• ٢٥ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العولمة.. العقيدة وفلسفة النهايات

د. جيلالي بوبكر

العولمة.. العقيدة وفلسفة النهايات

  نرى في مقدمة البحث أنّ السياق التاريخي الذي نشأت فيه العولمة وتكوّنت يكشف عن تجلياتها، وهي تجليات ارتبطت أساسا بالفكر والثقافة وبالسياسة والاقتصاد وبالحياة الاجتماعية عامة، وإن كان الاقتصاد وتطوّره له الأولوية في جرّ العالم صوب العولمة وجعلها تشمل ما هو ثقافي وسياسي واجتماعي وعسكري وغيره، بالنسبة للمظهر الفكري والإيديولوجي والفلسفي والثقافي للعولمة عموما والمصاحب للحرص على تعميم الفكر الفلسفي الليبرالي الرأسمالي الذي يقوم على مبادئ الحداثة والتحديث كما يفهمها الغرب، وهو فكر مناهض لكل أنماط الفكر في العالم، هذه المفاهيم والمقولات التي ارتبطت بالنهضة الأوربية وبالإصلاح الديني والسياسي والتربوي والاجتماعي عامة وبالانفجار العلمي والتكنولوجي وبالثورة الصناعية، هي المفاهيم التي قامت عليها العقلانية والفكر النظري في الحضارة الحديثة والمعاصرة، وتمثلت في التنوير وإصلاح العقل وفي العقلانية ذاتها وفي الروح النقدية وإخضاع كل ما هو قائم تراثي فكري وثقافي وعلمي وفلسفي لمعيار النقد والغربلة، والتمسك بالروح العلمية وبمقوماتها في مواجهة الأفكار غير العلمية، وإقصاء الفكر الفلسفي الكلاسيكي الذي تميّز بطابعه الميتافيزيقي والغيبي أحيانا وبطابعه المثالي المجرد في أحيان أخرى، وإبعاد كل ما هو لا علمي من ديني وسحري وغيره، والتمسك بالتوجه العلماني الذي يُقصي كل مقدس أخلاقي أو ديني أو إنساني، ويفصل بين الدنيوي وغير الدنيوي ولا يهتم إلاّ بما هو دنيوي، ومن المفاهيم الأساسية في الفكر الغربي الحرية في الحياة الفردية وفي الحياة الاقتصادية، والحرية والتعددية في الحياة السياسية، وصار مفهوم الحرية شعار الحياة في العالم الغربي فكريا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وممارستها بالصورة الغربية علامة التحضر ومواكبة العصر.
    ارتبط تعميم الحداثة ونقلها خارج الغرب الأوربي وخارج الولايات المتحدة الأمريكية بإيديولوجية العولمة التي تقوم مبدئيا على المبادئ والأهداف التي يحملها النظام العالمي بعد انقضاء عصر الاستقطاب ونهاية الحرب الباردة، مبادئ تمثلت في الحرية والديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان وتعميم منتجات العلم والتكنولوجيا في العالم وحماية البيئة والحد من التسلح ومنع انتشار التسلح النووي وأسلحة الدمار الشامل، واعتماد أسلوب الحوار والتسامح والتعايش  من خلال حوار الأديان والثقافات والفلسفات، والعقلانية التي قام عليها الفكر الليبرالي الحداثي والمبادئ التي تمثلّتها القوى الكبرى أخذت طابع العولمة وصفة الكونية والكوكبية من خلال حرص القوى المهيمنة على نشر ثقافة العولمة الفكرية والفلسفية والتي تمُثل في جوهرها النموذج الثقافي الفكري والفلسفي الغربي الأمريكي بجميع خصوصياته، النموذج الذي ارتضاه الغرب لنفسه وفرضه على غيره عن طريق العولمة التي تجلّت فيه تربويا وثقافيا وفكريا وفلسفيا، ومن الجانب السياسي سيطرة النموذج الديمقراطي الغربي في تنظيم شؤون السلطة وتسيير دواليب الحكم، كما تأسست الرأسمالية الاقتصادية على الليبرالية وعلى حرية السوق وانفتاحه بدون حدود ودون اعتبار للاختلاف بين الأغنياء والفقراء في العالم، وسجلت العولمة وسجل النظام العالمي ومازال هيمنة الولايات المتحدة والغرب الأوروبي على العالم ثقافيا وسياسيا واقتصاديا وإعلاميا وعسكريا، هيمنة تُؤدى وتُنفذ بكل الأساليب المشروعة وغير والمشروعة، كما تستخدم الشرعية الدولية وتوظف كافة المؤسسات الدولية والإقليمية وأنظمة الدول في ترسيخ الهيمنة  وتكريسها.  
