• ١٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

نظرات في رحاب الأخلاق في الإسلام

د. أسعد السحمراني

نظرات في رحاب الأخلاق في الإسلام

إنّه من العسير أن يحيط إنسان بالقيم الأخلاقية الإسلامية في القرآن والسنّة، وتاريخ الفكر الإسلامي، وإنما سنحاول قدر الإمكان تلمّس طريقنا، وتفتيح الأنظار على قبس من شعلة أخلاق الرحمة في الإسلام.

إنّ الأخلاق في الإسلام تقوم على قاعدة الإيثار وترفض الأثرة، وتحضّ على الجماعية في الغايات، وتحارب الأنانية، وتدعو إلى تزكية النفس بالفضائل، والسلوك الحسن، وتنذر من يشوّه طهر النفس بالميل إلى الهوى والشهوة.

فالتسامي بالنفس عن المحسوسات، والزهد في الدنيا وهي متاع الغرور أمر لابدّ منه لتحقيق إنسانية الإنسان، وجعل الفضيلة سمة أساسية في سلوكه. وفي هذا كان قول الله تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس/ 7-10). والقسم هنا هو بالنفس وهو القسم بالعنصر الأهم في تركيب الإنسان، فالإنسان بنفسه وليس ببدنه.

لقد خلق الله تعالى النفس وعدّل قواها مع اختصاص كلّ عضو أو قوة بأمر ما، وأعطاها حرية الإرادة والاختيار لتسلك أحد طريقين، وبيّن لها ميزة كلّ واحد منهما. فإما أن تسلك طريق التقوى والفضيلة فيكون لها حسن الثواب، وإما أن تسلك طريق الفساد والفجور فيكون لها العقاب الشديد على ما فعلت.

فأمام الإنسان أحد طريقين: الفلاح والغُنْم إذا زكّى نفسه وسما بها فوق نوازع السوء، أو الخسران المبين والغُرْم إذا انحط بالنفس عن مستوى الفضيلة التي هي سمة إنسانيتها فأغرقها في المعاصي والفجور.

تقود النفس الزكية صاحبها إلى التآلف مع غيره وفق قاعدة "التآخي" التي سنّها الإسلام والتي يُفترض في الإنسان أن يحكّمها في كلِّ سلوك من أفعاله. وهذه القاعدة تنطلق من أنّ الإنسان ليس وحيداً في هذه الدنيا بل قد أوجده الله تعالى عضواً في جماعة عليه أن يعمل من أجل خيرها ليكون له بعض من هذا الخير، ومن أجل سعادتها فسعادته لا تتحقق إلا من خلال سعادة الجماعة. وحتى يتحقق هذا الأمر يجب على الإنسان أن يسارع بالخيرات وأن يقدّم كلّ مساعدة، ويفعل كلّ برّ يمكنه القيام به، وبالتالي فإنّ الانفراد ليس مستحباً، ومن غير المقبول اعتزال الناس، فالقاعدة الشرعية هي: "من يخالط الناس ويتحمّل أذاهم خير ممن لا يخالط الناس ولا يتحمل أذاهم".

إنّ قاعدة التآخي في الإسلام تكون بأن يحب الإنسان غيره لوجه الله دون ابتغاء نفع أو مصلحة، وأن يحب لغيره ما يحب لنفسه، وأن يقدم العون لغيره لأنّه أخ في الله، ولهذا كان الخطاب في الإسلام: يا أخ. لأنّ التآخي في الله يصبح رحماً واصلة بين الناس، والصلة في التآخي لها صفة الثبات في كلِّ حال وزمان ومكان.

وعلى قاعدة التآخي أسّس النبيّ محمّد (ص) روابط جماعته الأولى في المدينة المنورة يوم اقتسم الأنصار والمهاجرون كلّ ما يملك الأنصار وتآخوا في الله أخوين ولم يكن الدافع إلى ذلك سوى الأمر الصادر من النبيّ. ولقد عرّفهم الله تعالى بأنّ الأخوة نعمة من الله جاءت تشدّ أواصر الصلة بين العرب بعد طول عهد التنازع والاقتتال، ولقد جاء الخطاب الإلهي لهم: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) (آل عمران/ 103).

إنّ قاعدة "التآخي" تقود إلى سيادة أخلاق الخير وسط الجماعة، وتشجع الأفراد على التضحية، وعلى أن يعمل كلّ واحد وفق قاعدة: إنّ كلَّ ما يملكه هو من أجل الجماعة حتى لو تنازل أحياناً عن بعض ما هو خاص. وبناء على ذلك فإنّ الإسلام يمقت الأنانية، ولا يقبل الإنسان الذي يحاول الاستئثار بكلِّ شيء دون غيره، لأنّ في مثل هذا السلوك هلاك الفرد والجماعة، وفيه النتيجة السيِّئة المؤدية إلى تشويه إنسانيته، وإبعاد صفة الفضيلة عنه. إلى هؤلاء الأنانيين يأتي استفهام إنكاري في الآية الكريمة: (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنْفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا) (الإسراء/ 100).

