• ١ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٢ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الفن الإسلامي.. حقيقته وجوهره

محمد المهدي ولد محمد البشير

الفن الإسلامي.. حقيقته وجوهره

يخطئ كثير من الباحثين عندما يختزلون الفن في الغناء والموسيقى والرقص، تبعاًلتصورات قاصرة تشيع بين الجهلة العوام، ومن يستقون معارفهم من وسائل الإعلام،إنّ الفن أوسع مجالاً وأسمى هدفاً، وأبعد مدى في أغوار النفس البشرية وأعظم شأناً في الحضارة الإنسانية عامة والحضارة الإسلامية خاصة من أن يختزل في الغناء والموسيقى والرقص.
وهذا التصور الضيق هو الذي جعل دكتوراً في الشريعة الإسلامية يستبشر بصلاة فنان مغنٍ في بيت من بيوت الله، وهو ما سماه هذا الدكتور بـ عودة الفنان إلى المحراب؛ لأنّ استبشار الدكتور بعودة الفنان إلى المحراب، يحمل إدانة صريحة للفن، وحكما قاسياً على أهله بمجافاة الشريعة والبعد عن الله، وهو ما لا نقره أو نرضاه؛ لأنّه من المستحيل أن يستبشر بصلاة مؤمن تقي في بيت من بيوت الله، وفي العشر الأواخر من رمضان ـ تحديداً - التي تشرئب فيها أعناق كل المسلمين إلى رحمة الله ومعفرته، وإنما! يستغرب أن يصلي مع الجماعة من يتصف بنقيض الصلاة معها؛ كالكافر والمحارب ومن على شاكلتهما؛ لأنّ الصفة تطرد نقيضها، والنقيضان لا يجتمعان، وهما عند الأستاذ: الفن والمحافظة على الصلاة في الجماعة وهذا فهم غريب للفن مغاير لحقيقته ومباين لجوهره، وهو ما دفعني إلى كتابةهذا المقال.

فما هي حقيقة الفن؟ وما هو جوهره؟ وما موقف الإسلام منه؟

تعريف الفن:
قد يكون من الصعب على الباحث أن يقدم تعريفاً دقيقاً للفن؛ لسعة مجاله، وسرعة تطور حركته من جهة، ولتعدد المدارس الفنية من جهة أخرى. ولكن لابد من محاولة إعطاء تعريف يجلي حقيقة الفن ويقرب فهمه إلى ذهن القارئ.

الفن هو: تعبير عن الجمال يمتاز بالتنظيم والتوازن المحكمين، وهذا التعبيريمثل استجابة وتجسيداً من الفنان لما ينفعل به انفعالاً وجدانياً عميقاً، فالفن على رأي الفيلسوف جود: هو النافذة التي يمكن أن نطل منها على حقيقة الجمال وهذا ليس تعريفاً لحقيقة الفن، وإنما هو بيان لوظيفته. وهو على رأي محمد قطب: محاولة البشر لتصوير حقائق الوجود وانعكاسها في نفوسهم في صورة موجبة ميلة. ولكن الفن أوسع مجالاً من تعريف محمد قطب؛ لأنّه لا يقتصر على تصوير حقائق الوجود فحسب، بل يتعدى ذلك إلى تجسيد انفعالات الفنان نفسه، والتعبير عن مشاعره وتصوراته وأحاسيسه، سواء أكانت صدى لحقائق الوجود، أم تعبيراً عن رؤى خيالية تجول في ذهن الفنان، وليس لها أي وجود في الخارج وأما الفنان فقد عرّفه محمد قطب بأنّه شخص موهوب ذو حساسية خاصة تستطيع أن تلتقط الإيقاعات الخفية التي لا يدركها الناس العاديون، وذو قدرة تعبيرية خاصة على تحويل هذه الإيقاعات إلى لون من الأداء الجميل، يثير في النفس الانفعال ويحرك فيها حاسة الجمال. وما دامت هذه حقيقة الفن وذاك جوهره؛ فإنّه من المستحيل أن يحاربه الإسلام أو يعاديه؛ لأنّ الإسلام دين الفطرة السلمية التي تنجذب إلى الكون متناغمة معه، وإلى الوجود مستأنسة به، مستبطنة كل معاني الجمال، جامعة لجميع أشتاته في الكون والنفس، مؤلفة من ذلك نسقاً متجانساً، يتواءم مع الوجود الذي أبدعه الباري جل وعلا. فالإسلام لا يحارب الفن ولا يعادي الجمال؛ لأنّه ـ الإسلام ـ الدين الحق الذي أنزله خالق الكون ومصوره،! وقد بلغ الإسلام المنتهى في الكمال،وتجاوز المدى في الحسن،وبلغ نهاية الإعجاز في الجمال، شكلاً وجوهراً وقد أشاد الإسلام بالجمال ونوه به في مواضع متعددة من القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، فورد في الحديث النبوي الشريف: إنّ الله جميل يحب الجمال وقد خلق الله الكون في قمة الجمال، وجعل الإنسان خليفته في الأرض كما قال تعالى:(لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين/4)، وبث في الكون من آيات الجمال الباهرة ما يسبي الألباب ويدهش العقول، قال تعالى: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ *وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) (الغاشية/17-18) ودعا الناس إلى تأمل في جمال السماء، قال تعالى: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) (الصافات/6) ولفت أنظار أبصار بني آدم وبصائرهم، قال تعالى: (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ) (الحجر/16).
وَلَكُمْ إلى جمال الأنعام التي يرونها بكرة وعشياً، ويتمتعون بها كما في قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) (النحل/6)
وغرس حب الجمال في أعماق الإنسان؛ حتى إنّه لينجذب إلى كل الصور الجميلة والمناظر البديعة، ويشعر وكأنّه يعرفها منذ زمن بعيد. وهذا الانجذاب إلى الجمال هو الذي يمنح المرء الاستعداد لإدراك الجمال في أسمى صوره وأبين معانيه، وهو جمال الله تعالى، وجمال دينه، والاستقامة على هديه.