    في ظل الظروف الحالية التي يعيشها العالم المعاصر والمتميزة بهيمنة المركز على الأطراف صار موضوع العولمة -بأدبياته وفي سياقه التاريخي- يشكل مجالا واسعا للأطروحات الفكرية والاجتماعية وغيرها، نظرا للدور الكبير الذي أصبحت تحتله العولمة في حياة الفرد والجماعة في العالم، ونظرا للتأثير الكبير الذي صارت تمارسه في الوعي التاريخي في ثلاثية أبعاده، الأمر الذي استدعى طرحا خاصا وتناولا متميزا لقضية العولمة، يراعي طبيعة الموضوع ويضبط المنهج ويحدد الأهداف، والعولمة باعتبارها نتيجة للتطور الفكري والعلمي والتقني الذي صنع التحولات الحديثة والمعاصرة الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية وغيرها، وباعتبارها فكرة ذات عمق فلسفي وأبعاد ودلالات إيديولوجية متصلة بالممارسات العملية في الواقع، ينبغي دراستها باعتبارها إيديولوجيا وكممارسات وآليات عملية -لها مظاهر وانعكاسات وتداعيات-تُستثمر في واقع متحرك تحولاته متسارعة، وينبغي أن يرتبط بحثُ العولمة باتجاهات ومواقف المفكرين والمثقفين عامة، وهو أمر يشكل حملا ثقيلا بالنسبة للدراسات الجادّة، لكون العولمة ظاهرة ديناميكية مرتبطة بواقع متغير باستمرار جوانبه متعددة ومتنوعة، ومتصلة بالتنوع الثقافي والإيديولوجي والعقائدي والعرقي وغيره، خاصة في العالم المتخلف النّامي الذي تمثل بلدانه الأطراف في مقابل المركز.
    لقد أشار العديد من المفكرين أمثال "روجيه غارودي" قبل سنوات بأنّ العقيدة الجديدة التي تحل محل العقائد الموروثة هي عقيدة المال والأعمال والاقتصاد، تروج لها العولمة وبالأحرى الأمركة، العولمة التي صارت تشكل دينا جديدا هو دين النخبة الاقتصادية والنخبة السياسية والنخبة الإعلامية وكل النخب التي تدير المال والأعمال والاقتصاد والسياسة والإعلام وغيره في العالم، دين الشمال الغني ومن يتبعه في الجنوب الفقير، دين المركز المفروض على الأطراف بالقوة وبسلطان المال والتجارة، اكتسبت العقيدة الجديدة شرعيتها وفرضت وجودها من ارتباطها بالتقدم العلمي والتكنولوجي وبالنماء والازدهار الاقتصادي وبالتطور الهائل في وسائل وأساليب الإعلام والاتصال والمعلوماتية، وكل هذا من طبيعة مادية محضة، أفقد العقيدة الدينية جانبها الروحي والأخلاقي ومسخ جوهر الإيمان الذي يقوم على التواد والتراحم لا على الشقاق والتناحر، يبدو أنّ العولمة الدين الجديد مجرد مما هو ديني موروث لكن الحقيقة أنّه موصول بأبعاد دينية يهودية صهيونية ونصرانية، ومرتبط بسائر الأفكار والإيديولوجيات والمعتقدات التي انبثقت عن التحولات التي عرفها ويعرفها العالم المعاصر، وهي معتقدات تقدس الشهوة وشهوة المال والطريق إليهما، لذا انصب البحث في هذا الكتيب على إيديولوجية العولمة وأبعادها العقائدية، وعلى صلة العولمة الدين الجديد بالقيّم الأخلاقية العليا، وعلى موقف الإسلام من العولمة الدين الجديد دين سائر الشهوات إلاّ عقيدة الإيمان بالله الواحد الأحد وعقيدة حفظ الصالح العام ومحبة الإنسانية جمعاء والعمل لذلك.
