• ٢٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

المتاجرون مع الله

ماجدة محمّد شحاتة

المتاجرون مع الله
      نفوسهم تسخو بالعطاء وقضاء الحاجات دون قوانين تضطرهم إلى ذلك

التجارة مع الله سبحانه وتعالى قد تكون بالنفس، وقد تكون بالمال، وهما غاية ما يملكه الإنسان.. وفي هذا المقال نتحدث عن أدب التجارة مع الله بالمال، وكيف تكون؟ وما أوصاف المتاجرين الصادقين مع الله بأموالهم؟ لاسيّما مع تفشي حب المال، وعشق جمعه، والضن بإنفاقه في سبيل الله.. في هذا الزمان.

الذين يتاجرون مع الله سبحانه وتعالى بأموالهم هم أناس فقهوا قوله، ووثقوا بوعده، تخلصوا من جاذبيات الحياة، فعلوا بنفوسهم عن الشح، والبخل، والحرص، وكلّ معنى يدور في هذا الفلك من معاني الضن، فنفوسهم سخية قد استعلت على الأرقام الحسابية، لأنّهم آمنوا بأنّ الحقّ سبحانه وتعالى الباسط القابض يرزق من يشاء بغير حساب، أي أنّه كما ينتفي الحساب في مجيء الرزق، فكذلك هؤلاء تسخو نفوسهم بغير حساب.

قد يظن البعض أنّ ذلك مثالية لا يحتملها الواقع الذي نعيشه، وهذا الظن إنما يأتي لقلة في الثقة بما عند الله، أو لغلبة طبع شح النفس وبخلها، أو لغلبة الاهتمام بالدنيا ومخافة الفقر، أو هو على كلّ الأحوال بُعدٌ عن كلِّ معاني الإحسان التي يحبها الله الذي يتقبل من المحسنين.

إنّ الثقة بما عند الله، والطموح إليه، والرغبة فيه، والحرص عليه كلِّ ذلك يجعل المتاجرين مع الله يقبلون على تجارتهم، عفو نفوسهم، وتلبيةً لما وقر في قلوبهم، فكلّ أمرهم لله يشترون الجنة ببذلهم، لذا فليس عندهم فرق بين رخيص وغال.

انظر إلى صهيب (رض) وقد اشترى نفسه ودينه ومقامهُ مع الرسول (ص) بكلِّ ماله، بل بكلِّ ما يملك من مال ومتاع يفتدي بهما نفسه من براثن الوثنية والشرك، ويستنقذ إيمانه من مواطن الكفر مقبلاً على الهجرة لله ورسوله، إذ يرخص في سبيلها كلّ ثمين.

وهنا تتضاءل الأرقام فلا تكون لها قيمة، وتتوقف الحسابات فلا يكون لها معنى أو دلالة، لأنّ ما عند الله خير وأبقى، فإذا تغلغل هذا المعنى في النفس فإنّه لا حاجة لضرب الأخماس في الأسداس لأنّ الجزاء إنما يكون جزاءً غير محدود.

وللمتاجرين مع الله بأموالهم خصال كريمة رفيعة، فهم يدركون أنّ للجنة ثمنها، وأنها سلعة غالية لا يُقبل عليها إلا مشترٍ قادر، وقبل ذلك مشترٍ راغب، تملأ الرغبة نفسه وتشع بين جنباته، وهمه: بضاعةٌ نصب عينيه شراؤها بكلِّ غال، ولا تكاد تفارق فكره ونفسه، وهو يتحين كلّ فرصة فلا يدعها تفوته.

ومشتري الجنة – الذي يتاجر مع الله لأجلها – لا تعنيه عوالم الأرقام وجدوى اقتصادات أمواله، إنما يعنيه إخلاص الوجه لله سبحانه، والصدق مع الله ليصدقه الله.