موقف الإسلام من الفن:
إنّ الفن لا يعدو كونه محاولة للتعبير عن هذا الجمال والحسن الذي يتراءى في أرجاء الكون، وينبعث من داخل كل صورة في الوجود، فيبهر الإنسان ويغمر وجدانه بالإحساس بوجود وشائج نسب خفية وأواصر تناسب عميقة بينه وبين هذا الجمال إلى حد الرغبة في الالتحام به أو الذوبان فيه، فقد ينسى الإنسان نفسه وهو يتملى جمالاً أخاذاً، يقول سيد قطب ـ رحمه الله ـ: ''الدين والفن صنوان في أعماق النفس وقرارة الحس''، وقد يقال بأنّ هذا الحكم لا يقبل على إطلاقه، وأنّه لابد من تقييده بأنّ الفن الذي يلتقي مع الدين هو: الفن الذي يقوم على التصوير الإيماني للوجود ـ كما قال محمد قطب ـ ولكن الصحيح أنّ أي فن لا يصادم العقيدة الإسلامية يمكن أن يلتقي مع الدين في أعماق النفس، كما تلتقي مناظر الطبيعة الجميلة معه.

مكانة الفن في الإسلام:
لقد وجد فن إسلامي أصيل شمل مجالات واسعة في الحضارة الإسلامية التي ملأ
إشعاعها إرجاء العالم أربعة عشر قرناً، وكان فناً متميزاً في شكله وجوهره، ينبثق من رحاب المسجد، مستلهماً عقيدة الإسلام الصافية، مرتكزاً على رؤية عقدية، تحكم صناعته ابتداء، وترسم مساره العام، وتحدد أهدافه الكبرى، من غير أن تلزم الفنان المسلم بصيغة واحدة للتعبير الفني.