توجد في الإنسان نزعة طبيعية إلى الشهوة، وتحقيق اللذة الحسّية، وفيه أيضاً قدرة عاقلة على ضبط هذه الطبيعة وقيادة النفس إلى السمو الروحي الذي يحقق الفضيلة. وإن متبعي الملذات الحسية يتصفون بالجشع بحيث لو ملكوا كلّ مستودعات الرزق وأسباب الرحمة لقالوا: هل من مزيد. وإذا طلب منهم أن يضحّوا بشيء مما يملكون أظهروا البخل الشديد، وتفنّنوا في الحديث عن الفقر متناسين أنّ الله تعالى هو خير الرازقين، وهو كافل عباده ومقسّم الرزق بينهم، ومتغافلين عن انّه بعد هذه الحياة الدنيا حياة هي خير وأبقى لن يسعد فيها عبيد الشهوات.

لقد جاء في الحديث الشريف: "عن ابن عمر (رض) قال: أخذ رسول الله (ص) بمنكبي وقال: كن في الدنيا كأنّك غريب أو عابر سبيل"[1].

إنّ الأساس في الأخلاق الدينية أنّ الدنيا هي ممرّ إلى الآخرة، لذلك يكون الاهتمام باللذات الحسية أو المطالب والرغبات الجسدية بما يكفل بُلغة العيش، ويتوجّه الاهتمام الأكبر إلى تزكية النفس بالعمل الفاضل، وبالمعرفة والحكمة، وبالتزام القيم الأخلاقية الخيّرة البعيدة عن التعلّق بالشهوات.

ومع أهمية توفير المطالب الضرورية لقوام حياة الإنسان إلّا أنّ الإسلام ذمّ الميل الكلي والتعلق بالشهوة، لأنّ العفة والترفّع هما الأنفع للإنسان لكي ينال مرضاة ربّه ويحصل له الفوز بالجنّة التي أعدّت للمتقين. وعن هذا الأمر جاءت الآية الكريمة: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران/ 14).

خضع الإنسان لامتحان قوي هو إيجاد شهوة فيه، وشوقه لتوفير كلّ مطالب هذه الشهوة من طعام وشراب ونكاح وبنين وثروات متنوّعة ومقتنيات مختلفة، وهنا وُضع الإنسان أمام الخيار والإرادة، فإما أن تجذبه هذه الشهوات فيغرق في مادّية جوفاء، وإما أن يتصرّف بمنتهى العفّة مما يكسبه أخلاقاً سامية توصله إلى نتيجة أهم هي مرضاة الله، وحسن استقباله للإنسان في اليوم الآخر.

لكن الأخلاق الإسلامية لا تفرض على الإنسان التقتير، أو الكبت، أو فرض نظام تجويع على نفسه، أو التبتل، فهذا ليس من أخلاق الإسلام الذي أمر بالوسطية في الأمر كلّه، ودعا الإنسان لتحصيل الطيّب الحلال من زينة الحياة الدنيا. وقاعدة الوسطية جاءت تربط بين سمو الروح والفكر ومتطلبات البدن والحسن وهذا المنهج في الاعتدال جاء في قول الله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص/ 77).

تتضح في هذه الآية الكريمة منهجية السلوك البشري، وهي منهجية يطلب فيها من الإنسان أن يكون عمله كلّه بقصد نيل الثواب الأخروي؛ أي خالصاً لوجه الله فلا يتبع أي عمل بالمنّ أو الأذى، ويكون سعيه في كسب نصيبه من الحياة الدنيا بعيداً عن نشر الفساد، فلا يسلك أي سبيل معوجّة من أجل تحصيل مطلب ذاتي، مهما كانت درجة هذا المطلب، لأنّ الإنسان، المؤمن المتصف بالفضيلة لا يفعل إلا أفعالاً طيّبة مهما اعتراه في سبيل ذلك ولا تستهويه الخبائث مهما حقّقت من لذة آنية. فالقاعدة الأخلاقية المؤمنة يضبطها حكم الآية الكريمة: (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة/ 100).

إنّ ما يقوم به بعض الناس من الفساد والفعل الباطل الذي يصنّف في خانة الرذيلة يعود عليهم، وهو مهما زاد ونما لا يكون بحال من الأحوال في موقع ما يدعو إليه الله تعالى من الإصلاح والأفعال الخيّرة.

إنّ للأخلاق قيمة لا يدانيها شيء آخر في التشريع الإسلامي، لأنّها تحقّق الصلاح، والرحمة، والتآخي والمحبة، وشتى أنواع الفضائل، وتلغي الفساد، والظلم، والتباغض، والكراهية، وشتى أنواع الرذائل.

لهذا وصف الله تعالى النبيّ (ص): (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم/ 4)، وقال النبي (ص): "بُعثت لأتمم حُسن الخُلق"[2]. وعدّ عليه الصلاة والسلام الخلق من مقومات الكمال الديني عند المسلم حيث جاء في الحديث الشريف: "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلقاً"[3].

الهوامش:


[1]- رواه البخاري.

[2]- رواه مالك بن أنس وأحمد بن حنبل.

[3]- رواه أبو داود وأحمد بن حنبل.

المصدر: كتاب الأخلاق في الإسلام والفلسفة القديمة

ارسال التعليق

Top