تتضمن محتويات الدراسة ما يلي:
أولا: لماذا العولمة؟         
1- دواعي اتجاه العالم صوب العولمة

 2- خصائص عصر العولمة         
                                                                                                        
ثانيا: في إيديولوجيا العولمة وبيانها النظري                                                    
1- في إيديولوجيا العولمة                                                                        
2- في البيان النظري للعولمة                                                              
ثالثا: في الأخلاق والعقائد                                                                       
1- العولمة والأخلاق                                  
2- البعد العقائدي للعولمة وتداعياته                  
أ- التطرف الإيديولوجي الليبرالي 
ب- البعد التنصيري أساليبه ومطامحه 
ج- الصهيونية والعولمة وآثارها 
د- العولمة دين جديد 
رابعا: العولمة والإسلام                                 
    يرى الكاتب في خاتمة الدراسة بأنّ العولمة لم تلجأ إلى الآليات السلمية وحدها لفرض هيمنة النظام العالمي والدول الكبرى في العالم، بل استعملت الشرعية الدولية متمثلة في هيئة الأمم المتحدة وسائر فروعها السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية، كما استعملت القوة العسكرية لحلف الناتو، باعتبار الدول الأعضاء في حلف الأطلسي تمثل المركز في العالم، أما بقية الدول الأخرى فهي في الأطراف، وتحولت وظيفة حلف الناتو من حلف أُنشأ لمواجهة حلف "وارسو" في عصر الاستقطاب والحرب الباردة إلى حماية العولمة، وردع أية قوة في العالم تقف في وجهها، خاصة وأنّ حلف الأطلسي يملك أقوى ترسانة حربية، إلى جانب القوة العسكرية الأمريكية التي تعمل إلى جانب قوة حلف "الناتو" وتُسخر للدفاع عن العولمة ونشرها بقوة الحديد والنار ومن دون اعتبار للتنوع الثقافي والديني والطبيعي والجغرافي وغيره لدى الشعوب، ومن وراء هذه الآليات جميعا تعمل كل من الحركة التنصيرية والحركة الصهيونية العالمية على دعم العولمة، فإذا كانت الحركة الصهيونية تعمل في الخفاء وفي انغلاق لأنها لا تكشف عن مخططاتها القذرة وعملها في العلنية يقضي عليها لخطورته على الإنسانية، فإن التنصير على أشدّه في السر والعلن يمارسه الجميع، العمالة الفنية الأجنبية، المنظمات الخيرية، والجيوش وبأساليب ووسائل عديدة. ولكن رغم قوة العولمة وقوة آلياتها فإن ذلك لم يثن الشعوب عن تمسكها بثقافتها وتراثها وتاريخها المجيد، ولم تنصهر في الكوكبية كما كان ينتظر رعاة العولمة، خاصة الشعوب التراثية التي مازال فيها التراث حيّا في وعيها ووجدانها وفي سلوكها وممارساتها، وهي تدفع ثمن ارتباطها الوطيد بهويتها بتعرضها للعزل والعدوان.
    من الشعوب التراثية التاريخية الشعوب العربية والإسلامية، التي لم تستطع العولمة صهر هويتها أو تطهيرها، رغم كل الممارسات التي تقوم بها قوى مختلفة وعلى مستويات عديدة وبأساليب مشروعة وغير مشروعة، لأنّ هذه الشعوب لا تملك إمكانيات العولمة والنظام العالمي بل مسلحة بثقافة عريقة متجذرة في التاريخ وبإيمان قوي وراسخ بالله وبدينه الذي أنزله على نبيه وارتضاه لعباده ولفّه بعنايته وحفظه، إنّه الإسلام الذي وقف في وجه هيمنة العولمة وطغيانها، يكشف عن فساد أصولها ومراجعها، ويميط اللثام عن قيّمها الدنيا الوضيعة وعن عدم توازنها واختلالها، ويفضح أساليبها ومخططاتها ووسائلها الفاسدة التي تستهدف حفظ مصالح قوى الاستكبار والاستعلاء والغطرسة وقهر الآخرين من دون مشفقة أو مرحمة، ويعارض أهدافها ومطامحها التي تكرّس إرادة الهيمنة وحب التسلط على الآخر وقهره كما قهره بالأمس الاستعمار الحديث، والعولمة هي شكل من أشكال الاستعمار يمارس القهر والعدوان بمختلف صنوفه. يعارض الإسلام العولمة والأمركة والنظام العالمي في الفكر والممارسة، بما ينطوي عليه من قيم ومعاني تحفظ للوجود الإنساني الفردي والاجتماعي والعالمي حياته وكرامته وتوازنه، توازن بين المادة والروح، بين الفرد والجماعة، بين العقل والوحي، بين الدين والدنيا، بين الأخلاق والاقتصاد، بين النظر والعمل، بين المقدس واللاّمقدس، بين الله والإنسان، إنسان الخلافة والرسالة، لا إنسان المال والأعمال والمادية المفرطة والعلمانية المختلة والرأسمالية الفاسدة والديمقراطية الليبرالية المشبوهة، لا إنسان الغريزة والشهوة والخلاعة والإباحية الجنسية، إنسان يحيا في البهيمية ويموت ميتة حيوانية. 
