• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

القرار المكين

كريم نجيب الأغرّ

القرار المكين

◄قال الله تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ) (المؤمنون/ 13).

لقد رأينا في النص السابق أنّ النطفة تقع في الرحم، تُرى ما صفة هذا الرحم؟ وكيف سيستقبلها؟ إنّ النص التالي سوف يجيب على هذه الأسئلة.

هذه الآية تتضمن وصفاً لعلاقتين: علاقة الرحم بالجنين وعلاقة الرحم بجسم الأُم.

أ) بالنسبة لعلاقة الرحم بالجنين: فقد قال الله سبحانه وتعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ) ولم يقل ثمّ جعلناه في مكان، لماذا؟ لأنّ كلمة قرار لا تشير إلى مجرد مكان فحسب ولكن تشير إلى أكثر من ذلك: فهي تعني أنّ الرحم بمثابة مكان آمن لاستقرار الجنين[1] وراحته، فهو بمثابة مكان سَكَن للنطفة، جاء في لسان العرب[2]: "قرر: والقرار والقرارة من الأرض: المطمئن المستقر".

وليس مطمئناً فحسب، ولكن في غاية الاطمئنان، جاء في تفسير الألوسي[3]: "(في قَرَارٍ) أي مستقر وهو في الأصل مصدر من قرّ يقرّ قراراً بمعنى ثبت ثبوتاً، وأُطلق على ذلك مبالغة".

ومكين في اللغة العربية بمعنى ثابت، راسخ في مكانه. جاء في لسان العرب: "مكن... المَكِنة إنما هي بمعنى التَّمكُّنِ مثل الطَلِبَة بمعنى التَّطَلُّبِ والتَّبِعَةِ بمعنى التَّتَّبُع. يقال: إنّ فلاناً لذو مَكِنةٍ من السلطان، فسمي موضع الطير مَكِنةً لتَمكُّنه فيه؛ وتَمَكَّنَ كمَكُنَ..."[4].

والدليل من القرآن أنّ كلمة مكين معناها: ثابت، متمكن بقوة هو معنى الآية (فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ) (يوسف/ 54).

ومكين على وزن فعيل، وهذه الصيغة للمبالغة كخليق من خلق، جاء في تهذيب اللغة: "وقال الليث: وامرأة خليقة ذات جسم وخلق... وقال غيره يقال: رجل خليق إذا تم خلقه"[5].

ومن الكلام السابق نفهم أنّ مكين في هذا المقام يعني: في غاية التمكُّن، والرساخة والثبوت.

والثبوت هو للنطفة في الرَّحِم.

جاء في تفسير الألوسي[6]: (مَّكِينٍ) أي متمكن مع أنّ التمكن وصف ذي المكان وهو النطفة هنا على سبيل المجاز كما يقال طريق سائر"[7].

وهذا يعني أنّ النطفة متمكنة وثابتة بقوّة في الرحم.

كما نعلم جميعاً أنّ من طبيعة الجسم أن يطرد أيَّ جسم خارجي، ولكن ما يحصل هو أنّ الرحم يتهيّأ لاستقبال النطفة من جراء الهورمونات التي يفرزها المبيض. كما أنّ النطفة تحوي موادَّ تؤثر على جهاز المناعة عند المرأة فتضعفه، وبذلك يصبح الرحم بمثابة قرار لها[8].

إلى ذلك فإنّ من وظائف الرحم أن يمكِّن الجنين من مواصلة نموّه، فالرحم يستطيع أن يكبر آلاف المرات (من 2-3 سم 3 إلى 5000 سم 3 أي بازدياد مقداره حوالي 2500 ضعف) وهو بذلك يتكيف مع حجم الجنين في مختلف مراحله، ونتيجة هرمون البروجسترون[9] تكون تقلّصاته متئدة وقورة بحيث لا تؤذي الجنين.

وأيُّ مكان أكثر سكوناً من هذا المكان؟.

ب) وأما بالنسبة لعلاقة الرحم بجسم المرأة: فالآية تفيد بأنّ النطفة – أي نطفة الأمشاج التي انقسمت إلى عدة خلايا والتي تسمّى باللغة العلمية: (الكرة الجرثومية Blastocyst) – تستقر في مكان راسخ. جاء في تفسير السمرقندي[10] عند قوله تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ): "يعني في مكان حريز حصين" وفي تفسير أبي السعود[11]: "(في قرارٍ) أي مستقر وهو الرحم".

وجاء أيضاً في تفسير الألوسي[12]: "وجُوِّز أن يقال: إنّ الرحم نفسها متمكنة، ومعنى تمكنها أنها لا تنفصل لثقل حملها أولا تَمجّ ما فيها". فهو كناية عن جعل النطفة محرزة مصونة وهو وجه وجيه.

ملاحظات:

1-     يمكن اعتبار الرحم من الوجهة الفراغية في منتصف الجسم تماماً طولاً وعرضاً وعمقاً. وهكذا يصعب الوصول إليه ويعتبر محمياً بما فيه الكفاية.

2-     يحيط بالرحم تصفيح عظمي من جميع الجهات. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ حوض المرأة أوسع وأقصر من حوض الرجل، وبذلك يكون له دور أكمل في الدفاع عن الجنين.

3-     يُثبِّت الرحم كثير من الأربطة والعضلات وهي على نوعين: أربطة كاذبة، وأربطة حقيقية.

والأربطة الكاذبة سميت كذلك لأنها مكوّنة من انعطافات بروتينية، وليس لها صفاقات ولا عضلات، غير أنها تساهم مساهمة فعّالة في حفظ الرحم في محله، وهذه الأربطة هي:

·      الرباط الرحمي العريض: المكوّن من انعطاف بريتوني بالحوض، ويتصل بجسم الرحم من الأمام والجزء الأكبر من السطح الخلفي للرحم.

·      الرباط المبيضي الرحمي: الذي يربط بين المبيض والرحم ويثبِّت كلّاً منهما بالآخر.

·      الرباط الرحمي المثاني: الذي يثبّت الرحم بالمثانة من الأمام.

·      الرباط الرحمي المستقيمي: الذي يثبّت الرحم من الخلف بالمستقيم.

والأربطة الحقيقية مكوّنة من صفاقات وعضلات، وهذه الأربطة هي:

·      الرباط الرحمي المبروم: الذي يتصل من جهة بقرن الرحم من كلِّ جانب، ومن جهة ثانية بجبل الزهرة الواقع على عظم العانة، ويثبّت الرحم من الجهة الأمامية[13].

·      الرباط الرحمي الَعجُزي: الذي يثبّت الرحم بعظام العَجُز من الخلف.

·      الرباط الحامل للمبيض والرباط المبيضي: اللذان يثبّتان الرحم من جانبَيْه الأيمن والأيسر.

·      الباط العاني الرحمي المثاني: الذي يثبّت الرحم والمثانة وعظم العانة من الأمام.

·      الرباط الوحشي لعنق الرحمي المثاني: الذي يثبّت الرحم والمثانة وعظم العانة من الأمام.

·      الرباط الوحشي لعنق الرحم: الذي يثبّت الرحم من جانبَيْه الأيمن والأيسر.

4-  إنّ هناك توازناً ثابتاً بين الضغوطات المتولدة نتيجة عضلات الحجاب الحاجز وعضلات جدار البطن التي تدفع بالرحم إلى الأسفل وبين تقلّص عضلات العجّان التي تدفع بالرحم إلى الأعلى.

5-  إنّ الرحم هو عضو عَضَلي أجوف ذو جدار ثخين ومتين، سمكه سنتيمتران ونصف، مكوّن من ثلاث طبقات، أوّلها من الخارج: (الطبقة البروتينية Perimetrium) التي تغطي الرحم، وثانيها: (الطبقة العضلية Myometrium)، وثالثها: (الطبقة المخاطية Endometrium) وهي الغشاء المبطن للرحم.

وهكذا نفهم أبعاد كلمة "قرار مكين" التي تشير إلى كثير من الصفات الغيبية الدقيقة للرحم وللنطفة على وجه سواء. ويتبيَّن لنا الإعجاز العلمي الكامن وراء استعمال هذه الكلمة.

الهوامش:


[1]- جاء في القاموس المحيط لمجد الدين محمد – مادة "قرر" – ص592: "بالمَكان يَقِرَّ، بالكسر والفتح، قراراً وقُرُوراً وقَرّاً وتَقِرَّةً: ثَبَتَ، وسَكَنَ، كاسْتَقَرَّ وتَقَارَّ... والقَرَارُ والقَرَارَةُ: ما قُرَّ فيه، والمطمَئِنُّ من الأرضِ".

[2]- لسان العرب لابن منظور – مادة "قرر – ( ج11/ ص100).

[3]- تفسير الألوسي – (ج18/ ص13).

[4]- لسان العرب لابن منظور – مادة "مكن" – (ج13/ ص163).

[5]- تهذيب اللغة، (ج7/ ص16).

[6]- تفسير الألوسي، (ج18/ ص13).

[7]- وجاء في الكشاف للزمخشري – (ج3/ ص44): "القرار: المستقرّ، والمراد الرحم. وُصفت بالمكانة التي هي صفة المستقرّ فيها، كقولك: طريق سائر".

[8]- كتاب ولد طفل، د. لارس هامبرغر، ص64، بتصرف.

[9]- وهو هرمون يفرزه المبيض إلى الأسبوع السابع من الحمل ومن ثمّ يفرزه الغشاء المشيمي (المؤتمر الطبي الإسلامي الدولي، الإعجاز الطبي في القرآن، 25/ 9/ 1985م: د. جولي سمبسون).

[10]- تفسير السمر قندي، (ج2/ ص496).

[11]- تفسير أبي السعود، (ج6/ ص126).

[12]- تفسير الألوسي، (ج8/ ص13).

[13]- كتاب خلق الإنسان بين الطب والقرآن، د. محمّد عليّ البار، ص65-66 بتصرف. وكتاب الآيات العجاب في رحلة الإنجاب، د. حامد أحمد حامد، ص110.

المصدر: كتاب إعجاز القرآن في ما تخفيه الأرحام

ارسال التعليق

Top