• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

القاعدة الروحية الخلقية

أ. د. عبدالكريم بكّار

القاعدة الروحية الخلقية

إذا صح القول: إنّ الذات الإنسانية طبقات، بعضها فوق بعض، فإن أعمق تلك الطبقات هي طبقة (الروح) ذلك البعد الفسيح المدى، الشفّاف جدّاً، والمبهم جداً، والمهم جدّاً.
ويبدو أنّ البشرية ستغادر هذه المعمورة دون أن تقف على حقيقة الروح، وهذا ما نلمسه من قوله – جلّ وعلا –: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) (الإسراء/ 85).
هذا الجانب من شخصية الإنسان، كان يحتل على مدار التاريخ مركزاً محورياً في حياة الناس، وهذا واضح جدّاً في كثير من النصوص القرآنية والنبوية، لكن (الروح) في العصور الحديثة فقدت الكثير من الأرض التي ربحتها في الماضي، وصار يُنظر إلى كثير من قضاياها على أنّه نوع من الخرافة والوهم. وبسبب من التوجه العلمي والفكري العام الذي ينشره الغرب في أنحاء المعمورة، صار الإنسان الحديث، يَقْبل دون جدل أنّ الاهتمام الأساسي، ينبغي أن يوجَّه إلى الطاقة والمادة المعروفتين، وصار يُعبّر عن الروح في كثير من المراجع بأنّها الوعي أو الصورة الذهنية للمدركات أو المعنى... وهذا كله أدى إلى تواري الخطط والتنظيمات التي تدعم الجوانب الروحية والخلقية في معظم الأحيان.
وإذا كان هذا مفهوماً في أمم وشعوب يغلب عليها الإلحاد، فإنّه ليس مفهوماً ولا مقبولاً في أمة تعطي عقيدتُها الأولية للبناء الروحي والقِيَمي والسلوكي، وتعد الانتصار على صعيده، هو الانتصار الحقيقي!.
من الواضح أنّ الحضارة المادية الحديثة، قد قدمت كل رهاناتها للإنتاج الصناعي والارتقاء المادي، وحين تتناقص إمكانات النمو المادي – وهذا شيء قادم لا محالة – فإنّ الإنسان سوف يلجأ إلى الروح مرّة أخرى؛ ليستمد منها طاقة الإبداع والتكيّف مع الظروف الجديدة، لكنه سوف يجد أنّه قد هدم كل المنابع الثرّة التي يمكن أن يرتوي منها، وسيجد نفسه آنذاك مفلساً من المادة والروح معاً!
إنّ القاعدة الروحية الأخلاقية في أي مجتمع هي التي تتحمل الأثقال التي تتولد من طبيعة الحياة المادية والاجتماعية، وعن الانتكاسات التي تصاب بها الأُمّة في ميادين الحياة المختلفة. وحين خُطط لهذه الأُمّة أن تجعل القيم الأخلاقية والروحية في مرتبة متدنية من اهتماماتها، أخذت أخلاقها وقيمها في التراجع، كما فقدت الكثير من شفافيتها حين واجهت ضائقات العيش وشحّ الموارد، حيث لم يجد كثير من الناس السند الأخلاقي الذي يساعدهم على الصمود في وجه المغريات والمحفزات على الانحدار.
الحضارة الإسلامية كانت غنية في جميع جوانبها، لكن الذي كان يميزها عن غيرها ذلك الطابع الروحي الأخلاقي الذي كان يسربل كل الأنشطة الحضارية. والحقيقة أنّ الجاذبية التي تتمتع بها القرون الأولى من تاريخ الإسلام، تنبع على نحو أساسي من طابع الاستقامة والنبل والتضحية والصفاء والتضامن الأهلي الذي كان يطبع الحياة العامة، وليس من التفوق في الحروب أو العلوم أو العمران.
قد آن لنا أن ندرك أنّه لن يكون بإمكان أفضل النظم الاجتماعية، ولا في إمكان أقسى العقوبات الصارمة أن تقوِّم الاعوجاج، ولا أن تملأ الفراغ الناشئ من ذبول الروح وانحطاط القيم، فالعقوبات لا تنشئ مجتمعاً، لكنها تحميه. والنظم مهما كانت محكَمة ومتقَنة لن تحول دون تجاوز الإنسان لها، وتأويلها على نحوٍ يفرغها من جلِّ مضامينها؛ وكل الحضارات المندثرة، تركت تنظيماتها وأدوات ضبطها خلفها شاهدةً على نفسها بالعجز والعقم.