الفن الإسلامي والمسجد:
لقد استنتج الفيلسوف روجيه جارودي أنّ العامل المحرك للفن الإسلامي هو المسجد وفن عمارته، ثم قال مقولته الرائعة: ''إنّ الفنون في الإسلام تفضي إلى المسجد، والمسجد يفضي إلى الصلاة ''. وهذا يعني أنّ الفن الإسلامي يجذب الإنسان جذباً إلى الله تعالى، فيتوق إلى عبادته ويستلذ مناجاته؛ رغبة في التخلص من كل عبودية لسواه. إنّ الفنان المسلم! لا يكون فنه أصيلاً إلا إذا عاش في رحاب المسجد، ووقف بين يدي الله في إخبات وخشوع، في أوقات الصلاة المكتوبة على الأقل،يتأمل أسرار الوجود، وحقيقة الحياة والموت، ويتلقى إيقاعات لا حد لها، تخاطب العقل والسمع، وتهز القلب والوجدان، وتناجي الروح، وتحث الجسد على التسامي، ففي الصلاة يتساوق جمال الاستقامة مع جلال الخشوع لله، ويتلازم انتظام أجسام المؤمنين في الصفوف مع قوة وحدة قلوبهم، وصفاء أرواحهم، عندما تسمو في معارجها إلى الله تعالى،كلماسجدت لله أو ركعت رغبة أو رهبة،أو محبة وتذللاً،أو استمعت إلى القرآن يتلى متدفقاً في أسلوبه الآسر، الذي يفيض حسنا ويشع ألقاً وسناءً، يرشد الحائر، ويهدي الضال، ويأخذ بيد من يستجيب له إلى سعادة الدنيا، ونعيم الآخرة، فيزداد قلبه صفاء، وروحه طهارة، وحسه رهافة، ونفسه فهما للوجود واستعداداً لتقبل الخير والتخلص من جواذب الأرض.
إنّ الصلاة في المسجد جديرة بأن تمد الفنان المسلم بطاقة متجددة، تدفعه للإبداع والابتكار في عمله الفني، يقول روجيه جارودي عن المسلمين الذين يؤدون الصلاة مولين وجوههم شطر مكة المكرمة: إنّ هؤلاء جميعاً مندمجون في دوائر متراكزة في هذا الانجذاب الروحي إلى المركز الذي هو البيت العتيق إنّ هذا الشعور هو الذي استولى على الفنان المسلم فجعل عمله الفني تجسيداً للأخوة الإسلامية الجامعة لهذا فإنّ المسجد في الفن الإسلامي يمثل البدء والمنتهى - كما قال الدكتور عماد الدين خليل ـ ولا غرو في ذلك؛ فهو ركيزة الحضارة الإسلامية، وقلبها النابض بالإيمان والحياة، وقد أدرك هذه الحقيقة جميع من ألفوا عن الفن الإسلامي من الراسخين في العلم، سواء في ذلك المسلم منهم وغير المسلم، فجعلوا المسجد نقطة الارتكاز التي تدور حولها بحوثهم العلمية.

الفن وسيلة اتصال بين الناس:
إنّ الفن وسيلة اتصال بين الناس، يتحقق من خلالها نوع من الاتحاد العاطفي والتناغم الوجداني، بعيداً عن حواجز اللغة والوطن والجنس والدين، كما يرى محمد قطب لأنّه تعبير بشري عن الإنسانية في أوسع مجالاتها ومفاهيمها. وهذا أمر لا يخفى على من له أدنى ذوق جمالي، فالناس إذا ما نظروا إلى طلعة البدر ليلة تمامه استهواهم جماله، وسحرهم بهاؤه، وكذلك إذا تأمالوا غروب الشمس وبزوغها فإنّهم يشعرون بجمال المنظر، مع اختلاف اللغات، وتباين العادات واختلاف الأديان وتباعد الأوطان، وهذا الأمر ذاته يصدق على قصر الحمراء في الأندلس، أو أي معلم من معالم الفن الإسلامي التي سكب فيها مهندسوها لمسات فنية إسلامية عظيمة، أو أي أثر من الآثار الفنية العالمية الرائعة، إلا أنّ هذا لا ينفي أنّ كل فن يستبطن في ثناياه وروحه الخفية رؤية أهله العقدية لله تعالى والإنسان والكون والحياة، وهو ما يتجلى بشكل صريح في الفن الإسلامي، الذي يقوم على عدة أمور منها:

* التجريد الجمالي الخالص، الذي ينأى عن التشخيص، مستلهماً ذلك من العقيدة الإسلامية التي تنزه الله عن التجسيد؛ لأنّ الله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى/11).
* عدم التفريق بين الديني والدنيوي، فالفن الإسلامي لا يفرق بين الديني ولا الدنيوي؛ لأنّ الإسلام منهج كامل للحياة كلها، يقول روم لاندو: وليس من ريب في أنّ حافزاً لا واعياً نحو دمج السماوات دمجاً رمزياً في بيت العبادة، هو الذي قاد المسلمين إلى تبني القبة وإلى إتقانها حتى الكمال. فقبة المسجد هنا رغم جمالها الظاهر، وتناسق شكلها، إلا أنّها نداء إلى جميع البرية بأنّ دين الإسلام يرفض فصل الروح عن الجسد، والسماء عن الأرض، والدين عن الدولة.