    لما كانت العولمة بالشكل الذي أراده الغرب الأوربي الأمريكي تُشكل وضعا خطيرا لا يمكن تجاهله، هذا الوضع يشق طريقه نحو المستقبل ويتحكم فيه، هذا لا يمنع إمكانية تهذيب العولمة وتطويعها وترشيدها بالتوجه نحو نماذج وأنماط تبتعد عن التوحش وهيمنة القوى العظمى لفائدة عولمة مؤنسنة تراعي مصالح الجميع. ففعل أنسنة العولمة يقتضي من جميع الدول وشعوبها بما في ذلك الدول العظمى احترام المبادئ والغايات التي لأجلها تأسست المنظمات الدولية والهيئات العالمية، وهي مبادئ تحافظ على حقوق الإنسان والسلم المدني والأمن العالمي وتحد من السباق نحو التسلح ونزع أسلحة الدمار الشامل وغيرها. إنّ ارتباط العولمة بالتفوق العلمي والتكنولوجي في الغرب الأوربي والأمريكي ونفوذ النموذج الليبرالي سياسيا واقتصاديا وعسكريا لا يعني تقويض دور الدولة الوطنية والقومية كما يريد الغرب، بل يمكن استفادة سائر الدول والشعوب من التقدم العلمي والتكنولوجي ومن النموذج الليبرالي دون التخلي عن خصوصيتها الثقافية والتاريخية والحضارية، خاصة إذا كانت الشعوب تاريخية تراثية مثل الشعوب العربية والإسلامية. فسبيل أنسنة العولمة وتخليصها من التوحش يستلزم الاحتكام إلى نظام إنساني يحترم القيّم الإنسانية والمبادئ الأخلاقية من عدل ومساواة وأخوة وتعاون وتكافل وغيرها، كما يحترم التنوع الثقافي والتعدد الديني والمذهبي ويحارب الظلم والقهر والاستبداد والاستعباد. العولمة المتوحشة التي يفرضها العالم المتقدم لا تجلب إلا التوتر وفساد العلاقات بين الدول والشعوب ولا تنتج إلاّ الكراهية والبغضاء والفتن والحروب وسقوط الجميع في الانحرافات التي تُفقد البشرية إنسانيتها، ولا تكون العولمة صالحة إلاّ بالتشبع بالقيم الإنسانية والأخلاقية واحترام الآخر في ثقافته وأفكاره ودينه وفي جميع حقوقه، ويُصبح ذلك واقعا مجسدا وعالما مشخصا ثقافة وفكرا وسلوكا وحضارة.