المنظومة الروحية والخلقية بعد هذا وذاك، هي التي تضبط سلوك الفرد من الداخل، حيث المساحات الشاسعة التي تعجز عن تغطيتها النظم والأعراف والتقاليد... ومن ثمّ فإن وظيفة (الخلق الكريم) أنْ يردع أصحابه عن استغلال مساحات (الفراغ القانوني) على وجه سيِّئ، يضر بالفرد نفسه أو بمجتمعه. إنّ الحالة الروحية الخلقية، هي المرآة التي تنعكس عليها عقيدة المجتمع وظروفه وأوضاعه العامة، ومن ثمّ فكما أنّ الأخلاق الفكرية والسياسية والاقتصادية...، وما يتحصل منها من وعي المجتمع بذاته، تنعكس بصورة واضحة على أخلاق الناس، وتعيد ترتيب سلم القيم لديهم.
حين يصاب مجتمع بالشلل الأخلاقي، فإنّه يفقد فاعليته العقلية والاجتماعية مع أن إمكاناته الحضارية قد تكون في نمو وتوسع، إلا أن إرادته الحضارية تكون مكبَّلة بالأهواء والشهوات والمطامع الشخصية، وهذه الحالة تستفحل اليوم في طول العالم وعرضه: المزيد من القوة وتعاظم القدرة، إلى جانب المزيد من ضعف الإرادة والمبادرة!.
إنّ نواة القاعدة القِيمِيَّة الأخلاقية، تتمثل في شفافية روحية تمنح حياة الفرد معنى جديداً، وتصبغ أنشطته كلها بصباغها، وهذه الشفافية، تستمد كينونتها من معين الإيمان بالله – جلّ وعلا – والصلة به، وإنّ الشفافية الفطرية التي يتمتع بها بعض الناس تظل مهددة بقتامة المعاصي، والقلق على المصير، وأوضار النزعة المادية؛ وهذا يعني أنّ الإيمان العميق والمصحوب بالالتزام بالسلوك الإسلامي يشكل الضمانة الأساسية لاستمرار التألق الروحي الفطري، والمكتسب من خلال الأنشطة العبادية المختلفة.
إنّ عماد الشفافية الروحية، هو حبّ الله – تعالى – الذي يستحق وحده كمال المحبة، فهو المتصف بجميع صفات الكمال، المنزَّه عن جميع صفات النقصان، وهو الذي أسدى الخير، وتكرَّم على عباده بما لا يحصى من النعماء: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (النحل/ 18).
هذه المحبة، لا تتحقق في فراغ، ولا ينفع فيها الادّعاء المجرد، وإنما هي إجلال لله – تعالى – ورجاء لما عنده، وخوف من عواقب المعاصي والمخالفات، إنّها استجابات وجدانية وسلوكية لمحبوبات لله من الأقوال والأحوال والأعمال، قال – سبحانه –: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) (المائدة/ 54).
وتلك الاستجابات هي الطريق إلى محبة الله – تعالى – لعبده، وحين تحصل تلك المحبة، فإن أخلاق العبد كلها تتغير، كما أن حياته كلها تمسي مغمورة بلطف الله ورضاه وتوفيقه على نحو ما ورد في الحديث القدسي: "ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه".
الإشراق الروحي شديد الحساسية، فلابدّ من مراعاته وتعاهده في إطار من الشريعة السمحة وآدابها على الصعيد الشخصي والاجتماعي، وبذلك وحده تتأسس القواعد القيمية كلها، تولد إمكانات التجديد الخلقي. إنّ أعظم المعارك يتم خوضها وحسمها في حجرات صامتة داخل الروح، ففيها تصنع الانتصارات والهزائم الكبرى، وأساس النجاحات الشخصية هو نجاح روحي في المقام الأوّل.

المصدر: كتاب العيش في الزمان الصعب

ارسال التعليق

Top