أرأيت إلى ذلك الأعرابي الذي سرى الإيمان من نفسه مسرى ثبات ويقين، إذ جاء في السيرة أنّ الرسول (ص) أرسل إليه نصيبه في غزوة، فنهض (رض) إلى رسول الله مستنكراً ثمن جهاده وبذله، لا لقلته أو كثرته، ذلك أنّ الأرقام في حسابات هؤلاء الحريصين على الجنة منتفية تماماً، ولكنه نهوض المستعلي بإيمانه على كلِّ ما يظن أنّه قد لا يبلّغه غايته في الجنة فيقول قولته: "يا رسول الله، والله ما على هذا اتبعتك – أي ما وصله من نصيبه في الغزوة – ولكن اتبعتك على أن أُرمى هاهنا – وأشار إلى حلقه – فأموت فأدخل الجنة".

ويصدق الرجل فيصدقه الله ويشهد رسول الله على أنّه شهيد.. فيا لها من جنة، ويا له من حسن مآب.. ويا لقزامة أولئك الذين يمسكون فلا يكون لهم إلا دعوة بغلس الليل: اللّهمّ أعطِ ممسكاً تلفاً.. ما أيقنوا أنّه ما نقص مال من صدقة، وما غاض مال من قرض مع الله، وما قل مال من فضل يسع المسلمين، تُشترى به جنة عرضها كعرض السماوات والأرض.

 

سخاء دون انتظار مقابل:

والمتاجرون مع الله تسخو نفوسهم دون حاجة إلى معرفة بما وراء الحاجات، فحسب الواحد منهم أن ينمي إلى سمعه حاجة أو ضائقة بأخيه، وهو يلتمس مواضع الحاجات ويتفقدها لئلا تفقده مفرِّجاً ومعيناً وساعياً فيها، وهو غير متردد فيما يعطي بل تطمئن نفسه إلى ما أعطى، ولعله سعى إلى التجارة مع الله سعياً، ليكون له في الجنة موضع قدم.

انظر إلى ذلك الصحابي الجليل – كما قصت السيرة – يرنو بسمعه إلى أناس يتحدثون عن نخلة في الجنّة يعد بها رسول الله (ص) صاحب النخلة المائلة على بيت جاره، فلا ينتفع بثمرها وإنما يأكله صغار جاره المسلم، ولا حيلةَ في فض التنازع إلا أن يعفو صاحب النخلة، فيأبى فيغريه (ص) بتركها وله في الجنة مثلها فيأبى ثانية، ربما كانت هي متاعه في الدنيا الذي يملكه فتتردد في نفسه أن تسخو بها، هنا يسعى الحريصون على التجارة مع الله يرجون الآخرة بما لديهم من متاع الدنيا فهم أبعد نظراً وأسخى نفساً، وأطول يداً، وهم خبروا الآخرين، وسبروا غور نفوسهم، فلتكن المقايضة على متاع دنيوي بمتاع دنيوي سخي يفوز بعدها بتلك النخلة التي في الجنة.. نخلة في الجنة ربما رآها قصار النظر شيئاً يسيراً ولكن من يضمن ولو ورقة من شجرة في الجنة؟.

ولأنّ المتاجرين مع الله هم وحدهم الذين يدركون قيمة الجنة، وثمنها، فكلّ شيء من متاع الدنيا في سبيلها زهيد رخيص، وهكذا يقبل الصحابي الجليل على صاحب النخلة فيشتريها منه ببستان كبير ويقدمها لرسول الله (ص) طامعاً وراجياً أن يفوز بنخلة الجنة، فيعده (ص) بها، فتقر نفسه، ويجد في ذلك أربح وأكسب تجارة تاجرها في حياته.. فهل يعي الممسكون؟.

 

إخلاص لله وحده:

والتجارة مع الله فنٌ لا يجيده إلا كرماء النفس الذين جبلوا على حب العطاء بلا تفكير إلا أن يصدقوا الله ويخلصوا العطية فلا تكون رياءً ولا سمعة، والمال عندهم لا قيمةَ له، فقد تنزهت نفوسهم عن التعلق به، وهم ليسوا في كلِّ الأحوال أغنياء أثرياء، بل قد يكون الرجل منهم فقيراً لا يملك إلا قوت يومه فيجود به سخية نفسه.