    إنّ كل من عقيدة العولمة وصنوها إيديولوجية التطرف الليبرالي في الغرب الأوربي وفي الولايات المتحدة الأمريكية تتجاهل حقيقة الآخر وهويته التاريخية والدينية، وتتعامى عن كون الدين مقوّما أساسيا من مقومات هذه الهوية، على عكس ما هو سائد في المجتمعات اللائكية التي تفصل الدين والأخلاق عن حياة الأفراد والجماعات وعن الدولة والسياسة، فهي إيديولوجية تتجاهل كل ذلك وتنادي بالإصلاح الديني والتربوي قبل الإصلاح السياسي والاقتصادي، وبالتنوير وبغيرها من مبادئ الحداثة والليبرالية، وتضع الإسلام في مرتبة واحدة مع النصرانية وأوضاع الكنيسة التي عرفتها أوربا في القرون الوسطى واستمرت إلى مرحلة ما قبل النهضة الأوربية، حيث رحلت الكنيسة من الحكم بفعل الإصلاح الديني والتربوي والسياسي، وهو الأمر الذي ينبغي أن يتحقق في المجتمعات المعاصرة التاريخية التراثية الدينية المتخلفة، لتنهض وتواكب الركب الحضاري الذي انطلق بعد ثورته في وجه كل قديم فكري وفلسفي وعلمي وديني وغيره، ولا يتسنى لأي جماعة بشرية تعيش على الماضي في الحاضر أن تتحرر من الانحطاط ما لم تأخذ بالسبيل الذي انتهجته أوربا قبيل النهضة، والانقلاب على التراث الثقافي والديني الذي كان ولا يزال العائق الأكبر أمام النهضة والتطور والازدهار، لكن هذا المنظور يعي جيدا أنّ الظروف التي عرفتها أوربا قبيل نهضتها الحديثة تختلف تماما عن ظروف العالم العربي والإسلامي الحديث والمعاصر، وهو على دراية كافية بأنّ الإسلام ليس هو النصرانية، لكن بدوافع سياسية واقتصادية وإيديولوجية وعقائدية لا حدّ لها يتجه المركز لاختراق غيره عقائديا باسم العولمة وغيرها، وساعده على ذلك انهيار المنظومة الاشتراكية والشيوعية وسقوط الاتحاد السوفيتي وبقائه في القطب الواحد، كما ساعده كذلك تطور وسائل الإعلام والاتصال، فأصبح حريصا على صهر الشعوب كاملة في بوتقة واحدة فكرية وثقافية وأخلاقية وعقائدية، لكي لا تكون للشعوب أصولها وثوابتها الثقافية والدينية، وهو ما ترفضه الثقافات المتأصلة والمتجذرة في التاريخ وفي الماضي في أهلها مثل الثقافة الإسلامية وغيرها من الثقافات الأخرى.
    إن الأزمة الأخلاقية التي يعاني منها الإنسان في العالم المعاصر ترتبت عن التناقض بين القول والفعل في آليات العولمة ولدى دعاتها ومنفذيها ، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، فممارساتها تتصف بالأخلاقية واللاإنسانية، فلا مراعاة لحقوق الإنسان الأساسية، حق الحياة والملكية والتعبير، ولا مراعاة لمصالح الشعوب الضعيفة اقتصاديا، ولا مراعاة لتحقيق العدالة وإعطاء الحقوق المغتصبة لأصحابها، ولما كان هذا حال العولمة، فهي  ليست  ذات طابع أخلاقي وإنساني الذي يروج له خطابها النظري ومن ثم فهو خطاب وهمي تنفيه وتنقضه الممارسات القائمة على أرض الواقع.
    إنّ الأخلاق التي يركز عليها النظام العالمي وتستند إليها العولمة كما أرادتها الأمركة الصهيونية تنبذ الآخر الذي لا يملك التقدم العلمي والتكنولوجي الذي جعل العالم المتقدم بقيادة أمريكا على ما هو عليه، مثل الشعوب الغابرة التي عرفت حضارات راقية نمت وازدهرت ثم توقفت وانتهى أمرها، مثل الحضارات الشرقية القديمة والحضارة اليونانية والحضارة الإسلامية وغيرها، وهي حضارات قامت على العالمية ومن منطلق الأخذ والعطاء والتبادل الثقافي والعلمي، لا من منطلق الهيمنة وسحق الآخر ثقافيا ودينيا وسياسيا واقتصاديا وعسكريا، لا لسبب سوى لكونه ضعيفا ولرغبة القوي في التسلط وممارسة القهر، إنّ النظام العالمي نظام معاد للإنسان. إن دعوة النظام العالمي الجديد لنشر الديمقراطية في أرجاء العالم لا تهدف إلى تمكين الجماهير من التحكم في مصيرها وإنما هي أداته في فتح الحدود وإضعاف الآخر، حتى يتسنى له ترشيد كافة البشر. ولكن هذه الدعوة كانت لا تزال ليخفي بها مخططات بسط