• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

(إنما يخشى الله من عباده العلماء)

محمد مهدي الآصفي

(إنما يخشى الله من عباده العلماء)

ليس هناك، في المفهوم الديني، من تناف بين العلم والدين، ولا يطرد أحدهما الآخر، وليس يؤدي الاعتراف بأحدهما رفض الآخر وإنكاره.
بل الأمر، في الإسلام، بعكس ذلك تماماً، فإنّ العلم يضاعف الإيمان، وينميه، وكلما يزداد الإنسان علماً يزداد إيماناً بسلطان الله وجلاله وحكمته وكماله، ويزداد خوفاً وخشية من الله، وإلى هذه الحقيقة، يشير القرآن الكريم: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر/ 28).
وهو أمر طبيعي جدّاً، فإنّ الإنسان كلما يزداد علماً ووعياً لأسرار هذا الكون وجماله تنفتح أمام وعيه آفاق جديدة لسلطان الله وحكمته وكماله وقدرته، ويزداد رهبة، وخشية، وخضوعاً له سبحان وتعالى.
وليس أدل على هذا التماسك بين الإيمان والعلم من هذه الدعوة الملحة، في الدين، إلى طلب العلم والاستزاده منه في كل مراحل العمر وفي كل الحالات، ومن هذه القيمة الكبيرة التي يعطيها الدين للعلم والعلماء.
وإذا كان هناك صراع بين العلم والدين في بعض فترات التاريخ، كما حدث ذلك في تاريخ المسيحية، فإن ذلك لا علاقة له بالدين، وإنما هو لون من ألوان الانحراف عن الدين ولا يكون الدين مسؤولاً عما يرتكب الناس بحقه من انحراف.
ويعجبني أن أختم هذا الحديث بقصة يرويها وحيد الدين خان عن العالم الهندي الدكتور عناية الله المشرقي:
"كان ذلك يوم أحد من أيام سنة 1909، وكانت السماء تمطر بغزارة، وخرجت من بيتي لقضاء حاجة ما، فإذا بي أرى الفلكي المشهور السير جيمس جينز (الأستاذ بجامعة كمبردج) ذاهباً إلى الكنيسة، والانجيل والشمسية تحت إبطه فدنوت منه، وسلمت عليه، فلم يرد عليّ. فسلمت عليه مرّة أخرى، فسألني ماذا تريد مني. فقلت له: أمرين يا سيدي. الأوّل هو ان شمسيتك تحت ابطك رغم شدة المطر. فأبتسم السير جيمس وفتح شمسيته على الفور. فقلت له وأما الأمر الآخر فهو ما الذي يدفع رجلاً ذائع الصيت في العالم مثلك أن يتوجه إلى الكنيسة، وأمام هذا السؤال توقف السير جيمس لحظة ثمّ قال: عليك اليوم أن تأخذ شاي المساء عندي، وعندما وصلت إلى داره في المساء خرجت خادمة لدى جيمس في تمام الساعة الرابعة بالضبط، وأخبرتني أنّ السيد جيمس ينتظرني، وعندما دخلت عليه في غرفته وجدت أمامه منضدة صغيرة موضوعه عليها أدوات الشاي، وكان البروفسور منهمكاً في أفكاره، وعندما شعر بوجودي سألني ماذا كان سؤالك، ودون أن ينتظر ردي بدأ يلقي محاضرة عن تكوين الأجرام السماوية، ونظامها المدهش وأبعادها وفواصلها اللامتناهية وطرقها ومَداراتها وجاذبيتها وطوفان أنوارها المذهلة، حتى إنني شعرت بقلبي يهتز بهيبة الله وجلاله، وأما السيد جيمس فوجدت شعر رأسه قائماً والدموع تنهمر من عينيه، ويداه ترتعدان من خشية الله، توقف فجأة، ثمّ بدأ يقول: يا عناية الله عندما ألقي نظرة على روائع خلق الله يبدأ وجودي يرتعش من الجلال الإلهي، وعندما اركع أمام الله، وأقول له انك لعظيم أجد إن كل جزء من كياني يؤيدني في هذا الدعاء وأشعر بسكون وسعادة عظيمة وأحس بسعادة تفوق سعادة الآخرين ألف مرة. أفهمت يا عناية الله خان لماذا أذهب إلى الكنيسة؟.
ويضيف العلاقة عناية الله قائلاً: لقد أحدثت هذه المحاضرة طوفوناً في عقلي، فقلت له يا سيدي، لقد تأثرت جدّاً بالتفاصيل العلمية التي رويتموها لي، وتذكرت بهذه المناسبة آية من آي كتابه المقدس، فلو سمحتم لي لقرأتها عليكم. فهز رأسه قائلاً: إقرأ، بكل سرور، فقرأت عليه الآية التالية:
(وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر/ 27-28).
فصرخ السيد جيمس قائلاً: ماذا قلت؟
إنما يخشى الله من عباده العلماء، مدهش وغريب وعجيب جدّاً!!
إنّه الأمر الذي كشفت عنه بعد دراسة ومشاهدة استمرت خمسين سنة. من أنبأ محمداً به؟ هل هذه الآية موجودة في القرآن حقيقة؟ لو كان الأمر كذلك فاكتب شهادة مني أنّ القرآن كتاب موحى من عند الله، ويستطرد السيد جيمس قائلاً: "لقد كان محمد أُمياً، لا يمكنه أن يكشف عن هذا السر بنفسه، ولكن الله هو الذي أخبره بهذا السر. مدهش وغريب وعجيب جدّاً".

المصدر: كتاب دور الدين في حياة الإنسان

ارسال التعليق

Top