انظر إلى عليّ بن أبي طالب (ع) يجود بما لديه من طعام على حبه ورغبته فيه، وحاجته إليه، فيطعمه مسكيناً ويتيماً وأسيراً، فلا يكون الجزاء إلا أن يقيه الله ومن مثله شر يومٍ عبوس قمطرير، وتكون الجنة فلا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً.

سبحان الله.. يا للأسخياء البررة من حسن الجزاء.

وانظروا إلى رجلين من صحابة رسول الله (ص) اختلفا فيما لديهما، وتقاسما السخاء والتنزه عن المال عندما يكون سبب نقيصة أو دخن يردي النفس، ويهلكها.

يدخل الصحابي الفقير، ورسول الله يجلس إلى غني – كما جاء في الروايات – يتخذ الفقير مجلسه حيث الغني، فما كان من الأخير إلا أن لملم أطراف ثوبه، فينظر الرسول (ص) قائلاً: "هل خفت أن يصيبه بعض غناك، أم يصيبك بعض فقره؟!"، فيبتسم الغني قائلاً في غير تردد: "إن كان ذاك يا رسول الله فوالله إنّ له نصف مالي"، فيدير رسول الله (ص) وجهه إلى الفقير قائلاً: "هل قبلت؟" فيرد الفقير أيضاً وبدون تردد: "لا يا رسول الله!" فيستفسر (ص) عن سبب رفضه مثل هذا العرض المغري من الغني، فيكون ردُّ الفقير ملجماً لكلِّ أولئك الذين يتصورون أنّ العطاء إنما يكون عن غنى وسعة، وزيادة مال.. يقول الصحابي الفقير (رض): "أخشى إن قبلت أن يصيبني ما أصابه عندما جلستُ إلى جواره".

ما أروع تلك النفوس الزكية وما أسرعها إلى خلع لباس الدنيا حتى لا يهلكها.. فلا نامت أعين الأشحاء.

 

تجاوب مع البر:

والذين يتاجرون مع الله ليسوا في حاجة إلى أسباب تدفعهم لهذه التجارة إلا الصدق مع الله والإخلاص له، والفوز بما عنده، وهم لهم فطرٌ تتجاوب مع الخير حيثما يكون، وتستجيب لكلِّ أنواع البر أنى أرشدت إليه، فهي لا تلتمس ذريعة من فعل السابقين، أو قدوة الأولين وهي لا تنتظر أن تسخو بعد تأكيد من ثقة يوثق به، بل تميز الخبيث من الطيب، وتستشف الخير فيما يعرض عليها وتقبل عليه، وهي لا تنتظر القوانين التي تجبرها على البر جبراً، أو تضطرها إليه اضطراراً، ولكنها إلى الحقِّ أسرع، وإلى التجاوب مع كلّ ما كان من البر أسبق.

انظر – أخي – إلى صاحب العمل وقد نسي عامله أو أجيره أجره الذي كان عليه أن يأخذه، بالطبع لم يسقط من ذاكرة صاحب العمل أجر عامله ولم يحفظه له عندما يلقاه يؤديه إليه ويغيب العامل ولم يحفظه له عندما يلقاه يؤديه إليه ويغيب العامل غيبة طويلة، يعود بعدها فماذا يكون المتوقع مع أمثال أصحاب الأعمال في عصر أثرياء الطفرة؟!.

توقع كلّ شر وأمثلهم طريقة سوف يحاول أن يتذكر ليعطي عامله وهو يحس بأنّه متفضل عليه، فليس معه ما يثبت حقه من سنوات، ولكن مع المتاجر مع الله تختلف التوقعات، فلا يكون أداء الحقّ عن طيب نفس سوى أدنى درجات السخاء بالحقِّ إبراءً للذمة، وأمثلها أن يتاجر صاحب العمل بمال أجيره كما يتاجر لنفسه فيربح مال الأجير ويتضاعف، وتتنزه نفس صاحب العمل عن أن تتوقف عن المتاجرة بمال الأجير، وتحقيق أرباح متضاعفة تُحسب للأجير يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام، ليعود الأجير فيؤدي إليه ماله وكلّ ما حققه من أرباح لقاء استثمار صاحب العمل له.