الفن ليس تمرداً على العقيدة:
إنّ الفن الإسلامي لم يكن نتاج تمرد على العقيدة الإسلامية - كما يزعم بعض المغرضين ـ عندما وقفت أمام التعبير الفني ومنعته من التحقق، مما حدا بالفنان المسلم إلى التمرد على أوامر الإسلام، ومزاولة الفن رغم حظر الشريعة للاشتغال به، ولكن من خلال ابتكار فن جديد، فيه شيء من الاستقلالية مرده إلى التمرد على شريعة الإسلام.. هذا كلام ساقط لا قيمة له، وليس لقائله سلطان شرعي ولا دليل تاريخي أو حجة عقلية، أو سند فني، فالحقيقة أنّ الفنان المسلم لما حرم الإسلام عليه بعض صيغ التعبير الفني ـ لما فيها من مخالفة للعقيدة الإسلامية والآداب الشرعيةـ استجاب لأمر الله أولاً، ثم بحث عن صيغ جديدة للتعبير الفني لا تصادم الشريعة، فأبدع فنان إسلامياً يستنير بشريعة الإسلام ويلتزم بعقيدته، له مميزات علمية دقيقة، وخصائص فنية جميلة، يقول روجيه جارودي: إنّ جمالية الفن الإسلامي لا تعتبر مطلقاً حيلاً للإلتفاف على محرمات القرآن والحديث، بل تعبيراً عن رؤيا نابعة من العقيدة الإسلامية. ولا يخفى ما بين التمرد على العقيدة الإسلامية وبين استلهام روحها من بون شاسع.

بعض أنواع الفن الإسلامي:
للفن الإسلامي أشكال كثيرة، وصور عديدة، وقد صدرت موسوعات كبيرة بجميع اللغات الحية حول الفن الإسلامي، وفتحت في جامعة أوتردام الإسلامية بـ هولندا أول كلية متخصصة في الفنون الإسلامية حسب ما جاء في مجلة العالم الإسلامي (سنة2001م الصادرة بتاريخ 8/6/2001م /العدد1700).
العمارة:
لقد جعل الفن الإسلامي من العمارة عالماً يمور بالجمال والحركة، حيث أبدع الفنان المسلم في فن بنائها وشكل تصميمها إبداعاً شارف حد الكمال، وجمال العمارة الإسلامية رغم روعته، وتماشيه مع أدق المعايير الفنية، إلا أنّه يستلهم من شريعة الإسلام روحه الباطنة، فهو جمال داخلي لا يراه إلا من ولج العمارة، أما من كان خارجه فلا يرى من هذا الجمال إلا ما ظهر؛ فزينة البيت يتمتع بها من أعطي الأذن، وليست كلأ مباحاً لكل راتع كما أنّ الإسلام يوجب على المسلمين أن لا يفخر بعضهم على بعض فيوغر صدره، بل يدعوهم ليكونوا سواسية، ظاهراً على الأقل، ثم إنّ أبواب العمارات الإسلامية ونوافذها تنفتح إلى الداخل وليس على الطرق التي يمر منها الناس؛ تحقيقاً لمعنى الستر، فالبيت ستر لأهله ولباس يواري عوراتهم، وهذا لا يتحقق إلا إذا كانت الأبواب والنوافذ تنفتح على الداخل، لا على خارج الخط أما خطوط الكتابة فقد أبدع فيها الفنان المسلم مفجراً منها عوالم ساحرة، تنطلق من الحقيقة التي يعبر عنها النص، وتمتد لتستخرج كل طاقات أحرف هذا النص الجمالية، مما قد يحجب عن الناظر العادي حقيقة كون النص ـ الذي تم اختياره بدقة ـ لم يقصد منه مجرد الجمال الفني فحسب، بل إنّه يجمع بين الفن شكلاً والعقيدة مضموناً، فهو فن ورسالة.

