنف والثورة من أئمة أهل البيت (ع) هو سبط الرسول الشهيد الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) الذي انطلق في ثورته في محرم عام (61هـ) ليعرّي حكومة يزيد بن معاوية، ويكشف زيفها، وليثبت للمسلمين فقهاً سياسياً يؤمن بالثورة على الحاكم الجائر والمنحرف.
فإنّ الإمام الحسين بن علي (ع) كان يمثل في موقفه هذا ضمير الشريعة، ويجسد الشرعية في شخصيته الإسلامية الفذة، ثم توالت من بعده ثورات علوية، كثورة زيد بن علي عام (121هـ) على الحاكم الأموي هشام بن عبدالملك، وكثورة الحسين صاحب فخ عام (169هـ).
تلك الثورات التي أقرها وأيدها أئمة أهل البيت، الباقر والصادق والكاظم والجواد (ع)، ولإيضاح الأُسس والمرتكزات العقيدية التي بني عليها موقف الإمام الحسين بن علي (ع) نقرأ بعضاً من بياناته، عند إعلانه الثورة على يزيد، ودعوته المسلمين للإطاحة به، فقد ورد في بعض خطاباته للأمة:
(أيها الناس إنّ رسول الله (ص) قال: مَن رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله، ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله (ص) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير ما عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله).
وفي بيان آخر يبين للناس صفة الإمام المفترض الطاعة، ورفض مَن يستولي على مقاليد الأمور وهو فاقد لهذه الصفات:
(فلعمري ما الإمام، إلا الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الداين بدين الحق، الحابس نفسه على ذات الله).
ثم يصرّح للأمة بكشف شخصية الحاكم المنحرف عن الإسلام يزيد بن معاوية لبيان سبب الثورة ودواعيها؛ فيقول:
(ويزيد رجل فاسق، شارب خمر، قاتل نفس، معلن بالفسق، فمثلي لا يبايع لمثله).
ثم يقول (ع): (أيها الناس إنكم إن تتقوا الله، وتعرفوا الحقّ لأهله تكن أرضى لله عنكم، ونحن أهل بيت محمد (ص) وأولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان).
وفي خطاب آخر وجهه إلى أهل العراق مع مبعوثه مسلم بن عقيل يبين أنّ سبب ثورته هو إماتة السنة النبوية وانتشار البدع والانحرافات فيقول:
(أما بعد، فإنّ الله اصطفى محمداً (ص) على خلقه، وأكرمه بنبوته، واختاره لرسالته، ثم قبضه إليه، وقد نصح لعباده، وبلَّغ ما أُرسل به (ص)، وكنا أهله، وأولياءه، وأوصياءه، وورثته، وأحقّ الناس بمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومنا بذلك، فرضينا، وكرهنا الفرقة، وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنا أحق بذلك المستحق علينا ممن تولاه، وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، فإنّ السنة قد أميتت، والبدعة قد أُحييت، فإن تسمعوا قولي أهدكم إلى سبيل الرشاد).
وإذا كانت هذه مواقف أهل البيت (ع) وفقهائهم التابعين لهم من الحاكم الجائر والمنحرف فإنّ لفقهاء وعلماء المذاهب الإسلامية الأخرى آراء سياسية تخالف الفهم القائم في مدرسة أهل البيت (ع) وأتباعهم من الحاكم الجائر والفاسق، فهم يرون وجوب الطاعة والخضوع لإرادة السلطة الظالمة والمنحرفة عن منهج الشريعة.
المصدر: كتاب التشيع.. نشأته معالمه
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق