• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

اللغة أساس الوعي

د. أفراح لطفي عبدالله

اللغة أساس الوعي
◄"إنّ اتساع القحف في الإنسان وزيادة حجم دماغه مرتبطان بقدرته على التفكير، وبذاكرته الحادة، وسعة وشدة إدراكه ومخزونه من المشاعر وتعلمه ومرونة الاستجابة واستعماله اللغة"[1]. ولعل نشؤ اللغة وتطورها لم يكن مستطاعاً إلا بعد أن بلغ الدماغ عند الإنسان وجهاز الصوت عنده وحاستا السمع والبصر درجة معيّنة من الارتقاء، حيث "عملت ظروف العيش الآخذة بالتطور على تحسين الأسس الفسلجية المخية للكلام... وهذه عملت بدورها إيجابياً على تحسين المخية الكلامية وفي مقدمتها الفصان الجبهيان والفصان الجداريان"[2]، هذا بالإضافة إلى الفصين الصدغيين اللذين تقع فيهما منطقة تسلم الصوت وتسمى منطقة الكلام المسموع، "أما المنطقة الجبهية الدنيا من المخ فهي مسؤولة عن الكلام المتحدث به، فالفصان الجبهيان الموجودان في القسم الأمامي الأعلى من القشرة المخية، إذن، يمثلان مراكز الكلام، أما إدراك اللغة وفهمها فإنّه يحتل المواقع الخلفية للمخ"[3]، وهذه المراكز تقع على الجبهة اليسرى للمخ حسب ما أعلنه عالم اللغة الفرنسي بيير بروكا (1824-1880) بمقولته الشهيرة "نحن نتحدث عن النصف الكروي الأيسر للمخ"[4]. ولا شك أنّ التطور قد حصل أيضاً، مع العضلات اللفظية التي باتت بمرور السنين تحت "إمرة المراكز العصبية المنظمة التي تناغم التعليمات التي تتلقاها من الإحساسات الخاصة بالعضلات في أطوار تشنجها"[5]. وعليه يكون القسم الأيسر للمخ والعضلات اللفظية مهيئين لفهم اللغة لا سيما وأنّ الإنسان قد جهز أيضاً بالمستلمات (الحواس) التي تنقل الظواهر المستلمة إلى أمكنتها المحددة من الدماغ ولا سيما مناطق الكلام، فالعصب المخي السمعي مثلاً ينقل الكلمات المسموعة إلى المركز اللغوي المختص بالكلمات المسموعة وليس إلى المركز الحسي السمعي العصبي عموماً، ويقابله العصب الحسي البصري الذي ينقل الكلمات المقروءة المرئية إلى المركز المخي الكلامي البصري وليس إلى المركز البصري عموماً، ذلك أنّه في المركز السمعي والبصري العصبيين أمكنة محددة للغة والكلام. وهي كما قلنا موجودة في الفصين الصدغيين اللذين يقعان في القسم الأمامي الأعلى، من القشرة المخية. وقد أثبتت الدراسات الحديثة تأثير النشاط العصبي لهذا القسم العلوي من القشرة الدماغية الذي يمثل الحياة العقلية في النشاط العصبي الأدنى الذي يمثل الحياة الانفعالية، حيث هنالك "تأثير متبادل بين النشاط المخي اللغوي... وبين النشاط المخي الحسي الذي تشترك فيه مع الإنسان الحيوانات الراقية الأخرى من جهة، وبين النشاط العصبي الأدنى من جهة أخرى"[6]... إذن، الدماغ مهيّأ لإنتاج اللغة بل وأنّه قد طور الأصوات أيضاً، فالجهاز العصبي تطور على نحو يجعل الأصوات أيضاً تتطور. فجاكبسون عندما لحظ "التغييرات الفارقة التي تنتج من الملامح المميزة كان قد أشار إلى أننا نستطيع التمييز بين (Sleep) و(Slip) كون الدماغ مهيّأً لتنظيم الأصوات في فئات فونيمية، فهو لا يقوم بتحليل اللغة من حيث هي تدفق مستمر من المدخلات السمعية بل يعطي تأويلاته للإشارات التي يسمعها"[7]. ويبدو أنّ الدماغ قد أصبح أكثر رقياً عندما تعلم الكتابة ما يعني وجود "مناطق جبهية جديدة وجمجمية جدارية جديدة أيضاً والقراءة تعني فهم الخطوط وحركاتها وإدراكها الأمر الذي يقودنا إلى القراءة، ولا شك أنّ القراءة تستوجب وعياً مسبقاً ينطلق من عضلات العين التي تؤدي إلى تقويم الأشكال على المستوى النظري"[8]. يتبيّن ما سبق أنّ اللغة هي العمود الفقري للتفكير وأنها تجسيد لعالم العقل كون التفكير والعقل يصوغان عالمهما باللغة. فاللغة هي أداة التفكير لصياغة أفكاره وأداة العقل لتوجيه فعالياته؛ فالوعي يمثل "الفكرة المحررة لفظاً والوعي عند الإنسان يعني التسمية وأن كل ما يخضع لقوانين النظام الأوّل المشابه للفكرة الحيوانية لا يصبح كامل الوعي إلا إذا انتقل إلى النظام الثاني مقولاً وفق قانون اللغة الخارجية الذي تعلمنا كيفية استعماله للتعبير عن فكرنا"[9]. ويشير شوشار إلى مسألة أساسية وهي أنّ الحقل اللغوي لا يتسم بالوعي فقط، فنحن نفكر دون أن ندري وهنالك تعبير داخلي إضافة إلى وجود حيز كبير من أفكارنا يبقى لا واعياً. فللاوعي إذا لم يخضع للفظ فهو يخضع للتعبير ويصبح ملفوظاً، المهم أنّ الإنسان طالما بقي يفكر "وطالما بقي عقله يعمل فهو محافظ على إنسانيته أي متمكن من اللغة الداخلية حتى ولو كان عقله معتماً أو فقد نظام الإشارات الثاني سيطرته ونفوذه"[10]. فاللغة إذن، لا تقتصر على نشؤ الأفكار بل على إدراكها وتداولها واللغة مرتبطة بالإدراك مما جعل القدرة على الخلق والابتكار من سمات الفكر الإنساني، وباللغة يكون الإنسان قد تخطى المؤثرات الحسية واستطاع أن يفهم معاني الرموز والدلالات كونه يستند إلى المنظومة الإشارية (اللغة) التي تجاوزت منظومة الحيوان الإشارية (الحسية). فمع اللغة بدأ النشاط العصبي الأعلى يرتقي إلى التعميم والتجريد اللذين بهما نرتقي إلى معاني الكلمات، وفسلجياً فإنّ الفكرة الجديدة أو المبتكرة تنشأ "عندما تقترن أو تتلقح أو تلتقي الارتباطات العصبية في المنطقة النشطة من القشرة المخية غير أنّ هذا الاقتران أو الخلق يحدث بشكل مفاجئ عند نضجه بين المراكز المخية اللغوية الموجودة في القسم الأمامي الأعلى من القشرة المخية، الأمر الذي يؤدي إلى اقتناص فكرة طرية أو صورة شعرية رائعة قبل أن تفر من الذهن، فيتم انبثاقها في حقل الفن بما فيه الشعر في حالة حدوث الاقتران العصبي بين المراكز المخية الحسية، وفي حقل العلم في حالة حدوثه بين المراكز المخية اللغوية. ويبلغ الصراع المخي أعلى مرتبة في الحالتين بين الخلايا المخية النشطة وبين الخلايا المخية التي ما زالت باهتة النور، وتظهر في مجرى هذا الصراع صفات مخية جديدة يجوز أن نسميها مخاض الإبداع الذي يتصف به العباقرة، وهي حالة خاصة من الصراع المرير الحاسم الذي يحصل بين المجاري المخية التي تحاول الاحتفاظ بها على نسق الصراع الذي يحدث بين عوامل دفع الجنين إلى خارج الرحم وبين عوامل الاحتفاظ به"[11]. وقد أورد بافلوف أنّ "الفكرة والانفعال جانبان متباينان للوعي أي لانعكاس الواقع الموضوعي في عقل الإنسان؛ فالفكرة من جانبها تعكس ما يحدث في العالم الخارجي من موضوعات وأحداث بصيغة لفظية، والدليل أن صدقها يتوقف على كونها إشارات لفظية تتطابق مع الموضوعات الخارجية التي هي انعكاس لها بعيداً عن المشاعر الذاتية للمرء، أما الانفعالات فالدور الأساسي لها هو تقويم دلالة الموضوعات التي تعكسها الأفكار بالنسبة للفرد. وترتكز الانفعالات والأفكار والعلاقات المتبادلة بينهما على النشاط العصبي الراقي الذي هو حصيلة نشاط نظم ثلاثة: النظام الحسي ونظام الكلام ومركزهما اللحاء ونظام الأفعال المنعكسة غير الشرطية ومركزه منطقة ما تحت اللحاء"[12]. ويركز بافلوف – كما هو معروف – على الأفعال المنعكسة الشرطية فهي الوسيلة للتعميم الراقي لوظائف الكائن، فاللحاء المخي يوسع من التعميم الراقي كلما تكوّن فعل منعكس شرطي جديد. بهذا الشكل نجد أنّ الإنسان قد أوجد له طريقة للتفكير جعلته ينتقل من الأشياء الخارجية إلى حياة العقل، من الحسي إلى المجرد وذلك بواسطة اللغة. فاللغة هي صورة الوعي والحضارات وقد جعلها نعوم تشومسكي عضواً، يقول: "إنّ ملكة اللغة يمكن اعتبارها بشكل معقول عضواً لغوياً بالمعنى نفسه الذي يتكلم به العلماء عن الجهاز البصري أو جهاز المناعة باعتبارها أعضاء جسمية؛ يفهم بهذه الطريقة أنّ العضو ليس شيئاً ما يمكن انتزاعه من الجسم تاركين البقية، إنّه منظومة فرعية من بنية أكثر تعقيداً ونأمل أن نفهم التعقيد الكامل بالبحث في الأجزاء التي تمتلك سمات مميزة وتفاعلاتها وأن دراسة اللغة تجري بالطريقة نفسها"[13]. وبالطريقة نفسها يمكن أن يكون العقل العضو الأكبر من تلك البنية المعقدة والتي تمتلك منظومات فرعية منها اللغة. لا شك أن مصدر الحصول على التفكير واللغة قد تكشف خلال الكلام السابق حيث الشكل الفسيولوجي للدماغ وما يحويه من استعدادات وتطور الإنسان بالطريقة الشكلية الملائمة للتكلم والبيئة المحيطة به، حيث تقوى الاستعدادات البدائية الفسيولوجية وربما تبتكر استعدادات جديدة (أعضاء) حسب الوظائف الناشئة بفعل الحاجة والبيئة، إذن، عقل الإنسان يمكن رؤيته فسيولوجياً من خلال تصنيف قدراته إلى صنفين: 1- القدرات الفطرية ذات الأساس البيولوجي وهذه تظهر مثلاً في سرعة تكوين الوصلات الانعكاسية الشرطية وهذه مشتركة بين الإنسان والحيوانات الراقية الأخرى لأنّ الشروط التشريحية متوافرة لنشؤ هذه القدرة. 2- القدرات الإنسانية الخالصة المكتسبة... معنى هذا أن علم النفس العلمي قد فقد وجهة النظر العقيمة التي تعتبر جميع أشكال النشاط العقلي وبخاصة الأكثر تعقيداً قدرات فطرية متحجرة"[14]. هذا الكلام الذي يشير إلى البيئة لا شك أنّه يؤشر إلى عامل حاسم في رسم صورة العقل النهائية وهي التغلغل تاريخياً في العالم المحيط والممارسة الاجتماعية، حيث تتحول الوظائف العقلية بالتدريج مع نمو الإنسان "الثقافي الجسمي إلى وظائف ذاتية داخلية أو سيكولوجية أو عقلية فردية"[15]، كون الإنسان وبفعل التطور التاريخي يكون قد تخطى المؤثرات الحسية الخاصة به إلى النشاط العقلي؛ وإنّ النشاط الأخير سيصمم في صورة فسلجية للعقل لا يمكنها أن تتجاوز دور البيئة الاجتماعية الذي ينعكس في المنظومة الإشارية للغة. "فالتجريدات اللفظية تنشأ من خلال الممارسة الاجتماعية عن الإثارات الحسية المباشرة التي تشير إلى الواقع"[16] والإنسان وفقاً لمبدأ التطور يعتريه نموان: نمو طبيعي يشمل جسده ونمو ثقافي يشكل عقله؛ وقد عرفنا دور النمو التدريجي في تشكيل العقل وسنؤكد مع فيجونسكي صاحب الفضل في ابتداع مبدأ التطور التاريخي أنّ "النمو الثقافي يمثل نمو الوظائف العقلية العليا التي لا تتطلب تغيراً في الطبيعة البيولوجية للإنسان... تتمثل الخاصية الأساسية للسلوك الثقافي في اختراع واستخدام أدوات العمل (الأعضاء المصطنعة للإنسان) وهذا يفسر لماذا يرتبط نمو الوظائف العقلية العليا بخلق أدوات سيكولوجية معينة تعدل الوظائف الأولية ويتمثل هذا النمو في الإشارات (الكلمات، الرموز، الرياضة، الخطط، الخرائط، الرسوم البيانية... إلخ) التي تؤلف الأدوات. وبمعنى آخر، الإشارات وسائط سيكولوجية للمثير ابتدعتها الكائنات الحية الإنسانية إضافة إلى موضوعات المثير التي تعمل خارج الإنسان"[17]. فخاصية الإنسان الأساسية المتمثلة بكونه اجتماعياً تجعلنا نفهم أهمية خلق الإشارات والألفاظ لكي يفكر عبرها وبالتدريج تشكل العقل.

كنتيجة فإنّ الصورة الفسلجية للعقل بعد الكشف عن الدماغ قد أخذت بعداً جديداً لا يعلن عن أعضاء جاهزة كما هو شغل معظم الفلاسفة، بل أنّه قد أعلن عن العضو المسؤول عن تشكيل العقل وهو الدماغ. ومع هذا بقيت الطروحات العلمية غامضة في هذا الشأن، فالدماغ البشري معقد ومدهش والباب مفتوح لمعرفة الأكثر حوله... لكن رؤية عضوية للعقل مع العلوم العصبية تأتي بتلك الصورة المستقاة من فعل التفكير لتطرح عناصر (أعضاء) لابدّ منها لتشكيل العقل وهي "الواقع المحسوس والحواس والدماغ والمعلومات السابقة"[18].

الهوامش:

[1]- سفج، التطور، ص204. [2]- جعفر، اللغة، ص57. [3]- راجع كرستين، المخ، ص85. [4]- نفسه، ص91. [5]- شوشار، بول، اللغة والفكر، ت: صلاح أبو الوليد، منشورات ماذا أعرف، بدون سنة، ص54. [6]- جعفر، اللغة، ص39. [7]- كرستين، المخ، ص87-88. [8]- انظر شوشار، اللغة، ص57. [9]- نفسه، ص68. [10]- شوشار، اللغة، ص72. [11]- انظر جعفر، اللغة، ص108-108. [12]- انظر ويلز، هاري، بافلوف وفرويد، ت: شوقي جلال، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1975، ص160. [13]- تشومسكي، نعوم، اللغة والعقل واللغة والطبيعة، ت: رمضان مهلهل سدخان، دار الشؤون الثقافية، العراق، بغداد، 2005، ص19. [14]- جعفر، اللغة، ص83-84. [15]- نفسه، ص100. [16]- ويلز، بافلوف وفرويد، ص161. [17]- فيجونسكي، ل. س، التفكير واللغة، ت: طلعت منصور، مكتبة الأنجلو المصرية، ط1، 1976، ص13-14.

[18]- البدراني، هشام، العقلية الإسلامية، بناؤها وتكوينها، بغداد، 1990، ص21.

  المصدر: كتاب (الفلسفة: فسيولوجيا العقل وعلم تشريح الأفكار)

ارسال التعليق

Top