فنون إسلامية أخرى:
ولم يقتصر الفن الإسلامي على ما سبق ذكره، بل امتدت يد الفنان المسلم ليحكم سيطرته في ميادين أخرى لها أهمية كبيرة، كفن الزخرفة، وصناعة الخزف، والسجاد، والنقش، والحفر على الخشب، وقد أولى الفنان المسلم هذه الفنون نصيباً وافراً من عنايته؛ ليجعل منها آيات خالدة تشهد بعبقريته، وبعظمة الفن الإسلامي، وتنوعه وثرائه، في إطار وحدة جامعة لهذا الفن، مهما تباعدت الأمكنة واختلفت الأزمنة.

سر تشابه الفن الإسلامي:
إنّ تشابه الفن الإسلامي معجزة أخرى صنعتها عقيدة الإسلام التي وحدت رؤى جميع الفنانين المسلمين على امتداد أزمان متطاولة، وعبر أقاليم متباعدة، حيث صبغت إنتاجهم بصبغة واحدة، يقول روجيه جارودي: إنّ نظرة ـ ولو سطحية ـ على شواهد الفن الإسلامي في العالم تكشف لنا عن أصالتها وجدتها العميقة، وتشعرنا بأنّ ذات التجربة الروحية تحيا في أي مبنى روحي، أياً كان مكانه الجغرافي أو غايته، فمن الجامع الكبير في قرطبة إلى الجوامع الصغيرة في تلمسان والقرويين وفاس وطولون في القاهرة، والجوامع الضخمة في اسطنبول، والبصلات الفردوسية في مساجد أصفهان، أو منارة سامراء الحلزونية، ومن قصور الحمراء في غرناطة إلى قصر علي... تولد لدي شعور دائم بأنّ رجلاً واحداً قد بناها جميعها، تلبية لنداء إله واحد ولا يمكن أن يقدر هذا التشابه حق قدره إلا من قرأ قول لاند: لو أن عشرة مصورين حاذقين وقفوا أمام منظر واحد، وصوره كل واحد منهم؛ فإنّ صورهم العشرة لن تكون بينها صورتان متشابهتان، ولكن لو أنّ واحداً من هؤلاء المصورين فقط صور عشرة مناظر مختلفة على التتابع، فإنّ صور هذه المناظر العشرة ستكون متشابهة بيد أنّ الفن الإسلامي رغم تنوعه العظيم، إلى حد أنّه يصعب وجود تحفتين منه متماثلتين ـكما يقول أحمد فكرة- إلا أنّه مع ذلك يمتاز بوحدته. إنّ سر تشابه الفن الإسلامي رغم تنوعه يرجع إلى صبغة العقيدة الإسلامية التي أشربها كل فنان مسلم فسكبت في عقله ووجدانه رؤية واحدة للكون والحياة، هي ذاتها الرؤية التي تنطبع في عقول ووجدان جميع الفنانين المسلمين في أي زمان وأي مكان؛ فكان نتاجهم الإبداعي متشابهاً رغم تنوعه وثرائه؛ لأنّ شعوراً واحداً يسيطر عليهم جميعاً، ويوجه فكرهم لتحقيق الأهداف والغايات نفسها.

واجب الفنان المسلم:
لقد هجر كثير من المسلمين ـ مع الأسف الشديد ـ الفن الإسلامي، حتى كادت مظاهره تختفي ومنابعه تجف، أمام النموذج الغربي الوافد، وهو ما يحتم على الفنان المسلم أن يعود بقوة إلى الفن الإسلامي الأصيل، مستلهماً فلسفة الإسلام، فيستمد منها غاية عمله، ثم ينطلق في معركة البناء الحضاري مستوعباً تراث السابقين ونتاج المعاصرين استيعاباً شاملاً، ليفتح عوالم جديدة يثبت من خلالها عظمة الإسلام وعبقرية الفنان المسلم المعاصر وقدرته على مواكبة عصره، مع تميزه في عطائه وأصالته في إنتاجه الإبداعي؛ ليعود بالفن إلى رحاب الإسلام، ملبياً رغبات المسلم الجمالية والروحية، ومؤسساً لفن إسلامي أصيل يتناغم مع حاجات العصر، ويتفق مع الفطرة الإنسانية السليمة ويملأ الإحساس والوجدان بمحبة الله.

 

ارسال التعليق

Top