• ٢٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أيهما أسبق الليل أو النهار

السيد أحمد زكي تفاحة

أيهما أسبق الليل أو النهار

◄اختلف العلماء، هل النور سابق على الظلمة أو الظلمة سابقة على النور في الوجود، وعلى الأوّل – النور سابق على الظلمة – يكون النهار سابقاً على الليل، وتكون ليلة اليوم هي الليلة التي تأتي بعد النهار، وعلى الثاني – الظلمة سابقة على النور – يكون الليل سابقاً على النهار، وتكون ليلة اليوم هي الليلة التي تأتي قبل النهار، وذهب الأوائل إلى هذا القول. فليلة الجمعة عندهم – مثلاً – هي التي تدخل قبل فجر الجمعة، وهكذا سائر ليالي الأيّام، ومما استدلوا به قوله تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ) (يس/ 37).

(وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ) (البقرة/ 164)، نقطة (قطعة) صغيرة في خضم المحيط تحملنا وتجري بنا، والموج المتلاطم، والزرقة المطلقة من حولنا، والفلك سابحة متناثرة، هنا وهناك، ولا شيء إلا قدرة الله، وإلا رعاية الله، وإلا قانون الكون الذي جعله الله، يحمل تلك النقطة (القطعة) الصغيرة على ثبج الأمواج وخضمها الرعيب.

(وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ) (البقرة/ 164).

كلها مشاهد لو أعاد الإنسان تأملها – كما يوصي القرآن للقلب المؤمن – بعين مفتوحة وقلب واع، لارتجف كيانه من عظمة القدرة ورحمتها.. تلك الحياة التي تنبعث من الأرض حينما يجودها الماء. هذه الحياة المجهولة الكنه، اللطيفة الجوهر، التي تدب في لطف، ثمّ تبتدئ جاهرة معلنة قوية.. هذه الحياة من أين جاءت؟ كانت كامنة في الحبة والنواة، ولكن من أين جاءت إلى الحبة والنواة؟ أصلها؟ مصدرها الأوّل؟ إنّه لا يجدي الهرب من مواجهة هذا السؤال الذي يلح على الفطرة، لقد حاول الملحدون تجاهل هذا السؤال الذي لا جواب عليه إلا وجود خالق قادر على إعطاء الحياة للموات. وحاولوا طويلاً أن يوهموا الناس أنّهم في طريقهم إلى إنشاء الحياة – بلا حاجة إلى إله – ثمّ أخيراً إذا هم في أرض الإلحاد الجاحد الكافر ينتهون إلى نفض أيديهم والإقرار بما يكرهون، استحالة خلق الحياة! واعلم علماء روسيا الكافرة في موضوع الحياة، هو الذي يقول هذا الآن، ومن قبل راغ دارون صاحب نظرية النشوء والارتقاء من مواجهة هذا السؤال.

ثمّ تلك الرياح المتحوّلة من وجهة إلى وجهة، وذلك السحاب المحمول على هواء، المسخر بين السماء والأرض، الخاضع للناموس الذي أودعه الخالق هذا الوجود، إنّه لا يكفي أن تقول نظرية ما تقوله عن أسباب هبوب الرياح، وعن طريقة تكوين السحاب، إنّ السر هو سر هذه الأسباب، سر خلقة الكون بهذه الطبيعة وبهذا النسب وبهذه الأوضاع التي تسمح بنشأة الحياة ونموها وتوفير الأسباب الملائمة لها من رياح وسحاب ومطر وتربة، سر هذه الموافقات التي يعد المعروف منها بالآلاف، والتي لو أخلت واحدة، منها ما نشأت الحياة أو مارست هذه السيرة، سر التدبير الدقيق الذي يشي بالقصد والاختيار، كما يشي بوحدة التصميم ورحمة التدبير.

(إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الرّعد/ 4).