ولا غرو أن يتعجب الأجير العامل فإنّه أمام تصرف فريد لم ولن تشهد الدنيا مثله إلا مع مثل هذا الرجل الذي أعطى عامله عوائد أجره المتروك عنده، فلا تطمع فيه نفسه، ولا تجتزئ منه شيئاً، بل تجود به كلّه لا لشيء إلا لوجه الله سبحانه وتعالى، فما رغبت في شيء سوى ما عنده، وما اضطرها أحد لمثل ذلك التصرف إلا الرغبة فيما عند الله، وتصدق النية فيصدقها الله، وينجو بها صاحبها من صخرة الغار يحركها الحقّ سبحانه وتعالى جزاء ما أخلص.

فأي روعة تلك التي تتسم بها مواقف المتاجر مع الله؟ يا لبؤس أصحاب الأعمال في زماننا.. أولئك الذين يتاجرون مع الدنيا ليربحوا.. وتتضخم ثرواتهم من كد وعرق إخوانهم الذين يعملون بمصانعهم أو متاجرهم.. فلا يوفونهم الحقوق إلا مبخوسة، لا تكاد تصمد أمام أعباء الحياة الكريمة.

ألم نقل إنّ الأسخياء الأتقياء الذين يتاجرون مع الله وحده ليسوا في حاجة إلى قوانين تضطرهم إلى بذل الحقوق اضطراراً؟.. ألم نقل إنّ المتاجرين مع الله تتجاوب نفوسهم، وتستجيب قلوبهم لكلِّ أنواع البر؟

أرأيت – أخي – مثل صاحب العمل هذا يستثمر لعامله أجره، ويعطيه عائده سخية به نفسه؟، فما بال أصحاب الأعمال في زماننا يُكرهون كرهاً على دفع مكافأة، أو هبة لعمالهم يواجهون بها تكاليف الحياة بعد تركهم العمل لأي سبب من الأسباب ويرون ذلك هماً ثقيلاً لم يؤت به سلطان من شريعة أو عقيدة؟! وهل البر دائماً بحاجة إلى ذريعة من قانون.. أو شريعة؟ ويلٌ لهم ثم ويلٌ لكلِّ الممسكين الذين يضربون الأخماس في الأسداس طمعاً في كسب وفير.. على حساب كلّ معنى جليل.. ويلٌ لهم من دعوة بغلس الليل لا يهتمون بها: "اللّهمّ أعطِ ممسكاً تلفا".

وقديماً قال الشاعر:

ومن لم يسخ بما يسخو إلاله به *** فإنّه أحمقٌ بالحرص ينتحر

 

 

إضاءة...

قرار بالسعادة

 

السعادة، وراحة البال، والطمأنينة، والسكينة، كلها أمور لا تُشترى ولا تُباع، بل تُمنح من مالك السماوات والأرض.

ولا يمنحها الرب إلا لمن تجرد له وحده، وعمل له وحده، وكان همه الآخرة، وأخرج الدنيا من قلبه وجعلها بيده، ولم ينفق شيئاً من الوقت في غير طاعة الله، وأدرك أنّ الدنيا زائلة، وأنّ مكوثه فيها محدود، فسابق الزمن، ليملأ صحائفه قبل فوات الأوان، وكان في شغل شاغل لتنقية قلبه من الشوائب، وإزالة العوارض التي تمنعه من الانطلاق في مدارج السالكين.

يفرح أحد هؤلاء، ويمتلئ قلبه بالسعادة فيصيح: "لو يعلم الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف".

ومخطئ من يظن أنّه يحصل على السعادة بالمال، أو العقار، أو الدواب، أو البناء، أو الأولاد، قال تعالى: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد/ 28)، فلا سعادة إلا بالاتصال برب السماوات والأرض، ونحن أصحاب القرار، إما أن نطلب السعادة أو الشقاء، وإذا اخترنا السعادة فلابد من أن نسلك أسبابها.

 

المصدر: مجلة المجتمع/ العدد 1398 لسنة 2000م

ارسال التعليق

Top