السيطرة على الشعوب والاستيلاء على ثرواتها. ومن جهة أخرى فإنّ تصور الديمقراطية التي تسوق لها أمريكا من سوق حرة، تصور "دينا" جديدا لا يمكن للإنسان أن يجد حقوقه خارجها، فالغرب ينعتنا بالتخلف والانحطاط فيما هو يريد لنا أن نبقى كذلك، أو يتهمنا بالإرهاب ولكنه لا يحملنا إلا على ممارسته. إنه يخلق مجتمعات غير متكافئة، يقصد من خلالها الطرف الأقوى إخضاع الآخر إلى تبعية اقتصادية وسياسية وعلمية وفكرية وثقافية، ويحوله إلى موضوع حمّال لكل مظاهر النقص والقصور والتخلف، وبذلك يمهد لتبعية لا محدودة. إنّه النظام الذي يشل الشعوب عن التنمية لفرض التبعية، ويزرع فيها الخذلان والعجز عن استعمال إمكانياتها الذاتية والموضوعية، من منطلق إيديولوجي سفيه يجردها تماما من النضج الحضاري ويتهمها بالشر والإرهاب، ويربطها بالطبيعة البدائية المتوحشة، ويطبق عليها قانون الغاب ويضربها بقوة في حالة العصيان والتمرد، إن الإرهاب الذي ينسبه النظام العالمي للشعوب المستضعفة في العالم الثالث والعالم العربي والإسلامي بصفة خاصة مارسه ويمارسه الغرب على نحو أكثر فظاعة كما تشهد موجات الإبادة الجماعية ضد السكان الأصليين "الهنود"، والحروب العالمية.لا يملك النظام العالمي المصداقية، لا في عقلانيته ولا في واقعه وممارسات القائمين عليه، فطلب الديمقراطية وباقي حقوق الإنسان والتطلع إلى السلام العالمي لا يكون بالقوة العسكرية، بقدر ما يكون بقوة الانفتاح والحوار والتعاون بين الشعوب، أما واقع الحال يكشف عن الإفراط في استعمال القوة العسكرية ضد الشعوب والحركات المناهضة لتوجه العولمة والأمركة والصهيونية، ولصالح الأمن والسلام في دولة الولايات المتحدة الأمريكية وفي الدول المتحالفة معها، وفي غياب تام للاعتبارات الأخلاقية والدينية والعلمية، الأهم في الأمر بقاء الولايات المتحدة على قمّة هرم العالم تفعل فيه ما تشاء وكيفما تشاء وساعة تشاء من دون حسيب أو رقيب.
    إن الطابع المادي العلماني لثقافة العولمة طبع الفكر والوجدان والسلوك الإنساني بطابعه، وأدى إلى انحراف مدنية العولمة عن قيم ومقولات الحداثة التي بُنيت عليها الحضارة الحديثة وتطورت وازدهرت، وتعمل العولمة على تعميم التوجه العلماني المادي ليصبح توجه جميع الثقافات وكل الديانات في العالم، والإسلام بمقتضى العولمة مطالب بتغيير قيمه وتحوير مبادئه وأسسه، فيقبل بالمادية العلمانية التي تقوم على الشك والإلحاد، وهو أمر مستحيل لأن هوية الإسلام في مركبه الروحي والمادي معا، وفي قيمه المتوازنة الجامعة بين مطالب الروح ومطالب البدن، بين العقل والوحي، بين الفرد والأمة، بين الاقتصاد والأخلاق، بين الدنيا والآخرة، بين الله والإنسان، هذا التوازن لا تُقره العولمة ولا الشرائع والنظم الأخرى التي عرفتها الإنسانية عبر تاريخها الطويل، فالإسلام سمح متوازن سامي في عقائده وشعائره ومعاملاته وأخلاقه، جاءت رسالته جامعة شاملة، وجاء ما لا يختلف باختلاف الزمان والمكان بها مثل العقائد والعبادات والأحكام القطعية واضحة ومفصلة تفصيلا تاما بالآيات العديدة الشارحة وبالسنة النبوية الصحيحة وليس فيه اجتهاد ولا تغيير. أما ما يختلف باختلاف الزمان والمكان فقد جاء يحتاج لاجتهاد العلماء حسب العصر وظروفه، فأمة الإسلام واحدة بمعنى أنها واحدة في دينها وثقافتها واقتصادها وقواعدها ونظمها الاجتماعية وواحدة في مفاهيمها السياسية وغيرها من النواحي الحضارية، ويكفي الإسلام يقينا مطلقا، وتكريما عظيما، وشرفا عاليا، وكمالا ليس محدودا ولا منقوصا، وديمومة أبدية، وشمولية تامة، وكونية صالحة، وخيرا لا ينضب، وعقيدة الفطرة السليمة والمحجّة البيضاء، وخاتم الرسالات، وسبيل الخلاص في الدنيا والآخرة، وأنّه دين الله الذي اختاره الله وارتضاه لعباده، ونزّله على نبيه ورسوله وحفظه من كل مكروه.

ارسال التعليق

Top