نعم لو ألقى الإنسان عن عقله بلادة الغفلة، فاستقبل مشاهد الكون بحس متجدد، ونظرة مستطلعة، وقلب نوره الإيمان، ولو ساد في هذا الكون كالرائد الذي يهبط إليه أوّل مرة، تلفت عينه كلّ ومضة، وتلفت سمعة كلّ نأمة، وتلفت حسه كلّ حركة، وتهز كيانه تلك الأعاجيب التي ما تني تتوالى على الأبصار والقلوب والمشاعر، إنّ هذا هو ما يصنعه الإيمان، هذا التفتح، هذه الحساسية، هذا التقدير للجمال والتناسق والكمال، إنّ الإيمان رؤية جديدة للكون، وإدراك للجمال، وحياة على الأرض في مهرجان من صنع الله أناء الليل وأطراف النهار، ومع ذلك فإنّ هناك من لا ينظر ولا يتعقل فيحيد عن التوحيد الذي يوحي به تصميم الوجود، والنظر في وحدة الناموس الكوني العجيب.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) (البقرة/ 165).

من الناس من يتخذ من دون الله أنداداً، كانوا على عهد المخاطبين بهذا القرآن أحجاراً وأشجاراً، أو نجوماً وكواكب، أو ملائكة وشياطين، وهم في كلِّ عهد من عهود الجاهلية أشياء أو أشخاص أو إشارات أو اعتبارات، وكلها شرك خفي أو ظاهر، إذا ذكرت إلى جانب اسم الله، وإذا أشركها المرء في قلبه مع حب الله، فكيف إذا نزع حب الله من قلبه وأفرد هذه الأنداد بالحب الذي لا يكون إلّا لله؟

إنّ المؤمنين لا يحبون شيئاً حبهم لله، لا أنفسهم ولا سواهم، ولا أشخاصاً ولا اعتبارات ولا شارات ولا قيماً من قيم هذه الأرض التي يجري وراءها الناس.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ).

أشد حباً لله، حباً مطلقاً من كلِّ موازنة، ومن كلِّ قيد، أشد حباً لله من كلِّ حب يتجهون به إلى سواه، والتعبير هنا بالحب تعبير جميل، فوق أنّه تعبير صادق، فالصلة بين المؤمن الحقّ وبين الله هي صلة الحب، صلة الوشيجة القلبية، والتجاذب الروحي، صلة المودة والقربى، صلة الوجدان المشدود بعاطفة الحب المشرق الودود.

(وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (البقرة/ 165-167).

أولئك الذين اتخذوا من دون الله أندادا، فظلموا الحق، وظلموا أنفسهم لو مدوا بأبصارهم إلى يوم يقفون بين يدي الله الواحد، لو تطلعوا ببصائرهم إلى يوم يرون العذاب الذي ينتظر الظالمين، لو يرون لرأوا (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) فلا شركاء ولا أنداد (وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ).

لو يرون إذ تبرأ المتبوعون من التابعين، ورأوا العذاب، فتقطعت بينهم الأواصر والعلاقات والأسباب، وانشغل كلّ بنفسه تابعاً كان أم متبوعاً، وسقطت الرئاسات والقيادات التي كان المخدوعون يتبعونها، وعجزت عن وقاية أنفسها فضلاً عن وقاية تابعيها، وظهرت حقيقة الألوهية الواحدة والقدرة الواحدة، وكذب القيادات الضالة وضعفها وعجزها أمام الله وأمام العذاب.

(وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا).

وتبدي الحنق والغيظ من التابعين المخدوعين في القيادات الضالة، وتمنوا لو يردون لهم الجميل، لو يعودون إلى الأرض، فيتبرأوا من تبعيتهم لتلك القيادات العاجزة الضعيفة في حقيقتها، التي خدعتهم ثمّ تبرات منهم أمام العذاب، إنّه مشهد مؤثر: مشهد التبرؤ والتعادي والتخاصم بين التابعين والمتبوعين، بين المحبين والمحبوبين، وهنا يجيء التعقيب الممض المؤلم.

(كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ).

وفي الكافي عن الصادق (ع) في قوله تعالى: (كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ) قال: هو الرجل يدع ماله لا ينفقه في طاعة الله بخلاً ثمّ يموت فيدعه لمن يعمل في طاعة الله وفي معصية الله، فإن عمل به في طاعة الله رآه في ميزان غيره، فرآه حسرة – وقد كان المال له – وإن كان عمل به في معصية الله قواه بذلك المال حتى عمل به في معصية الله.

 

المصدر: كتاب دروس من القرآن

ارسال التعليق

Top